مقالات رأي

ميراث الحروب في الشرق الأوسط يلهم النحات والأكاديمي العراقي معتصم الكبيسي

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

مستمدّا إلهامه من حضارة بلاد النهرين، تعيد أعمال النحات معتصم الكبيسي الفنية إعادة بناء المحن والمصائب التي عانت منها دول الشرق الأوسط، ولاسيما موطنه العراق، في العصر الحديث. 

يقول «الكبيسي» إنه يعتمد على تاريخ نهري دجلة والفرات، اللذين ازدهرت حضارة بلاد ما بين النهرين على ضفافهما، لإنتاج منحوتات تضمّ مساحة لـ«الخوف والفوضى والأمل» في نفس الوقت. وتضمّ منحوتاته المعروضة الآن في كلية الفنون الجميلة والتصميم بجامعة الشارقة، حيث يعمل في التدريس، أعمالًا لتجسيدات في طريقها إلى المجهول.

يعتبر معرضه، المُقام وسط مدينة الشارقة، بمثابة رحلة عبر الأزمنة الصعبة. ويتردّد على معرض «الكبيسي» الدائم الزوار وعشاق النحت الإماراتيون المهتمون بالجمال، واقتناء المنحوتات البرونزية لتزيين قصورهم. ويقول «الكبيسي»: «النحت حياتي، لكن الفن ليس تجارة بالنسبة لي. أريدُ أن أنقل رسالة وأحكي قصة أرى أن وسائل الاتصال الأخرى فشلت في إيصالها».

أجواء السجن

يسود المعرض جوٌ يذكّر بالسجون. وعندما سُئل عن سبب كون الأجساد المثيرة للفضول، ذات الأنوف والأذرع والبطون المنتفخة، غريبةً إلى هذا الحد، أشار إلى تاريخ وطنه والشرق الأوسط الكبير. وقال: «الأجساد، والخيول، والكراسي، والرؤوس عديمة الملامح والمتشنجة، والفئران الفضولية، موجودة هنا لنتعلم منها أشياءً، ونتعمّق من خلالها في غموض المعاني التي تنقلها».

اقرأ أيضًا: («طرازين».. مشروع رقمي لتوثيق التراث الفلسطيني في فن التطريز).

https://www.bue.edu.eg/

وتصور بعض المنحوتات اللاجئين، والنازحين في قوارب مكتظة، فيما يتكدّس البعض في مكعبات. قد يتصور المشاهدون شكلًا من أشكال الجحيم، أو بالأحرى عالمًا افتراضيًا جهنميًا. وعن ذلك، يقول: «هذا صحيح، قد تتفاجأ بما تراه. ولكن بمجرد أن تدرك الواقع اليومي للأوضاع في بلدي، وربما في بلدان أخرى في المنطقة، فإنك تدخل في حوار سلس مع تماثيلي».

الاستبداد وضحاياه

ترمز معظم أعمال «الكبيسي» الفنية إلى الاستبداد، لكنها تتحدث، في الوقت نفسه، عن ضحايا الحروب، والعقوبات، والقادة الأقوياء الذين يتصرفون ويحكمون من دون مساءلة. وعلى الرغم من شكلها الاستبدادي، إلا أن المنحوتات تهمس بأصوات أعدادٍ كبيرة من الضحايا الذين تحملوا وطأة الأحداث الكارثية، والمأساوية في المنطقة. وأضاف: «إنها [المنحوتات] رموز. وهي لا تعبّر عن أي شيء عندما يتم إخراجها من سياقها التاريخي وواقع الحياة اليومية. وعلى المرء أن يقرأ النص النحتي للأعمال الفنية ليكتشف أسرارها».

«النحت حياتي، لكن الفن ليس تجارة بالنسبة لي. أريدُ أن أنقل رسالة وأحكي قصة أرى أن وسائل الاتصال الأخرى فشلت في إيصالها».

معتصم الكبيسي

تصور «فزّاعته» المثيرة للتفكير الانسحاب الفوضوي للقوات الأمريكية من أفغانستان في عام 2021. وهي تحاكي تمثال الحرية في نيويورك، لكن الرسالة والصوت مختلفان تمامًا. تبدو الأشعة الموجودة في الهالة التي تعلو رأس تمثال الحرية مكرّرة، لكنها أشبه بالأشواك. وبخلاف أشعة تمثال سيدة الحرية السبعة، التي تستحضر الشمس التي تنير قارات الأرض السبع، فإن أشعة «الكبيسي»التسعة تأتي على شكل قرون تنبئ بالدمار والخراب.

وبينما يقال إن تمثال الحرية يصور آلهة الحرية الرومانية وهي تحمل شعلة فوق رأسها بذراعها اليمنى، فإن الذراع اليسرى في تمثال «الكبيسي» تضغط بقوة على الكرة. وجه التمثال عديم الملامح، برأس مصغر يدل على تفكيرٍ متهور، وأرجله بدون أقدام تشير إلى مستنقع. ويوضح «الكبيسي»: «لقد غيّرتُ الأشعة إلى قرون لأن الأخيرة تعطي معنى مجازيًا خبيثًا في حضارات الشرق المختلفة، بما في ذلك بلاد النهرين. الفزاعة مليئة بالمعاني الرمزية للقوة المهيمنة التي تسبب الدمار في أعقاب غزواتها».

دمار على يد الفئران والقادة الأقوياء

يُعاد إنتاج منحوتات المخلوقات، وأبرزها الفئران، بأشكال تتجاوز واقعها بكثير. ومع ذلك، يحاول النحات الحفاظ على طريقة تحرك أجسادها في الطبيعة. عن ذلك يقول معتصم الكبيسي: «لا تحتاج إلى الكثير من الجهد لفهم المعنى؛ الفئران، مثل القوارض الأخرى، مدمرة للمحاصيل. آمل أن تكون هوية من يمثلونهم والرسالة التي ينقلونها إلى الوطن، واضحة».

من ناحية أخرى، ترمز الكراسي إلى السلطة، أو بالأحرى إساءة استخدام السلطة. تشير الشخصيات الجالسة في أوضاع مهيمنة غريبة إلى أن الكرسي الساكن، والجسم المتحرك الذي يشغله، أصبحا واحدًا.

«إنها [المنحوتات] رموز. وهي لا تعبّر عن أي شيء عندما يتم إخراجها من سياقها التاريخي وواقع الحياة اليومية. وعلى المرء أن يقرأ النص النحتي للأعمال الفنية ليكتشف أسرارها».

معتصم الكبيسي

يقول «الكبيسي»: «أعتمد على البرونز، وهو المعدن الذي استخدمه نحاتو بلاد النهرين في أور وبابل ونينوى». وأبرزها عمل فني برونزي بعنوان «بلاد ما بين النهرين»، يجسّد خمس شخصيات مشوهة تقف على أقدامها على ما يشبه تابوتًا يضم جثة. يقف رجلٌ قوي، ويداه في جيوبه في المقدمة، والشخصيات الأربعة الأخرى، بأوضاع جسدية متنوعة، على أهبة الاستعداد لحماية الرجل القوي وإطاعة الأوامر. ما يلفت النظر هو ما يبدو وكأنه جمجمة في الخلفية. قال: «هكذا أرى الواقع في المنطقة. هكذا كانت الأمور في وطني».

اقرأ أيضًا: (عن قوة الثقافة والتعليم والمتاحف في العصر الرقمي.. رسائل لوني بانش).

ويضيف: «ليست جميع تفاصيل الأفراد أو المخلوقات أو الأشياء في منحوتاتي موجودة، لكنني أعتقد أنها تخلق معجمًا ضخمًا مثل المحنة والحروب التي تحاول كشفها».

يرمز أحد المنحوتات البرونزية، بعنوان «الانتصارات المتأخرة»، إلى نتائج الحروب في العراق ودول الشرق الأوسط الأخرى؛ إذ يقف رجل عسكري ذو بطن كبير، مرتديًا قبعة مرتفعة، ويداه متدحرجتان خلف ظهره – لغة الجسد تشير إلى الابتهاج واللامبالاة بالمأساة في المنطقة – منتصرًا على قمة دبابة مدمرة.

الحرب والاحتلال

ولا يخفي «الكبيسي»، الذي وُلد وتعلّم في العراق، استيائه من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لوطنه من خلال منحوتة برونزية تظهر عربة «همفي» أمريكية تركبها ثلاثة قوارض. يقول «الكبيسي» إن العمل الفني الذي يحمل عنوان «الاحتلال» يدل على «الخوف من الحرب والدمار الذي تجلبه في أعقابها. للفئران معانٍ مختلفة، يمكن أن ترمز إلى الاحتلال أو العدو. وفي جميع الأحوال، فهي ليست مخلوقاتٍ محبوبة».

يعدّ الجيش والحرب من بين اهتمامات «الكبيسي»، لكن أيًا من أعماله لم تصوّر الحروب المدمرة التي عانى منها وطنه بشكل أكثر غموضًا من تمثالٍ برونزي لشخصية عسكرية أسطورية ذات رأس بلا ملامح، وبطنٍ ضخم، ويدين ممسكتين بخنجرين، وأقدام حيوان، وذيلٍ بارز. إنها أكثر منحوتاته إثارة للفضول، حيث يظهر تأثير بلاد النهرين بشكلٍ واضح، خاصة الشخصيات الأسطورية مثل الثيران المجنحة الآشورية.

  • Muatasim Alkubaisy’s Sculptures Unravel Legacies of War in Iraq
  • Muatasim Alkubaisy’s Sculptures Unravel Legacies of War in Iraq
  • Muatasim Alkubaisy’s Sculptures Unravel Legacies of War in Iraq
  • Muatasim Alkubaisy’s Sculptures Unravel Legacies of War in Iraq

فما الرسالة التي يريد «الكبيسي» إيصالها من خلال تصويره الأسطوري لهذا الرجل العسكري القوي، والذي أطلق عليه لقب «الفيروس»؟ يقول: «أعتقد أن اللقب والفضول اللذين نُحت الرجل القوي فيهما ينبئان بالكثير عن بلدي، وتحديدًا عن حقبة أثرت سلبًا على الجميع تقريبًا في العراق».

إن تماثيل «الكبيسي»، التي تجسّد رجالًا أقوياء، والتي تهيمن على مجموعته، عبارة عن أقزام سمينة، بكروشٍ منتفخة وأرجل كبيرة ولكنهم بدون أعناق، إذ تبدو رؤوسهم تقريبًا مدفونة في جذوعهم. فماذا الذي يريد النحات قوله؟ يجيب: «لا أستطيع فرض أي شكل من أشكال التفسير على المشاهدين، لكن من خلال تجربتي الخاصة، لا يحتاج القادة الأقوياء إلى عقولهم».

آثار بلاد آشور

تضم مجموعة «الكبيسي» أيضًا خيولًا برونزية مشحونة بظلال رمزية من المعاني. ولا يمكن فهمها إلا في إطار بيئتها الفنية وتاريخها. ويقول إن ولعه بخيوله البرونزية يضيف إحساسًا بالحنين إلى التاريخ، الذي لم يأت بعد، حيث يرمز تمثال الحصان إلى الفروسية بدلاً من الخسارة والكوارث. كما تُحوّل بعض المنحوتات المركبات العسكرية إلى دُمى أطفال.

تُحيي أعمال الكبيسي آثار منحوتات بلاد النهرين، وخاصة الفن الآشوري الذي لا يزال يُزيّن بوابات نينوى القديمة، بلمسةٍ عصرية. وبدلاً من الثور المجنّح برأس إنسان، وهو السمة النحتية المميزة لبلاد آشور، فإن لثور «الكبيسي»، في التمثال المسمى «الأفيون»، جذع ورأس بشريين، ويستخدم ذراعيه لدفع عربة الأطفال.

«ليست جميع تفاصيل الأفراد أو المخلوقات أو الأشياء في منحوتاتي موجودة، لكنني أعتقد أنها تخلق معجمًا ضخمًا مثل المحنة والحروب التي تحاول كشفها».

معتصم الكبيسي

كما يصوّر تمثال برونزي بعنوان «الطبول»، العنف الطائفي في العراق الذي اندلع بعد وقتٍ قصير من الغزو الأمريكي عام 2003، وهو من أشهر أعمال «الكبيسي» الفنية. تبدو الشخصيات الثلاثة الواقفة، أحدهم يقرع الطبل، أكثر جنونًا من كونها عاقلة. ويروي هؤلاء بأقنعتهم قصة فرق الموت الطائفية التي زرعت الخوف والرعب في بغداد والمدن الكبرى الأخرى.

https://www.bue.edu.eg/

ولد «الكبيسي» عام 1968 وتخرّج في الأكاديمية العراقية للفنون الجميلة في بغداد. عاش حروبًا وأزمات وعقوبات أمريكية شاملة دمرت المجتمع العراقي، وليس من الصعب تتبع تداعياتها في أعماله الفنية. وجميع منحوتاته مستوحاة مما مر به في العراق، وتذكرنا بالمحن التي شهدها موطنه بداية من الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988، وحرب الخليج عام 1991، والعقوبات الاقتصادية المدمرة التي فرضتها الأمم المتحدة، وأخيرًت الغزو الأمريكي وتبعاته الكارثية.

وإجمالا يقول النحات العراقي: «أصوّرُ هذه الحروب والمصائب في منحوتاتي، وأحاولُ إعادة بنائها في وجوه أعمالي. وعلى الرغم من أنها قد لا تبدو حقيقية، إلا أنها ترمز إلى الواقع اليومي».

أقام «الكبيسي» معرضه الأول في أبوظبي عام 2009. وأقيمت معارض أخرى لمنحوتاته في عامي 2008 و2015 أيضًا في دولة الإمارات العربية المتحدة. يعمل حاليًا كمدرس أول في كلية الفنون الجميلة والتصميم بجامعة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة.

اقرأ أيضًا

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى