مقالات رأي

المهارات الإدراكية وتحديات الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر

شاركت في الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، في لقاء من اللقاءات الحوارية للمنتدى العربي للعلم المفتوح، تحت عنوان: «آفاق مستقبلية للعلم المفتوح في العالم العربي».

كانت مشاركتي بمثابة مناقشة رحلة فكریة، والتأمل في البذور، والجذور، والثمار، لما تشمله من أفكار لإدراك الجوانب الحاكمة في هذا الموضوع.

تبدأ ھذه الرحلة بطرح إشكالیة «ما بعد الإنسانیة» (Post Humanism)؛ فقد مرَّ أكثر من 2.4 ملیون عام على وجود الإنسان الماھر (homo habilis) على الكرة الأرضیة، في حین أن بدایة ظھور الإنسان العاقل (homo sapiens) كانت منذ أقل من سبعمائة ألف عام، لیصبح ھذا النوع من البشر الأكثر انتشارًا في كوكبنا حیث ازداد تعداده السكني من ملیون نسمة منذ مئة ألف عام إلى أكثر من 7 ملیارات نسمة حالیًا.

اقرأ أيضًا: (مؤسس «وقف الإسكندرية» صلاح خليل: أحلم بنظام تعليمي لا يتأثر بعدم المساواة في العالم).

وبما أن الإنسان أحد الفصائل الحیوانیة التي تتعرض للانقراض (extinction) مع مرور الزمن، وطبقًا للانتقاء الطبيعي (natural selection)، فهل يعد طرح إشكالية انقراض الإنسان العاقل واقعًا موضوعيًا (objective reality)، أم من ضروب الخيال (fictional reality)؟‏ وإذا كان واقعًا موضوعيًا، وقد یحدث ذلك لتضاؤل النوع البشري، أو تغیر المناخ، أو الكوارث الطبیعیة، أو الاستغلال المفرط، أو التلوث، أو لظھور أنواع غازیة، فماذا بعد الإنسانیة؟

وھل من الممكن التفاعل الإیجابي مع ھذه الإشكالیة، بطرح خریطة إدراكیة شاملة ترتكز على العقل التولیدي، والتفكیر النقدي (critical thinking) كنموذج وأداة تحلیلیة؟

إن كل ھذه التساؤلات ما ھي إلا محاولة لمجابھة العقلانیة المحدودة (bounded rationality) بالموضوعية الاجتھادیة.

ولذلك، أنشأت جامعة كمبریدج، وأوكسفورد، وبیركلي، وغیرها من الجامعات الرائدة عالمیًا، مراكز بحوث لدراسة مخاطر إبادة البشر. ویعد الذكاء الاصطناعي (artificial intelligence)، أحد هذه المخاطر التي تھدد مستقبل البشریة الذي یعتمد أساسًا على الذكاء البشري (natural intelligence).

ونجد هذه الظاهرة في مقولة: «الرجل ضد الآلة man versus machine»، وقد صاحب ھذه السردية رؤیة مضادة «الرجل والآلة» تتوقع إمكانية تطوير الإنسان بیولوجیًا وذھنیًا، لیس فقط بالتفاعل الإیجابي مع الانتقاء الطبیعي، ولكن أیضًا مع الانتقاء الاصطناعي (artificial selection)، لتنمیة وتطویر نوع جدید من الذكاء، وھو الذكاء المعزز (augmented intelligence) الذي یشمل مزیجًا من الذكاء البشري، والذكاء الاصطناعي، یعتمد في غالب الأحیان على السیاق والحالة الواقعیة. وتبني أو رفض ھذه الرؤى، سواء كنا مع الآلة، أو الإنسان، یجعلنا نتساءل عن مستقبل العلم والعمل. فحزمة العلم والعمل سُنَّة الحیاة البشریة، وقضیة محوریة، كما ورد بأحد التفاسیر لفاتحة الكتاب: «من یعلم ولا یعمل بعلمه فھو مغضوب عليه، ومن یعمل دون علم فھو ضال، ومن یعلم ویعمل بعلمه فھو على الصراط المستقیم».

اقرأ أيضًا: (كيف نمضي بالتعليم نحو اكتساب مهارات المستقبل؟ نقاش أكاديمي في قطر).

وغني عن القول، إن أهم العوامل المؤثرة للنجاح في العلم، والعمل ترجع إلى المھارات الإدراكیة (cognitive skills) التي یصعب، بل ویستحیل، في بعض الأحیان، استبدالھا بالذكاء الاصطناعي.

وبالنظر إلى المستقبل القریب، سنجد أن كثیرًا من الأبحاث الصادرة عن مراكز البحوث العالمیة في مجال العلم، مثل منظمة التعاون والتنمیة الاقتصادیة (OECD)، ومجال العمل مثل المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum) تشير إلى وقوع فجوة مھارات عالمیة في عام 2030 تتطلب تأھیل، وإعادة تأھیل، وتنمیة مھارات تتماشى مع متطلبات الاقتصاد الجدید لأكثر من ملیار عامل من القوى العاملة العالمیة، والبالغة 3.7 مليار عامل ما بين سن 15 و65 سنة.

وترجع هذه الفجوة إلى عدة عوامل تزید من تنافسیة العلم والعمل، منھا: العولمة، والتغییرات الدیموغرافیة، والتحول الرقمي، وجائحة كوفید-19، والعمل، والدراسة عن بعد، واقتصادیات تحت الطلب، وعدم المساواة، والتحضر. وتُقدَّر التكلفة العالمیة، في حالة عدم تحقیق ھدف تأھیل، وإعادة تأھیل، وتنمیة هذه المھارات بأكثر من 60 تريلیون دولار أمریكي، أو بما یتجاوز الخسائر المجمعة للأزمة المالیة العالمیة في 2008، والأزمة اللاحقة لتفجیر مركز التجارة العالمي في 2001، وأزمة كوفيد-19 في 2020 إلى 2022.

إن جوھر البحث في ھذه الدراسات یرجح صعوبة استبدال المھارات الإدراكیة بالذكاء الاصطناعي، وخصوصًا أھمیة مھارات التفكیر النقدي (critical thinking) التي تشمل مھارات: حل المشكلات (problem solving)، والتحلیل (analysis)، والتفكیر الإبداعي (creative thinking)، والتفسیر (interpretation)، والتقییم (evaluation)، والمنطق (reasoning)، والتي تلعب دورًا رئیسيًا في تنمیة وتطویر الذكاء المعزز.

من ھنا تتولد الإشكالیة في تحدید مستقبل العلم، والعمل، والعلاقة التي تربط الشھادة الجامعیة (university degree)، بالوظیفة (job)، والمھارات (skills). وھناك عدة نماذج تفسیریة تتحسس الطریق نحو فھمٍ نظري وعملي لمستقبل ثلاثیة الشھادة الجامعیة، والوظیفة، والمھارات.

فمثلًا ھناك عدة أبحاث، آخرھا صدر من جامعة ھارفرد، تؤكد صعوبة التنبؤ بالوظائف المستقبلیة؛ لأن كل التوقعات تشیر إلى أن 90% من وظائف المستقبل غیر معروفة، ولذلك إن كانت لدینا قناعة بأن الغرض الرئیسي من التعلیم ھو التوظیف (education for employment)، فمن هذا المنطلق يخرج السؤال: كیف تنجح الجامعات في تحقیق ھذا الغرض في غیاب المعرفة بوظائف المستقبل؟

وإن كانت قناعتنا بأن الغرض الرئیسي من التعلیم ھو التنویر (education for enlightenment)، فكیف یصبح الاعتماد على الجامعات لتحضیر الخريجین لوظائف مستقبلیة غیر معروفة في ظل ادعاء عدد كبیر من الشركات بأن مستوى الخريجین الحالي لا یتوافق ومتطلبات أسواق العمل الحالیة؟

ولذلك یتصور البعض أن زلزلة احتكار الجامعات للشھادة الجامعیة بات أمرًا واقعًا، وخصوصًا مع ظھور ونمو شركات التعلیم الإلكتروني (education technology companies – EdTech)، التي بدأت بعرض دورات تعلیمية جامعیة عبر الإنترنت،  أو موكس (Massive Open Online Courses – MOOCs)، وانتھت الآن إلى إنشاء أكادیمیات، بالشراكة مع جامعات وشركات عالمیة، وإصدار شھادات الاعتماد الجزئیة (micro credentials)، انطلاقًا من التركیز على وظائف محددة، وھي الوظائف الأكثر نموًا، مثل الوظائف التي تعتمد على المھارات الإلكترونية، أو المھارات الرقمیة (digital skills).

اقرأ أيضًا: (مهارات وطرق تدريس التفكير النقدي في كتاب جديد).

وھنا أیضًا نواجه التحدي الذي یضع الوظیفة أساسًا لتحدید التعلیم الذي ینتج مھارات محددة لھذه الوظیفة؛ فإذا انقرضت الوظیفة بات ھذا التعلیم محدود الفائدة. وإن مسلك التركیز على قیاس، وتنمیة مھارات التفكیر النقدي، لكونھا مھارات یصعب استبدالھا بالذكاء الاصطناعي، یفتح المجال أمام الجامعات للتفاعل الإیجابي مع فجوة المھارات، من خلال تجھیز خريجین بمھارات المستقبل، وأیضًا تمكین القوى العاملة بتأھیل، واعادة تأھیل، وتنمیة تلك المھارات من خلال برامج التعلیم التنفیذي (executive education)، والتعلیم المستمر (continuous education) بالجامعات. ویحقق ذلك أیضًا توجه عقلاني لادعاء عدد كبیر من الشركات بأن مستوى الخريجین الحالي لا یتوافق مع متطلبات أسواق العمل الحالیة، أو المستقبلیة. ویتوافق أیضًا مع منظور التعلیم بغرض التنویر (education for enlightenment).

والتركیز على مھارات التفكیر النقدي ناتج عن توافق عدد كبیر من الدراسات بعلوم الفلسفة، والنفس، والتعلیم – على الرغم من اختلاف تعریف التفكیر النقدي من داخل كل علم – بأن التفكیر النقدي حزمة من (dispositions or behaviors). ولذلك قامت مؤسسة «ماكات العالمیة»، وھي شركة متخصصة في قیاس، وتطویر التفكیر النقدي، والمھارات (skills)، والسلوكیات مع جامعة كمبریدج، بدراسة علمیة لتعریف مھارات التفكیر النقدي، والتي انتھت إلى أن التفكیر النقدي یتكون من ست مھارات رئیسة، و24 مھارة فرعیة تحت نموذج «باسیر» (PACIER).

ویعتبر نموذج «باسیر» أول نموذجٍ عالمي للتفكیر النقدي، خصوصًا بعدما اتخذته منظمة التعاون والتنمیة الاقتصادیة (OECD)، بالتعاون مع مؤسسة «ماكات العالمیة»، بمثابة خریطة إدراكیة حدیثة لقیاس مھارات التفكیر النقدي، والتفكیر الإبداعي على المستوى التعلیمي والجامعي.

ویتفوق ھذا النموذج على قیاسات أخرى عدیدة، منها قیاس الذكاء (intelligence Quotient – IQ Test)، في أنه بعد قیاس التفكیر النقدي یمكن تنمیته، وتطویره، وأن الخریطة الإدراكیة لنموذج «باسیر» تمكن المستخدم من تكوین حزمٍ مختلفة من المھارات الفرعیة، والرئیسیة للتعامل مع الافتراضات، والأفكار، والمعطیات، والأدلة، والقدرة على اتخاذ القرارات، وحل المشكلات؛ لأنه أداة لتقنین عملیة التفكیر (codification of thinking process).

اقرأ أيضًا: («الفنار للإعلام» ومؤسسة «فورد» تطلقان مبادرة لمحو الأمية الإعلامية بين طلاب الجامعات العرب).

ویمكننا القول إن مھارات التفكیر النقدي تساعد البشر على التواصل، والتعاون المرن (flexible cooperation and collaboration)، الجماعي، والاجتماعي الفعَّال مع البشر، ومع الآلة، والذي یعتبره البعض أساس تفوق الإنسان العاقل (homo sapiens) على غیره من النوع البشري والحیواني.

ویبدو كذلك أن الحوار عما بعد الإنسانیة یمكن إعادة صیاغته بعد النظر في نموذج «باسیر» لقیاس، وتنمیة، وتطویر مھارات التفكیر النقدي لدى البشر، من حیث الإمكانیة الكامنة، والتحرك في إطارھا لتمكین البشر من تسخیر الذكاء الصناعي، والانتقال إلى الذكاء المعزز لیصبح انتصار الإنسان على الآلة أمرًا واقعًا.

وإذا كانت مجابهة فجوة المهارات العالمية تعتمد على صقل المهارات (skilling)، أو تحسينها (upskilling)، أو إعادة تأهيلها (reskilling)، فيمكننا القول إنه من الصواب الاعتماد، في المقام الأول، على استباق تأهيل المهارات (pre-skilling) في الجامعات والمدارس ابتداءً من السنة السادسة (طلاب عمرهم عشر سنوات).

وما كل ما سبق من طرحٍ، ورؤيةٍ، إلا اجتھاد في موضوع یخص أولًا البشریة، وثانیًا العالم، وأخیرًا: النظر في كیفیة استفادة العالم العربي من ھذه الأفكار، والربط بینھا، وبین واقع العلم المفتوح؛ لتحدید ما یستحق الإبقاء منھا، وما یستحق الاستبعاد، وإعادة تركیبھا لتكوین وحدات كلیة متعددة، ورؤى بنَّاءة تنھض ببلادنا، وشعوبها العربية.

* كلمة صلاح خليل، العضو المؤسس لمجلس أمناء «وقف الإسكندرية»، والرئيس التنفيذي لشركة «ماكات إنترناشيونال» أمام منتدى العلم المفتوح الذي نظمته الجامعة العربية المفتوحة، بالشراكة مع المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (الألكسو) في الكويت، خلال تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. و«الفنار للإعلام» أحد مشاريع وقف الإسكندرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى