أخبار وتقارير

ذاكرة عراقية برائحة الـ«خُزامى» في أحدث روايات سنان أنطون

في روايته الصادرة حديثًا، «خُزامى»، يُعيد الكاتب والأكاديمي العراقي سنان أنطون، طرح سؤال الوطن بصيغة أدبية جديدة، من خلال حكايتين متوازيتين لبطلي روايته اللذين يجمعهما الشتات، وتُفرقهما المصائر وعلاقتهما بمفهوم الوطن المُوّزع بين الذاكرة والراهن.

يحمل عنوان الرواية، الصادرة عن منشورات «الجمل»، سؤالًا مُبكرًا حول معنى كلمة «خُزامى»، وهي نوع من الزهور العطرية المعروفة بلونها البنفسجي المميز، وخلال السرد تظهر زهور «الخُزامى» ليس كعنصرٍ جمالي، بقدر ما ظهرت كعنصر سردي كاشف لفهم تعقيدات شخصية البطل، سامي البدري، من جهة، والتطورات التي يمُر بها بطل الرواية الثاني، عُمر.

مع شجن تساؤلات الوطن والاغتراب في «خُزامى»، فإن تمسك الروائي سنان أنطون بلغة الحوار باللهجة العامية العراقية على لسان أبطاله، يبدو من الركائز التي يحرص عليها في رواياته التي تفوح بـ«عراقيتها» المحلية.

يبدأ عالم الرواية بمشهدٍ لبطلٍ عجوز يجد صعوبة في التعرف على المكان المحيط به؛ يرى نفسه في صورٍ فوتوغرافية لا يعلم تحديدًا من الذين يشاركونه الظهور فيها «كيف وضعوه في هذه الصور مع هؤلاء الغرباء»، بحسب تعبير الرواية عن «التيه» الذي سيّطر على عقل البطل. 

اقرأ أيضًا: (الغرفة 207.. الخيال والرعب من ثنايا الأدب إلى الدراما المصورة).

مع تقدم السرد، يدرك القارئ أن العجوز سامي، يُعاني من تداعيات الشيخوخة والخرف، وأنه كان يعمل طبيبًا للقلب في بغداد، ولكنه وصل إلى الولايات المتحدة بعد فواجع أسرية؛ فبعد الحرب اغتالوا شقيقه الأستاذ الجامعي، ثم قُتلت زوجته، فهرب سامي من بغداد إلى دبي ومنها إلى الولايات المتحدة ليستقر بها مع ابنه سعد، وأحفاده، ولكنه وصل لمرحلة من التردي الذهني جعلته يفقد القدرة على تمييز مسكن نجله، ما يجعله يخضع لرعاية طبية متخصصة في محاولة للحفاظ على ما تبقى من ذاكرته، والتعامل مع أعراض مرضه التي جعلته يمثل خطرًا على نفسه ومحيطه الأسري.

يتم إلحاق سامي بمركز متخصص، يستطيع التعامل طبيًا ونفسيًا مع أعراض ذاكرته المفقودة، بينما يلح هو على شيء واحد: «أريد أروح بيتي»، «بيتي بغداد»، رافضًا هذا الحيّز «الأمريكي» الجديد الذي لا يعرف عنه شيئًا.

يبدو سامي خلال رحلته مع الخرف، وكأنه لم يغادر وطنه قط. وفي سبيل ذلك، يصنع سنان أنطون مفارقات درامية لبطله التائه في حاضره الجديد، كمشهد سيره وسط شوارع الولايات المتحدة مستغربًا كل ما يراه من علامات، ومارة، وسيارات. يلتفت إلى لكنة عربية، صادرة عن محل يحمل لافتة متجر يمني، فيشعر بألفة تجعله يقول للشاب العربي صاحب المتجر: «أريد أروح لبغداد»، فيجيبه الشاب: «إحنا في بروكلين يا حاج».

ذاكرة عراقية برائحة الـ«خُزامى» في أحدث روايات سنان أنطون
غلاف رواية «خُزامى» للكاتب والأكاديمي العراقي سنان أنطون.

وخلال رحلته العلاجية من الزهايمر، يخضع سامي لمحاولات حثيثة لتقليل نوبات الهلوسة، والغضب التي كانت تُزاحم مزاجه، فإلى جانب العقاقير الطبية، تقوم المسؤولة عن رعايته الطبية، كارمن، بالتواصل مع أسرته لاستئذانهم في محاولة تجربة علاجه بالموسيقى.

اقرأ أيضًا: («السندباد الأعمى».. رواية كويتية عن سيرة «الحرب» و«الوباء» في ثلاثين سنة).

يبدأ سامي تجربته مع تلك الموسيقى، فيستمع إلى مقاطع شجيّة من أغنيات عراقية، وأخرى بصوت المطربة المصرية الراحلة أم كلثوم، حتى تكتشف كارمن أن ثمة صلة بين تلك الأغنيات، وبين تهدئة مريضها. وبمحض الصدفة، انضمت إلى تلك الذاكرة السمعية، ذاكرة الشمّ التي ظهرت مع استدعاء سامي ذكريات أسرية بعيدة، بمجرد أن قام بشم عطر مُستخلص من زهرة «الخُزامى»؛ لتلعب الحواس في الرواية دورًا تنقيبيًا في ثقوب الذاكرة.

هُوية بديلة

أما عُمر، بطل الرواية الثاني، فيختبر خلال يومياته صراعًا مريرًا يخُص هُويته؛ فهو يترك العراق إلى الولايات المتحدة ليخوض معارك يومية من الاختباء، والذوبان في نسيج المجتمع الأمريكي. ويتنكر وراء هُويّة بديلة، ليحصل على عمل في مزرعة للماعز، ويُقنع الزبائن أنه ينتمي لأصول «بورتوريكية». يأخذ الزبائن الفضول لسؤاله عن ملامحه الشكلية، ولكنته التي يبدو أن لها جذور عربية. وبعد التعثر والتلعثم مرّات، ينسج عمر مجموعة من التفاصيل، التي تكتسب بالتكرار، وثقة الأداء، وقعًا مقنعًا له وللسامع؛ فوالداه «بورتوريكيّان»، لكنهما لم يتحدثا الإسبانية معه كثيرًا، حيث كانا يعملان في الخليج، وهناك نشأ يتحدث اللغة العربية، ما يفسر لهجته الغريبة، كما كان يقول للزبائن، متخفيًا وراء قناع تلك السردية المصطنعة.

ولمزيد من التستر وراء هذا القناع، كان عمر يسعى في الخفاء لتعلم مبادئ اللغة الإسبانية حتى يستطيع إتقان رسم هويته الجديدة، فكل ما يريده هو أن يعيش بعيدًا عن الضجيج الذي تسببت فيه السياسة والحرب. ولكن رغم إنكاره لأصوله أمام الزبائن، إلا أنه كان معروفًا لدى السلطات الأمريكية بأنه لاجئ عراقي؛ حيث وصل إلى الولايات المتحدة بأُذن مقطوعة جراء تعذيب تعرض له في العراق بعد هروبه من الجيش.

على الرغم مما يوحي به السرد في الرواية بانفصال حكايتي عمر، وسامي، إلا أن خيوط الحكايتين تبدأ في التقاطع في لحظة من لحظات مشقة استدعاء الذاكرة لدى طبيب القلب العجوز، في مقابل صخب الذكريات التي لا يجد عمر مفرًا منها.

على الرغم مما يوحي به السرد في الرواية بانفصال حكايتي عمر، وسامي، إلا أن خيوط الحكايتين تبدأ في التقاطع في لحظة من لحظات مشقة استدعاء الذاكرة لدى طبيب القلب العجوز، في مقابل صخب الذكريات التي لا يجد عمر مفرًا منها، مهما بذل من جهد لطمر تاريخه الشخصي وما يحمله من ندوب. 

مشروع سنان أنطون الروائي

تقع الرواية في 252 صفحة، وهي الرواية السادسة في مشروع سنان أنطون الروائي المشغول بتاريخ العراق وسنوات الحرب والدكتاتورية في عقودها الأخيرة. ومن أبرز أعماله الروائية: «إعجام» (2003)، و«يا مريم» (2012)، و«فهرس» (2016)، وتُرجمت أعماله إلى نحو 20 لغة وحازت على جوائز عالمية، منها حصول الترجمة الفرنسية لروايته البارزة «وحدها شجرة الرمان»، على جائزة معهد العالم العربي في باريس عام 2017. وإلى جانب مسيرته الروائية، يعمل سنان أنطون كمُحاضر للأدب العربي في جامعة نيويورك، بعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد عام 2006.

ومع شجن تساؤلات الوطن والاغتراب في «خُزامى»، فإن تمسك الروائي سنان أنطون بلغة الحوار باللهجة العامية العراقية على لسان أبطاله، يبدو من الركائز التي يحرص عليها في رواياته التي تفوح بـ«عراقيتها» المحلية، رغم ما يسببه ذلك أحيانًا من صعوبة في مجاراة معاني بعض مفرداتها العامية من جانب بعض القُراء العرب من غير العراقيين.

اقرأ أيضًا:

ابحث عن أحدث المنح الدراسية من هنا. ولمزيد من القصص، والأخبار، اشترك في نشرتنا البريدية، كما يمكنك متابعتنا عبر فيسبوك، ولينكد إن، وتويتر، وانستجرام، ويوتيوب

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى