مقالات رأي

عن قوة الثقافة والتعليم والمتاحف في العصر الرقمي.. رسائل لوني بانش

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

أحب زيارة المتاحف والمناطق الأثرية. دائمًا ما تثير بداخلي فضول طفولي عن العصور المختلفة؛ كيف عاش الناس في تلك الفترات؟ وكيف كان شكل الحياة؟ فضول تقوده القصص التي تسردها تلك المتاحف، تاركًا بداخلي فضولًا أكبر عن القصص التي لم تُرو بعد.

ترافقني هذه الحالة مع كل زيارة، من متاحفنا المصرية، إلى متحف هيروشيما التذكاري للسلام في اليابان، مرورًا بمتحف ثورفاندلسن في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن. ولذلك، دفعني فضولي لتلبية دعوة د. أحمد دلال، رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة، لحضور لقاء ملهم، بعنوان: «قوة الثقافة».

مؤرخ ومؤسس لمتحف فريد

بحلول السادسة مساء الثلاثاء، 14 آذار/مارس، كان مسرح «ملك جبر للفنون» بمقر الجامعة في مدينة القاهرة الجديدة، يكتظ بالحاضرين، ما بين شخصيات عامة، وقادة رأي، ومهتمين بالشأن الثقافي، والطلاب، للقاء المؤرخ الأمريكي، لوني جي بانش، سكرتير مؤسسة «سميثونيان» الأمريكية.

و«بانش» هو أول أمريكي-إفريقي يتولى هذا المنصب، منذ عام 2019، والسكرتير رقم 14 للمؤسسة، ومؤسس ومدير المتحف الوطني لتاريخ وثقافة الأمريكيين-الأفارقة. وهذا المتحف واحد من بين 21 متحفًا وطنيًا، و21 مكتبة، وحديقة حيوانات، وعدد كبير من المراكز التعليمية والبحثية الأمريكية، التي تديرها مؤسسة «سميثونيان»، التي يعود تاريخ تأسيسها، كمؤسسة فيدرالية، إلى عام 1846، بقرار من الكونجرس الأمريكي. وحاز «بانش»، سنة 2019، ميدالية من بين أربع ميداليات للحرية، أصدرتها مؤسسة روزفلت الأمريكية، لإسهاماته في الثقافة الأمريكية، كمؤرخ وراوٍ للقصص.

كيف بدأت القصة؟

نشأ «بانش» في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، في بلدة كانت عائلته هي «السوداء» الوحيدة فيها، حيث عامله أشخاص بشكل وصفه بـ«المروع»، فيما عامله آخرون بـ«شكل رائع». من هنا كانت بداية شغفه بالتاريخ، حيث يقول: «حاولت معرفة سبب ذلك، واعتقدت أنه ربما إذا فهمت التاريخ أولًا في هذه المدينة، فقد يساعدني ذلك في فهم نفسي، وما كنت أتعامل معه، ولكن ساعدني في النهاية على فهم الناس».

كمتخصص في تاريخ الأمريكيين من أصل إفريقي، يعتقد «بانش» أن وظيفته استخدام التاريخ لتفسير الواقع، ولكن مع إعطاء الأمل، وأنه لا يمكن فهم ثقافة بلد دون فهم اللحظات الصعبة.

سبب آخر لارتباطه بالتاريخ يتعلق بجده، الذي كان يحرص على القراءة له. وفي أحد الأيام أخرج كتابًا يحتوي على صور لأطفال المدارس، ربما قبل مائة عام، وقال له: «ربما لم يعد هؤلاء الأطفال معنا. من العار أن تعريف الصورة يقول ببساطة: أطفال مجهولون». بدأت الأسئلة تشغل عقل «بانش» ذي الخمسة أعوام وقتها: كيف يمكن للناس أن يعيشوا ويموتوا، دون التعرف عليهم؟ وبدأ ينظر إلى الصور، ويحاول فهم كيف كانت حياتهم؟ هل عوملوا بإنصاف؟ ويقول: «بالنسبة لي، تشكلت مسيرتي المهنية بأكملها من صورة بسيطة، وفي جوهرها محاولة معرفة كيف يمكنني استخدام التاريخ كمرآة لمن نحن».

غاية التعليم

التعليم لدى «لوني جي بانش» يتعلق بأمور كثيرة أبرزها المثابرة، والقدرة على تغيير حياة الناس، ويرى أن التحدي الذي يواجه التعليم الأكاديمي، هو إيجاد الرابط الصحيح بين البحث عن المعرفة، والبحث عن الفهم، والقدرة على منح الأشخاص أدوات، يمكنهم بعد ذلك ترجمتها إلى وظائف فعالة.

لماذا نحكي التاريخ؟

كمتخصص في تاريخ الأمريكيين من أصل إفريقي، يعتقد «بانش» أن وظيفته استخدام التاريخ لتفسير الواقع، ولكن مع إعطاء الأمل، وأنه لا يمكن فهم ثقافة بلد دون فهم اللحظات الصعبة، والموازنة بين اللحظات التي يبكي فيها المرء، عندما يكون غاضبًا، واللحظات التي يجد فيها المرء الفرح، والمرونة، لذا أسس متحفًا يمر الناس عبره، ويشعرون بالألم والفرح.

اقرأ أيضًا: («كل يصنع إيمانه بيده» معرض افتراضي لدعم الحياة الثقافية في لبنان).

ويرى أن الناس يرون هذه اللحظات الصعبة، ليس على أنها لحظات إحراج، ولكن لحظات من حيث تحسّنت أحوال الأمة، وتغيرت بمرور الوقت. يرى أن التعامل مع الموضوعات الصعبة، بشكل صحيح، يسمح للناس بتجاوزها، والتعلم منها، وتحسينها.

كيف نحكي التاريخ؟

يؤكد سكرتير مؤسسة «سيمثونيان»، أن على المتحف إضفاء الطابع الإنساني على التاريخ، واختزاله إلى نطاقٍ بشري، حتى يتمكن الأشخاص الذين لا يعرفون شيئًا عن موضوع ما، من مشاركة قصتهم الخاصة وعائلاتهم. والتأكد من أن الناس لا يحصلون فقط على ما يريدون، ولكن ما يحتاجون إلى تذكره.

وشدد على أهمية إعطاء الناس إحساسًا بأن إحدى طرق فهم القضايا الصعبة، هي معرفة كيف صنع الناس مخرجًا منها، ويعتبر أن المعلم الجيد يستخدم كل أداة لديه، وأن التكنولوجيا أداة رائعة إذا تم استخدامها كأداة، وليس كنهاية لكل ما نعرفه. ويقول «بانش»: «لست من أشد المؤمنين بتحويل المتاحف إلى ديزني لاند، ولكن الاستخدام الانتقائي لمجموعة متنوعة من التقنيات التي تسمح للناس، ربما، بالقفز فوق هوة نقص المعلومات».

التاريخ والتنمية

أثيرت أثناء اللقاء مسألة حفظ التاريخ، بالتزامن مع جهود التنمية في كثير من الدول، وضرب «بانش» مثالًا بمصر، وقال إن هناك فرصة لإعادة تقديم هذا التاريخ المذهل للعالم، لأن هناك تعطشًا له، ويعتقد أن التحدي دائمًا هو: كيف تتأكد من أنك تستمتع بالماضي، بينما تمضي قدمًا بالأمة.

بالنسبة له، فإن الماضي أفضل محرك للمستقبل، وضرب مثالًا بالولايات المتحدة الأمريكية، قائلًا: «عندما نفكر في التنمية، نقضي الكثير من الوقت في التفكير فيما يجب الحفاظ عليه، وحول كيفية التأكد من أننا نستخدم التاريخ لحث الناس على الانتقال إلى مجتمع ما، وإدراك أن التاريخ يتعلق باليوم وغدًا، بقدر ما يتعلق بالأمس».

غاية المتاحف

على الرغم من سعي المتاحف إلى تحقيق الاستدامة، والبحث عن تحقيق أرباح، إلا أن مؤسسة «سميثونيان» اتخذت قرارًا بفتح إمكانية الاطلاع على ما لديها من ملايين الصور والوثائق مجانًا، في موقف يفسره «بانش» بالقول إن التاريخ مهم للغاية لمجرد أن يكون في أيدي المؤرخين، والمتاحف مهمة جدًا لمجرد أن تكون في أيدي قلة من الأشخاص الذين يزورونها.

التعليم لدى «لوني جي بانش» يتعلق بأمور كثيرة أبرزها المثابرة، والقدرة على تغيير حياة الناس، ويرى أن التحدي الذي يواجه التعليم الأكاديمي، هو إيجاد الرابط الصحيح بين البحث عن المعرفة، والبحث عن الفهم، والقدرة على منح الأشخاص أدوات، يمكنهم بعد ذلك ترجمتها إلى وظائف فعالة.

ويضيف: «الوصول المفتوح بالنسبة لي فرصة حقًا للقول إن ملايين الصور التي لدينا، تمثل خبرة يمكن لأي شخص الاستفادة منها». ورد على منتقديه: «كان هناك نقاش كبير؛ يا إلهي هل تتخلى عن الإيرادات؟ النقطة بالنسبة لي هي أنه إذا كانت متاحف سميثونيان مؤسسات تعليمية، فعليها أن تفعل كل ما في وسعها للمساهمة في الطريقة التي يتعلم بها الناس».

المتاحف في العصر الرقمي

حرص «بانش» على الإجابة عن تساؤلات من حضروا اللقاء، الذي أداره رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة، د. أحمد دلال، وبشكل خاص ما يتعلق باستخدام التكنولوجيا الحديثة في المتاحف، ويرى أنه من المهم التأكد من أن المتاحف تستخدم أفضل وأحدث التقنيات وأكثرها تطورًا، والبحث عن أفضل شيء يمكن فعله بـاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وما أفضل الأشياء التي تسمح بها التكنولوجيا الرقمية، وكيفية الاستفادة من كل ذلك في تشكيل تجربة زيارة أكثر فعالية.

يعتبر «بانش» كذلك أن المتحف كيان تعليمي، وظيفته التفكير، بشكل إبداعي، في كيفية الوصول لجميع مجموعات الأشخاص، والتعامل معها، وكيفية إشراك كبار السن، أو الأشخاص الذين تعرفهم بعيدًا عن الكلية أو الدراسات العليا، والتأكد من القيام بعمل يساعد التعليم المبكر على التحمس للتاريخ، ودراسة الماضي، وكيفية تقديم المهارات الإبداعية، لمساعدة نظام تعليمي يواجه مشكلة في بعض النواحي.

اقرأ أيضًا: (الفن في العزلة: فنانون عرب يصورون المشاعر التي أثارها كوفيد -19).

عن قوة الثقافة والتعليم والمتاحف في العصر الرقمي.. رسائل لوني بانش
المؤرخ الأمريكي، لوني جي بانش، متحدثًا في لقاء بعنوان: «قوة الثقافة»، ومعه رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة، الدكتور أحمد دلال، 14 آذار/مارس 2023 (الجامعة).

يقول: «لدينا معاهد أبحاث استوائية في بنما، ومرصد الفيزياء الفلكية في مركز كامبريدج للأبحاث البيئية، في خليج تشيسابيك، كيف نجمع كل ذلك معًا، ونقول حقًا هذا ما يمكن أن نساهم به في فهمك للحياة على كوكب مستدام، وإليك كيف يمكننا مساعدتك على فهم قضايا تغير المناخ».

كما ضرب مثالًا بما يمكن أن تقوم به المتاحف في بلد يشهد استقطابًا وتحزبًا شديدًا، أو في وقت تكون فيه القضايا العرقية في المقدمة، واستخدام التاريخ ليفهم الناس، ومنحهم سياقًا، وإحساسًا بأنه بغض النظر عن مدى سوء هذه اللحظة، وأنها قد لا تمر دون ألم أو خسارة، ولكنها ستمر إذا اجتمع الناس معًا من أجل الصالح العام، وأن نخبر الناس بطرق جديدة حول كيفية فهم أنفسهم.

تجربة الزائر

يعود «بانش» مرة أخرى إلى مسألة تجربة الزائر، ويرى أنه إذا كنت في مرحلة ما، ويتعين عليك إجراء تغييرات كبيرة لتعزيز تجربة الزائر، فهذا يعني أنك لم تقم بواجبك منذ البداية، وشدد على ضرورة فهم الجمهور وطبيعة استخدامه، كما وجّه نصيحة للمهندسين المعماريين والعاملين في مجال المتاحف، وهي إدراك أن المتحف ليس نُصُبًا معماريًا، وأن جوهره كيان تعليمي يجب أن يعمل لصالح مجموعة متنوعة من الأشخاص.

قوة الثقافة

الثقافة لدى المؤرخ الأمريكي ذي الأصول الإفريقية بمثابة الغراء الذي يربط الأمم معًا، وتسمح لنا بفهم اختلافاتنا، والتفاوض، والتفاهم مع هذه الاختلافات، الثقافة بالنسبة له خزَّانًا للتفاهم والأمل في المستقبل، وتمنح إحساسًا بما هو ممكن؛ فالثقافة هي «الاكتشاف العظيم، إنها عدسة رائعة لفهم الأشياء، ولكنها أيضًا فرصة لمعرفة كيف يجتمع الناس معًا»، كما يقول «بانش».

جدوى فروع المتاحف

لماذا تذهب المتاحف إلى أماكن مختلفة؟ لماذا تفتح فروعًا خارج مجتمعاتها الأصلية؟ هل لاقتباس الامتياز؟ هل تفعل ذلك لمجرد أنها تحصل على الكثير من المال؟ أسئلة عديدة يراها «بانش» غير كافية، وأنه من الضروري أن يحكم هذا القرار إجابة عن سؤال: هل لديك ما يمكنك تقديمه إلى المجتمع المحلي أم لا؟، وضرب مثالًا برفضه خطة لافتتاح متحفًا في لندن، وقال: «لأنني لم أستطع معرفة ما يمكننا المساهمة به بقوة في الثقافة التي كانت في لندن، ولم يكن مجرد الذهاب لكسب بعض المال في ذهني تبريرًا لصياغة متحف»، ويرى أن نشر الامتياز يكون بالعمل الجيد، وتحديد ما يعني ذلك لجميع الأشخاص الذين قد يتأثرون بالمتحف في المجتمع المحلي.

الاستفادة من التاريخ المصري

كانت زيارة لوني جي بانش إلى مصر، هي الأولى،  واصطحب فيها زوجته ماريا مارفيل بانش، ويوضح كيف يمكن الاستفادة من زخم التاريخ المصري، قائلًا: «أهم شيء هو العثور على الاستخدامات المختلفة للماضي المصري، كيف يمكنك إنشاء ماضٍ مفيد وقابل للاستخدام، لن يساعد فقط الأشخاص الذين يأتون من جميع أنحاء العالم، ولكن يساعد الأشخاص الذين يعيشون في هذا المجتمع، في هذا البلد، ولذا أعتقد أن التحدي الذي يواجه الكثير منا ممن يهتمون بهذا، هو كيف نوضح أن ما نفعله مهم اليوم والآن».

الثقافة لدى المؤرخ الأمريكي ذي الأصول الإفريقية بمثابة الغراء الذي يربط الأمم معًا، وتسمح لنا بفهم اختلافاتنا، والتفاوض، والتفاهم مع هذه الاختلافات.

ويتابع: «ربما يكفي أن هذا يمنح المرء إحساسًا قويًا بالهوية المصرية، فهو يعطي إحساسًا بالفخر، ربما يكون هذا كافيًا، ولكني أعتقد أيضًا أن السؤال الأساسي هو: ماذا يعني هذا للأشخاص الذين لن يذهبوا إلى المتاحف، لماذا يجب أن يهتموا، وأن يدركوا أن ما تفعله سيساعدهم بطرق عميقة، أؤمن بقوة المتاحف وقوة الثقافة والتاريخ، بحيث يجب مشاركة هذه القوة على أوسع نطاق ممكن».

حقوق الحفظ     

ربما تتعجب أحيانًا وتسأل، لماذا يتم عرض مقتنيات التاريخ المصري القديم في متاحف الخارج، وتتابع أخبار استرداد قطع أثرية من هنا أو هناك. هذا ليس حالك في مصر فقط، وإنما في كثير من دول العالم، ويشير «بانش» إلى أن 90% من الآثار الإفريقية معروضة في متاحف خارج القارة السمراء.

وربما سمعت، أيضًا، على مدار سنوات، أن الدول النامية لا تستطيع حفظ آثارها بشكل لائق، كمبرر لعدم عرض تلك المقتنيات في بلادها الأصلية، وربما لم تعجبك تلك الحجة، كما أنها لم تعجب «بانش» كذلك، ويقول في هذا الشأن: «أعتقد أن هذا أمر مروع، أعتقد أنه إذا كان هذا تحديًا، فإن جزءًا من مسؤولية إنجلترا وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، هو العمل بشكل تعاوني للتأكد من إمكانية الحفاظ على هذه المواد بأكثر الطرق فعالية».

ملفات عديدة طرحها لقاء لوني بانش، معظمها ذات شجون في عالمنا العربي، وربما قد تشعر أن أحدًا غيرك لا يهتم بها، لكنها قوة الثقافة التي تمنحك شعورًا مختلفًا، بأننا نعيش في عالم واحد، تشغلنا الأفكار نفسها، وتواجهنا تحديات واحدة، وأن أحدًا لن ينجو بمفرده، وأن هناك دائمًا مخرج.

اقرأ أيضًا:

  ابحث عن أحدث المنح الدراسية من هنا. ولمزيد من القصص، والأخبار، اشترك في نشرتنا البريدية، كما يمكنك متابعتنا عبر فيسبوك، ولينكد إن، وتويتر، وانستجرام، ويوتيوب.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى