مقالات رأي

الذكاء الاصطناعي والتعليم العالي.. قراءة أكاديمية للفرص والتحديات

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

لا يعد الذكاء الاصطناعي أول التقنيات المبتكرة، ولن يكون آخرها؛ فقد شهد العالم، على فترات تاريخية متتالية، ظهور العديد من أدوات ووسائل التعلم التي انتشرت ثم انطفأ بريقها، ومنها: الحاسبة اليدوية، والآلة الحاسبة، وقلم الحبر، وأدوات التصحيح، والسبورة البيضاء، وبرنامج «باور بوينت».

أحدث ظهور بعض هذه الابتكارات ضجة كبيرة عند طرحها في الأسواق، بينما تم استيعاب بعضها الآخر بسرعة وانتشرت في كل مكان، ونذكر منها: الإنترنت، وتكنولوجيا التعليم، والدورات الضخمة المفتوحة على الإنترنت، والفصول الدراسية المعكوسة.  ويُعتبر الذكاء الاصطناعي، راهنًا، ثورةً في مجال التعليم، إلا أنه سيفقد بريقه في النهاية، ويصبح شيئًا بديهيًا مثلما حدث لنظام «إكسل». ورغم ذلك، يتميز الذكاء الاصطناعي عن التقنيات السابقة بقدرته على صياغة النصوص، والمقالات، والصور، ومقاطع الفيديو، والمخرجات الفكرية والإبداعية بناءً على بضع تعليمات بسيطة، وهذا ما أحدث ضجة كبيرة في مجال التعليم العالي.

اقرأ أيضًا: (الذكاء الاصطناعي في خدمة الكتابة والبحث.. تعرف على أبرز الأدوات).

لم تستوعب الجامعات تلك الاختراقات الكبيرة التي جاء بها الذكاء الاصطناعي، وأصبح من السهولة إنشاء المقالات، والرموز، والصور، وغيرها من النصوص، والإبداعات الأخرى بفضل «شات جي بي تي» (أداة معالجة اللغة الطبيعية التي تم إطلاقها عام 2022)، وبرنامج «ميدجورني» لتوليد الصور.

أخذت تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالانتشار بشكل واضح في العقد الأخير، بما يشمل خوارزميات تغيير السلوك، ومزايا وضع الوسوم على الصور، والملفات التعريفية، واقتراحات الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي. ولأن بعض المؤسسات التعليمية لم تكن مستعدة لمواجهة الاضطرابات الناجمة عن تقنيات الذكاء الاصطناعي، فقد اختارت هذه المؤسسات التراجع عن اعتماد التكنولوجيا الرقمية، والعودة إلى وسائل التعليم التقليدية، في محاولة للتصدي لأساليب الغش، والسرقة الفكرية، والإضعاف الفكري للطلاب. وتُعد ردود الفعل المذكورة ضعيفةً ومتأخرة على قلتها، كما أنها تفوّت الغاية الرئيسية من قدرات التعليم المستقبلية القائمة على الذكاء الاصطناعي.

تساعد تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل «شات جي بي تي»، و«ميدجورني»، الطلبة على صياغة أفكار معقدة، وتنفيذ مهام متعددة المستويات، فضلًا عن التطور المعرفي، والتخطيط، وإعادة صياغة الطرق التقليدية لتنفيذ المهمات.

يمكن القول إن الجهود المبذولة لتجاهل أو حظر الذكاء الاصطناعي التوليدي قد تركت تأثيرًا سلبيًا، وهي تعكس مخاوف بعض الأكاديمييين والجامعات من استبدالهم بالآلات في المستقبل القريب. ولا بد هنا من التساؤل حول دور هؤلاء الأساتذة والأنظمة الجامعية التقليدية في التأثير سلبًا على الطلاب، سواء كان ذلك عن قصد، أو غير قصد. ويمكن أن تتطلب التقييمات الموجزة، مثل الامتحانات المكتوبة، من الطلاب أن يحفظوا عن ظهر قلب مجموعات المعارف المحددة، والتركيبات العرقية، والحقائق القديمة، بالإضافة إلى اعتماد الطرق المعيارية لتنفيذ المهام المطلوبة منهم، والتي غالبًا ما تكون بعيدة عن ظروف الواقع.

وقد تطرّق المفكر التربوي البارز باولو فريري (1921 – 1997)، إلى هذه الآليات التعليمية في تقييم الطلاب، حيث ذكر أن المعلمين يتعاملون مع التعليم مثل موظفي البنوك القدامى، فهم «يودعون» المعلومات، والإجابات المحددة مسبقًا، واحتياطيات المعرفة، لفترة طويلة جدًا. وبدورها، تتبنى كلية الدراسات متداخلة التخصصات في جامعة زايد نهجًا جديدًا، ومغايرًا في التعامل مع التحديات التي يفرضها دخول عصر الذكاء الاصطناعي؛ حيث يستفيد المحاضرون من الفرص التربوية المميزة التي توفرها هذه التكنولوجيا، والتي تتجاوز نماذج التعليم التقليدية.

يعمل هؤلاء المحاضرون جنبًا إلى جنب مع الطلبة لاستكشاف الإمكانات المتاحة وتعزيزها. وتنظر الكلية إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه عاملًا محوريًا لإحداث تغيير ملموس في طرق التدريس القائمة، بما يتجاوز المفهوم السائد عن الذكاء الاصطناعي بصفته مجرد أداة مساعدة في عملية التعلم. وتوفر الكلية برامج متعددة التخصصات تتحدى المفهوم القديم والمتناقض حول التكنولوجيا، وتقاربها من منظور عملي؛ فالتكنولوجيا ليست حلًا شاملًا لجميع مشكلاتنا، وليست في الوقت ذاته خطرًا يهدد البشرية. وتتيح تخصصات الكلية (بما فيها الابتكار الاجتماعي، وتحويل الأعمال، وأنظمة الحوسبة والاستدامة) للطلبة اختبار، وتجربة، وتفعيل، وإعادة تصور دور الذكاء الاصطناعي في عملية التعلم، والحياة اليومية.

اقرأ أيضًا: (أكاديميون يرسمون خريطة فرص الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في الجامعات العربية).

على سبيل المثال، نجد بعض المقررات في بكالوريوس العلوم في الابتكار الاجتماعي، مثل وسائل الإعلام، والبيانات، والابتكار الاجتماعي، تتطلب من الدارسين التفكير في كيفية تطبيق الذكاء الاصطناعي لمعالجة المشكلات المستعصية، بما فيها الفقر، والتلوث، وعدم المساواة بين الجنسين.

وتستند قوة الذكاء الاصطناعي إلى مزايا السرعة والكفاءة، وقدرته على تحليل مجموعات البيانات الضخمة بما يتجاوز القدرات البشرية. ولا تقتصر هذه المزايا على استخدام «شات جي بي تي» لكتابة المقالات أو الأجوبة؛ إذ أن هذه الإمكانيات قد أصبحت متاحة للجميع. وبدلًا من ذلك، تتيح الكلية للطلبة فرصة دمج الذكاء الاصطناعي في المشروعات الدراسية، وأداء الأدوار، وتطبيقه في ظروف العالم الحقيقي، وفعاليات التعليم الحيوية.

اقرأ أيضًا: (للطلاب والخريجين.. دليلك إلى تعلم لغات البرمجة عبر الإنترنت).

وتساعد تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل «شات جي بي تي»، و«ميدجورني»، الطلبة على صياغة أفكار معقدة، وتنفيذ مهام متعددة المستويات، فضلًا عن التطور المعرفي، والتخطيط، وإعادة صياغة الطرق التقليدية لتنفيذ المهمات. وباختصار، توفر إمكانات الذكاء الاصطناعي لطلبة الكلية فرصة التعلم وفق أسلوب مبتكر. ومع ذلك، تتيح كلية الدراسات متداخلة التخصصات للطلبة فرصة استكشاف سلبيات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك السرقة الفكرية، وتراجع الثقافة والحساب الذهني، والكتابة اليدوية، والافتقار إلى الإبداع، والمشاركة الوجدانية، مما يزودهم بإمكانية وضع الاسترتيجيات، وإيجاد البدائل، والإجراءات الأخلاقية لمواجهة هذه التحديات.

تتيح كلية الدراسات متداخلة التخصصات للطلبة فرصة استكشاف سلبيات الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك السرقة الفكرية، وتراجع الثقافة والحساب الذهني، والكتابة اليدوية، والافتقار إلى الإبداع، والمشاركة الوجدانية، مما يزودهم بإمكانية وضع الاسترتيجيات، وإيجاد البدائل، والإجراءات الأخلاقية لمواجهة هذه التحديات.

وتتفق هذه المنهجية في تطبيق الذكاء الاصطناعي، في بعض النواحي، مع فكرة جاك رانسيير المتعلقة بالتخلص من التعليم التقليدي، والتي عبّر عنها في كتابه الشهير: «المعلم الجاهل: خمسة دروس حول التحرر الذهني» (العنوان الأصلي: Le Maître ignorant: Cinq leçons sur l’émancipation intellectuelle، والذي نُشر عام 1987). يستعين رانسيير بقصة جوزيف جاكوت ليطالب المعلمين بالتخلي عن الأساليب المضللة في التعليم، والتي تتضمن تزويد الطلبة بنتائج منفصلة عن الواقع ومحددة مسبقًا. ويقول رانسيير إن المعلمين لا يحتاجون إلى معرفة أي شيء (وقد يكونون جاهلين)، لأن الشيء المهم هو استكشاف، ومناقشة، وتجربة كيفية بناء المعرفة، ورؤيتها، والشعور بها، واختبارها، وإعادة تعريفها.

بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يزودنا بسلسلة من الحقائق والإحصاءات، إلا أن خيار التعلم الذاتي يقع على عاتق المتعلمين، أيًا يكن الأمر الذي يرغبون بمعرفته وفهمه وممارسته، وذلك من خلال الاعتماد على التحليل الواعي، والتحلي بالأخلاقيات العالية، والعطف، والمشاركة الوجدانية. وبالتالي، يمتلك كل فرد القدرة على التعلم، والقيادة، والابتكار، شريطة توافر الأدوات، والمعلومات، والعقلية المناسبة.

كما أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يقودنا إلى الحد من اعتمادنا على الخبراء، أو على التعاريف التقليدية للمعرفة، أو أحكام القيمة، أو حتى المفاهيم المتعارف عليها للتحرر الفكري. ولا شك أن جاك رانسيير ما كان ليتوقع من المعلمين أن يحددوا النطاق التعليمي للذكاء الاصطناعي في الجيل القادم، إلا أنه كان سيشجع الطلبة على التمسك بالحوار والتعمق في التطور الفكري لهذه التقنية.

* أستاذة مساعدة في جامعة زايد – الإمارات.

اقرأ أيضًا:معلم الشات بوت والجامعات العربية.. نصائح للطلاب والأساتذة

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى