مقالات رأي

عن تدريس الصحافة وسوق العمل.. قصة تجربة أكاديمية

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

قبيل مطلع العام الدراسي الجاري، تلقيت دعوة من جامعة السويس في مصر، لتدريس التطبيقات العملية للصحافة والنشر الإلكتروني، لطلاب الفرقة الأولى بكلية الإعلام وتكنولوجيا الاتصال.

وضعتني هذه الدعوة أمام تساؤلات عدة حول كيفية تقديم أسس الكتابة الصحفية، وأساسيات صناعة الصحافة التي تواجه تحديات شتى، إلى أولئك الشباب الذين اختاروا دراسة مجال يتداخل مع حياتهم اليومية بشكل لحظي.

يمكننا إدراك هذا التداخل بسهولة، بل وأن نرصد نظرية اتصالية مكتملة الأركان، في تحية، أو إشارة، أو تفاعل عابر بإعجاب أو تعليق بين شخص وآخر في كوكب «فيسبوك» الأزرق، أو عبر غيره من المنصات الاجتماعية ذات الإحصائيات المليارية، وفق التقارير المعنية.

اقرأ أيضًا: (عميد الهندسة بالجامعة الأمريكية في الشارقة فادي العلول لـ«الفنار للإعلام»: المهارات الناعمة أساسية مع دراسة التقنيات)

لكن لأن الصحافة علم يشمل هذا السلوك الاجتماعي السريع والعابر، ويتجاوزه إلى مصالح الناس في أدق تفاصيلها، فقد وجدت أنني في حاجة إلى بناء معادلة دقيقة، تربط بين ممارسةٍ تحقق معايير الجودة في هذه الصناعة، ومواكبة عالم الجيل الجديد من الطلاب، مع مراعاة متطلبات سوق العمل المتغيرة.

والاختبار الحقيقي لم يكن في صياغة هذه المعادلة فحسب، وإنما في ترجمتها إلى منهج عملي، يأخذ بنحو ثمانين طالبًا، يمثلون الفرقة الأولى بالكلية، إلى مبادئ الممارسة المهنية الرشيدة للصحافة، كما لو كانوا جزءًا من دورة إنتاج صحفي قائمة بالفعل.

ما قبل دراسة الصحافة

والعامل المهم، الذي لا يجب تجاوزه عند الحديث عن التدريس لطلاب العام الأول بالمرحلة الجامعية، مرتبط بالتعرف على المسار الذي سلكوه حتى وصلوا إلى مقاعدهم في الكلية التي التحقوا بها، وموقعها في قائمة رغباتهم التي سجلوها بعد اجتياز المرحلة الثانوية العامة. في اللقاءات الأولى لي مع الطلاب، كنا نكتشف أن الإعلام لم يكن في صدارة رغبات بعضهم، وإنما صار خيارهم الأخير في ضوء معدلات القبول، ومجموع الدرجات.

ولهذا، يجد المعلم الجامعي نفسه أمام مهمة أخرى تضاف إلى دوره الأكاديمي، وهي تنبيه طلابه، باستمرار، إلى السعي من أجل اكتشاف الفرص، والفوز بها من أفضل الخيارات المتاحة، لا البكاء على ما قد يظنونه الفرص الضائعة.

لغة تدريس الصحافة

ومثلما تكتسب اللغة الواضحة قيمة كبيرة في ممارسة الصحافة، فإنها عند عملية التدريس تعد ضرورة واجبة؛ حتى تناسب مقتضى الحال مع طلاب غادروا للتو مرحلة التعليم الأساسي، بعيدًا عن أي لغة نخبوية متقعرة. ويحفظ المشتغلون بالصحافة قاعدة مهمة في العمل الصحفي، وهي: الالتزام باستخدام لغة صحفية سلسة، ومتماسكة، لكن من دون أي تعقيد، بحيث يمكن لجميع القراء فهمها ببساطة، بغض النظر عن تفاوت درجات تحصيلهم العلمي.

الممارسة في قاعات الدراسة

تحول مدرج المحاضرات إلى ورشة عمل أسبوعية. كانت المهمة ثقيلة في ظل هذا العدد الكبير، لكن النتائج كانت مبشرة وواعدة جدًا.

ولم يكن ممكنًا تحقيق نتائج إيجابية من دون الربط المباشر بين ما يدرسه الطلاب، وما يفكرون فيه بشكل يومي، من أمور ترتبط بالحياة العامة ومصالح الناس. هل ارتفعت أسعار السلع الغذائية مجددًا؟ هل زاد سعر طبق البيض؟ هل تبدد حلم البعض بامتلاك سيارة جديدة بعد تضاعف أسعارها مؤخرًا؟ ما الجديد في قصة خلاف مطربة شهيرة مع زوجها؟ وما آخر أخبار انتقال لاعب نادٍ شهير إلى آخر منافس؟ وكيف تؤثر كل هذه الأمور في حياتنا؟

إذا كانت الصحافة تقوم على كشف المتناقضات، فإنها تعد بذلك ممارسة مباشرة للتفكير النقدي الذي يحث أصحابه على إعمال العقل، واستخدام أدوات التحليل المنطقي.

كنا، الطلاب وأنا، نضع ما يشغل بالهم من قضايا عامة على مائدة النقاش، ثم نحاول ترتيب هذه القضايا من حيث الأهمية والتأثير في حياة الجمهور العام. ووسط حماس طلابي، على مدار نحو ساعتين هي مدة المحاضرة، كنا نتعرف على مبادئ الخبر الصحفي، وأسس الكتابة السليمة، بل وحتى كتابة العنوان الصحفي، في ممارسة متقدمة كان الطلاب عند مستواها إلى درجة مذهلة، رغم حداثة تجربتهم مع الصحافة، دراسة وممارسة.

اقرأ أيضًا: (تطوير ألعاب الفيديو.. تخصص فريد يجد طريقه إلى جامعات الشرق الأوسط).

ومن قاعة التدريس إلى اختبارات نصف العام، واصل طلابي الشغوفون بالصحافة تألقهم، فكانت إجاباتهم في الاختبار الشفوي مثيرة للتأمل. كنا نسألهم عن تقييمهم لأبرز أخبار الصباح وهم في طريقهم إلى الجامعة، وترتيب أهميتها، كما كنا نطالبهم بطرح سؤال محدد على مسؤول عام بخصوص قضية تهم المواطنين، فكانوا يجيبون بأداء عملي جدير بالتقدير.

ولم يكن هذا النهج بعيدًا عن استراتيجية القسم الذي شرفت بالانتساب إلى هيئته التدريسية خلال تلك التجربة. وقد طالعت بعض الأسئلة، من امتحانات سابقة، أعدها رئيس قسم الصحافة والنشر الرقمي بالكلية، الدكتور حسين ربيع، للطلاب في اختبارات نهاية العام. وأثار إعجابي ذلك الحرص على الربط بين الدراسة والممارسة.

وإلى جانب الأسئلة التي تستعين بأخبار منشورة بالصحف، وتطلب من الطلاب تقييمها، وإبداء ملاحظاتهم بشأنها، كانت هناك أسئلة أكثر ارتباطًا بالواقع التطبيقي، ومنها سؤال يقول: تخيّل نفسك رئيس القسم الخارجي بإحدى الصحف المصرية، وطلب منك رئيس التحرير، ترشيح أحد المحررين للعمل كمراسل خارجي للجريدة بفرنسا، ما هي المواصفات والمعايير التي تحدد اختيارك لهذا المراسل؟ وسؤال آخر يطلب من كل طالب تحديد الأسئلة التي قد يطرحها على نفسه، قبل اتخاذ قرار بانتقاء وتغطية حدث معين يستحق النشر من بين عشرات الأحداث التي تقع يوميًا.

صحافة النوافذ المتعددة والتفكير النقدي

وإذا كانت الصحافة تقوم على كشف المتناقضات، فإنها تعد بذلك ممارسة مباشرة للتفكير النقدي الذي يحث أصحابه على إعمال العقل، واستخدام أدوات التحليل المنطقي، وفي مقدمتها طرح الأسئلة للبحث في جوهر الأشياء من أجل توصيف المشكلات، والبحث عن حلول لها.

محددات العمل الصحفي لا تتقيّد بوسيلة بعينها، مطبوعة، أو مسموعة، أو مرئية، وإنما ترتبط بقواعد أساسية إذا أتقنها الطلاب خلال العملية الدراسية، صاروا قادرين على تطبيقها عند ممارسة المهنة من خلال أي وسيط تقليدي، أو مستحدث.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن محددات العمل الصحفي لا تتقيّد بوسيلة بعينها، مطبوعة، أو مسموعة، أو مرئية، وإنما ترتبط بقواعد أساسية إذا أتقنها الطلاب خلال العملية الدراسية، صاروا قادرين على تطبيقها عند ممارسة المهنة من خلال أي وسيط تقليدي، أو مستحدث. ومن ذلك، ما قدّمه أحد طلابي حين خَطَّطَ لإنشاء قناة عبر موقع «يوتيوب» للتحليل الرياضي. ومع أهمية إتقان الأدوات التكنولوجية، الخاصة بالتصوير، والمونتاج، وغير ذلك، إلا أن قيم الصحافة نفسها تظل جوهرية عند الممارسة، سواء في اختيار الموضوع المطروح للنقاش، أو تحديد زاوية التناول، أو حتى قياس مدى الأهمية للمحتوى الذي يتم تقديمه للجمهور المستهدف.

وبالمثل، إذا أردنا تقديم المحتوى الصحفي نفسه، من خلال أي وسائط الإعلام الرقمي الجديد، فإن علينا تذكر قواعد العمل الأساسية، ثم ننطلق منها إلى تقرير «الشكل المناسب»، والمواكب لسلوك استهلاك المحتوى عند الجمهور، سواء كان في مقطع مرئي تفاعلي عبر «تيك توك»، أو من خلال محتوى مسموع يتم بثه في «بودكاست»، أو أيٍ من الأشكال العديدة التي تتيحها البيئة الرقمية التي تتطور باستمرار.

والنقاش حول التحديات التي تواجه صناعة الصحافة في عصر الرقمنة ليس جديدًا، ولا أظنه سيتوقف يومًا، وخاصة مع استمرار دوران عجلة الإبداع والتطور، بما في ذلك ما تضيفه التكنولوجيا لتجربة استخدام شبكة الإنترنت، ومدى سرعة، وكفاءة، وانتشار الشبكة لدى المستخدمين.

إن العمل على إكساب الطلاب المهارات العملية اللازمة لممارسة الإعلام، في تطبيقاته العديدة المتنوعة، يجب أن يكون فرضًا أساسيًا منذ اليوم الأول للدراسة، وعلى صناع القرار في مؤسسات التعليم العالي أن ينظروا إلى هذا الأمر كأولوية جديرة بالدعم والمساندة.

وتصدت دراسات عدة لهذا الموضوع، ومنها دراسة الباحث جاريث بريث، Gareth Price، بالمعهد الملكي للشؤون الدولية (The Royal Institute of International Affairs) (Chatham House)، والمنشورة في العام 2015، تحت عنوان: «فرص وتحديات الصحافة في العصر الرقمي.. وجهات نظر آسيوية وأوروبية». (للاطلاع على عرض موجز، باللغة العربية، لهذه الدراسة، اضغط هنا).

مستقبل دراسة الصحافة في الجامعات

في الختام، ومن واقع تلك التجربة، أرى ضرورة وضع التساؤل عن مستقبل دراسة الصحافة في الجامعات العربية على طاولة النقاش باستمرار، مع إشراك الأكاديميين والخبراء في عملية تستهدف استكشاف حلول ناجعة لأزمة تكدس الآلاف من خريجي تلك التخصصات في طوابير البطالة.

ومع التسليم بأن الأزمة بحاجة إلى دراسة أكثر عمقًا، أعتقد أن سبل العلاج لا يجب أن تغفل عن أهمية ربط الدراسة بالممارسة بشكل جاد، وصارم، وعبر آليات يمكن قياس نتائجها، وعدم الاكتفاء بمبادرات فضفاضة، أو زيارات يتم تنظيمها للطلاب إلى مقار مؤسسات الصحافة والإعلام من دون أن تكون هناك نتائج حقيقية.

إن العمل على إكساب الطلاب المهارات العملية اللازمة لممارسة الإعلام، في تطبيقاته العديدة المتنوعة، يجب أن يكون فرضًا أساسيًا منذ اليوم الأول للدراسة، وعلى صناع القرار في مؤسسات التعليم العالي أن ينظروا إلى هذا الأمر كأولوية جديرة بالدعم والمساندة.

*كبير محرري النسخة العربية في «الفنار للإعلام».

*محاضر ومدرب في تطبيقات الصحافة والنشر الرقمي.

للتواصل مع الكاتب: [email protected]

اقرأ أيضًا:

  ابحث عن أحدث المنح الدراسية من هنا. ولمزيد من القصص، والأخبار، اشترك في نشرتنا البريدية، كما يمكنك متابعتنا عبر فيسبوك، ولينكد إن، وتويتر، وانستجرام، ويوتيوب.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى