أخبار وتقارير

دليل الحرية الأكاديمية في الجامعات.. التاريخ والمفهوم والمعايير

مع ما تواجهه العملية التعليمية بالجامعات العربية من تحديات، يبرز ملف «الحرية الأكاديمية» كواحدٍ من العناوين الغائبة، أو «المسكوت عنها»، رغم تأثيرها الكبير على مختلف مظاهر النشاط البحثي والتعليمي.

وباستقراء تاريخ ظهور المفهوم، والمواثيق العالمية التي تعرضت له، يتبين أن الأرق الأكاديمي إزاء الحرية واحد منذ قرون مضت. وفي السطور التالية، يقدم «الفنار للإعلام» دليلًا موجزًا حول الحرية الأكاديمية، ومحاولات إرساء معايير لممارستها على نحوٍ يخدم الحق في التعليم العالي والبحث العلمي.

نحو تعريف الحرية الأكاديمية

تشير ورقة بحثية، نشرتها مؤسسة «حرية الفكر والتعبير»، في عام 2015، إلى تناول العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 كانون الأول/ديسمبر 1966)، الحق في التعليم، باعتباره إلزامًا للدول المصدقة عليه، لكن دون إشارة إلى الحرية الأكاديمية.

وقد انتبهت، لذلك، اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالأمم المتحدة (هيئة خبراء مستقلين ترصد تنفيذ دولها الأطراف للعهد الدولي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، فأصدرت تعليقًا شارحًا، في العام 1999، حول الحرية الأكاديمية.

اقرأ أيضًا: (هل هناك فرق بين مفهومي الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات؟).

وجاء في تعليق اللجنة: «إن أفراد المجتمع الأكاديمي، سواء بصورة فردية، أو جماعية، أحرار في متابعة، وتطوير، ونقل المعارف والأفكار عن طريق الأبحاث، أو التعليم، أو الدراسة، أو المناقشة، أو التوثيق، أو الإنتاج، أو الخلق، أو الكتابة. وتشمل الحرية الأكاديمية حرية الأفراد في أن يعبروا بحرية عن آرائهم في المؤسسة، أو النظام الذي يعملون فيه، وفي أداء وظائفهم دون تمييز، أو خوف، من قمع من جانب الدولة، أو أي قطاع آخر، وفي المشاركة في الهيئات الأكاديمية المهنية، أو التمثيلية، وفي التمتع بكل حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا، والمطبقة على الأفراد الآخرين في نفس الاختصاص».

وبحسب اللجنة نفسها، فإن التمتع بالحريات النقابية «يحمل معه التزامات مثل واجب احترام الحرية الأكاديمية للآخرين، وضمان المناقشة السليمة للآراء المعارضة، ومعاملة الجميع دون تمييز على أيٍ من الأسس المحظورة (..) ويتطلب التمتع بالحرية الأكاديمية استقلال مؤسسات التعليم العالي. والاستقلال هو درجة من حكم النفس لازمة لكي تتخذ مؤسسات التعليم العالي القرارات بفعالية بالنسبة للعمل الأكاديمي، ومعاييره، وإدارته وما يرتبط بذلك من أنشطة».

الحرية الأكاديمية.. التاريخ والمعايير

ومن واقع دراسات شتى تناولت قضية الحرية الأكاديمية، فإن الاهتمام بها يعود إلى تاريخ مبكر يكاد يرتبط بتاريخ تأسيس الجامعات نفسها في القارة الأوروبية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

«إن تحديد مفهوم الحرية الأكاديمية يُمهّدُ لفهمٍ أفضل للانتهاكات المتعلقة بها، وإيجاد طريقة واضحة لتبادل الآراء ووجهات النظر حول كيفية الدفاع عن الحرية الأكاديمية وتعزيزها في الجامعات».

ورقة بحثية – مؤسسة حرية الفكر والتعبير

في تلك الفترة، لم تسمح الكنيسة بتعليم المذاهب اللاهوتية والعلمية المخالفة لتعاليمها في الجامعة، وفي المقابل منحت جامعة لايدن الهولندية، التي أُسست في العام 1575، طلابها وباحثيها حرية العمل الأكاديمي والبحث والتدريس، في خطوة اعتبرها مؤرخون أولى خطوات تأسيس الحرية الأكاديمية. وفي العام 1610، منحت جامعة برلين لمنتسبيها الحق في حرية البحث والتدريس دون قيود خارجية، كما تخبرنا بذلك دراسة للأكاديمي العراقي، رياض عزيز هادي، نشرها مركز التطوير والتعليم المستمر، بجامعة بغداد، في العام 2010.

اقرأ أيضًا: (دعوة لزيادة جهود حماية الحرية الأكاديمية في مصر).

وتشير الدراسة المعنونة: (الجامعات.. النشأة والتطور – الحرية الأكاديمية – الاستقلالية)، إلى أن تبلور مفهوم الحرية الأكاديمية في الجامعات الألمانية، ساهم في انتشار الوعي بتلك القضية في الجامعات الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر.

ويتفق باحثون على وجود عدد من المبادرات، والإعلانات، التي ساهمت في إرساء مفهوم الحرية الأكاديمية، ومن أبرزها ما يلي:

إعلان ليما 1988

جاء إعلان ليما بشأن الحرية الأكاديمية واستقلال مؤسسات التعليم العالي، في العام 1988، ليصبح بمثابة الوثيقة التي أسست لمفهوم الحرية الأكاديمية، مدعومة بتأييد عدد كبير من الأكاديميين والمؤسسات المهتمة بالتعليم العالي.

وجاءت فكرة الإعلان، الذي يضم تسعة عشرة مادة، من حلقة تدريبية نظمتها الخدمة الجامعية العالمية – وهي شبكة مهتمة بالتعليم العالي – في عام 1984، وشارك في صياغته أكثر من 50 منظمة متخصصة.

ينص إعلان ليما على أن «الحرية الأكاديمية شرط مسبق أساسي لوظائف التعليم والبحث والإدارة والخدمات التي تُسند إلى الجامعات، وغيرها من مؤسسات التعليم العالي»، ويضيف أن «كل عضو في المجتمع الأكاديمي يتمتع بوجهٍ خاص بحرية الفكر والضمير والدين والتعبير والاجتماع والانضمام إلى الجمعيات، وكذلك بالحق في الحرية والأمن الشخصي، وحرية الحركة، والدولة ملزمة بحماية هذه الحقوق التي ينص عليها عهد الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان (..) ولا يُفصَلُ أي عضو من المجتمع الأكاديمي دون تحقيقٍ عادلٍ أمام هيئة من المجتمع الأكاديمي منتخبة ديمقراطيًا».

اقرأ أيضًا: (دعوات للحرية الأكاديمية العربية يتردد صداها عبر المحيط الأطلسي).

وبحسب الإعلان نفسه فإن جميع أعضاء المجتمع الأكاديمي الذين يضطلعون بمهام بحثية «لهم الحق في إجراء بحوثهم دون أي تدخل، رهنًا بالمبادئ والمناهج العالمية للبحث المحدد، ولهم الحق في إبلاغ نتائج بحوثهم إلى الآخرين بحرية، ونشرها دون رقابة، ولجميع أعضاء هيئة التدريس الحق في التدريس دون أي تدخل رهنًا بمبادئ التدريس ومناهجه، ولجميع أعضاء المجتمع الأكاديمي حرية إقامة الاتصالات مع نظرائهم في العالم، والحرية في تنمية قدراتهم التعليمية».

إعلان كمبالا 1990

وفي عبارات مشابهة، جاء إعلان كمبالا بشأن الحرية الأكاديمية (1990)، حيث نصَّ في مادتيه السابعة والثامنة على: «لكل أعضاء هيئات التدريس والبحث وطلاب المؤسسات التعليمية الحق – بشكل مباشر ومن خلال ممثليهم المنتخبين – البدء، والمشاركة في، وتحديد البرامج الأكاديمية لمؤسساتهم وفقًا لأعلى المقاييس التعليمية»، و«يكون لأعضاء التدريس والبحث في المجتمع الفكري ضمان التثبيت في وظائفهم، ولا يُطردون من أعمالهم إلا لأسباب سوء السلوك الفادح، أو ثبوت عدم الكفاءة أو الإهمال الذي يتعارض مع المهنة الأكاديمية، وتكون إجراءات الفصل التأديبية القائمة على الأسس المذكورة في هذه المادة وفقًا للإجراءات الموضوعة، والتي تشترط جلسة استماع عادلة أمام هيئة منتخبة».

إعلان عمان للحريات الأكاديمية 2004

وإلى العالم العربي، نجد إعلان عمان كمحاولة بارزة لصياغة مبادئ ومعايير مفهوم الحرية الأكاديمية. وقد خرج هذا الإعلان من رحم مؤتمر الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية، الذي نظمه مركز عمان لدراسات حقوق الإنسان في عمان بالأردن، في كانون الأول/ديسمبر 2004.

«التحديات والمخاطر التي تواجهها الحرية الأكاديمية لا تقتصر على الدولة والمؤسسات الدينية فحسب، بل إنها غالبًا ما هُددت أيضًا بالقيود والتحديات من المجتمع ومختلف الأيديولوجيات الفاعلة في الوسط الاجتماعي».

الأكاديمي العراقي رياض عزيز هادي – دراسة بعنوان: «الجامعات.. النشأة والتطور – الحرية الأكاديمية – الاستقلالية»

وقد دعا هذا الإعلان إلى «ضرورة إلغاء الوصاية السياسية عن المجتمع الأكاديمي، والتزام السلطات العمومية باحترام استقلال المجتمع العلمي بمكوناته الثلاثة: الأساتذة، والطلبة، والإداريون». وأشار إلى أن الحرية الأكاديمية تشمل: «حق التعبير عن الرأي، وحرية الضمير، وحق نشر المعلومات والمعارف وتبادلها، كما تشمل حق المجتمع الأكاديمي في إدارة نفسه بنفسه، وتأكيد حق أعضاء الهيئة الأكاديمية العربية في الانسياب عبر الدول العربية، وفي التواصل مع المجتمع الأكاديمي على الصعيد العالمي». 

محاولة مصرية نحو الحرية الأكاديمية

وقد شهدت مصر، في العام 1995، محاولة لتأسيس لجنة للحريات الأكاديمية، والتي وضعت مجموعة من المبادئ لتحديد مفهوم الحرية الأكاديمية، أبرزها: «عدم تعرض أي باحث للقهر، أو الاضطهاد، أو أي شكل من أشكال العقاب في حياته الأكاديمية، أو في حياته العامة، بسبب الأبحاث التي يجريها، أو بسبب نتائج هذه الأبحاث، وتوفير فرص حقيقية ومتساوية للجميع للانخراط في المجتمع الأكاديمي وفقًا للقدرات»، وذلك بحسب الكتاب الصادر عن «مركز البحوث العربية»، في العام 2000، تحت عنوان: «الحرية الفكرية والأكاديمية في مصر»، لأحمد نبيل الهلالي، وآخرين.

إعلان الحرية الأكاديمية 2005

ويذهب باحثون إلى القول بأن إعلان الحرية الأكاديمية 2005 – الصادر عن المؤتمر العالمي الأول لرؤساء الجامعات بجامعة كولومبيا بدعوة من أمين عام الأمم المتحدة – يعد المحاولة الأكثر دقة في تحديد مفهوم الحرية الأكاديمية، حيث اعتبرها متمايزة عن حرية الفكر والرأي، والتجمع والتنظيم المعترف بهم لجميع الأشخاص بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهود الدولية الأخرى.

اقرأ أيضًا: (هل الاعتماد الأميركي للجامعات العربية يضمن أسلوب حرية أكاديمي أميركي؟).

والحرية الأكاديمية تعني تحديدًا، وفق هذا الإعلان: «حرية البحث، والتدريس، والتحدث، والنشر، مع الالتزام بمعايير وقواعد البحث العلمي، دون تدخل أو فرض عقوبات، ودون تقويض لما يمكن أن يقود إليه هذا البحث، أو الفهم».

تعريف إجرائي للحرية الأكاديمية

وفي السياق نفسه، يدعو الأكاديمي البريطاني، جون بيتر ديكنسون، إلى الأخذ بالتعريف الإجرائي والعملي الذي ينظر إلى الحرية الأكاديمية على أنها تضم أربعة عناصر يمكن قياسها، والتأكد من تحققها على أرض الواقع.

وهذه العناصر، كما أوردها في كتابه المعنون: (العلم والمشتغلون بالبحث العلمي في المجتمع الحديث، ت: شعبة الترجمة في اليونسكو، عالم المعرفة، 112، الكويت، 1986)، هي:

1 – الاستقلال الداخلي للمؤسسات الجامعية والبحثية.

2 – تعدد مصادر تمويل هذه المؤسسات بما في ذلك تعدد تمويل البحوث الأساسية والتطبيقية.

3 – الأمن الوظيفي للباحثين والأكاديميين.

4 – وجود هيئة، أو جمعية مهنية تتولى تمثيل الباحثين والأكاديميين تدافع عن مصالحهم بصورة فردية أو جماعية.

تحديات ومخاطر

وفيما يرى الأكاديمي العراقي رياض عزيز هادي، أن التحديات والمخاطر، التي تواجهها الحرية الأكاديمية، «لا تقتصر على الدولة والمؤسسات الدينية فحسب، بل إنها غالبًا ما هُددت أيضًا بالقيود والتحديات من المجتمع ومختلف الأيديولوجيات الفاعلة في الوسط الاجتماعي»، تخلص الورقة البحثية المنشورة لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، عن الموضوع نفسه، إلى أن تحديد مفهوم الحرية الأكاديمية «يُمهّدُ لفهمٍ أفضل للانتهاكات المتعلقة بها، وإيجاد طريقة واضحة لتبادل الآراء ووجهات النظر حول كيفية الدفاع عن الحرية الأكاديمية وتعزيزها في الجامعات».

اقرأ أيضًا:

  ابحث عن أحدث المنح الدراسية من هنا. ولمزيد من القصص، والأخبار، اشترك في نشرتنا البريدية، كما يمكنك متابعتنا عبر فيسبوك، ولينكد إن، وتويتر، وانستجرام، ويوتيوب.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى