أخبار وتقارير

حسني هداهد..قطار أكبر باحث مصري سنًا يغادر محطته الأخيرة

بينما كان يستعد لدراسة الدكتوراه، أحبط الموت خطط الباحث حسني هداهد، الملقب بأكبر باحث دراسات عليا في مصر، الذي فضّل مكابدة مشاق التعلم، وهو شيخ مسن، على أن يكون عضوًا في «مقهى المعاشات»، ذلك المصطلح الذي يشيع في أوساط المصريين بعد الإحالة للتقاعد.

الرجل الذي رحل عن عالمنا، الثلاثاء، عن نحو خمسة وثمانين عامًا، من مواليد قرية تلين، بمدينة منيا القمح، بمحافظة الشرقية (شرق دلتا النيل). حصل على مؤهل متوسط (دبلوم المعلمين)، في شبابه المبكر، ليعمل في سلك التعليم، ويتدرج في الوظائف، إلى أن أصبح «مدير مرحلة» بإدارة منيا القمح التعليمية، قبل تقاعده.

اللافت في مسيرة «هداهد»، كما يروي في لقاء تلفزيوني، أنه حاول أثناء عمله الرسمي، اجتياز المرحلة الثانوية، مرتين، ولم يوفق، من دون أن يوقفه ذلك عن محاولة طرق أبواب الجامعة مجددًا، وهو في السابعة والسبعين من العمر.

بداية قصة الالتحاق بالجامعة، كانت مع قراءته إعلانًا في إحدى الصحف، في العام 2014، عن استقبال جامعة طنطا، دفعة من الطلاب للدراسة بنظام «التعليم المفتوح»، ليقرر الالتحاق بكلية الآداب، وينال درجة الليسانس، بعد أربع سنوات، بتقدير جيد جدًا.

«كان طالبًا جادًا، درس على يديّ، وعلى زملائي في السنة التمهيدية للماجستير. ولم يتغيب، في الحقيقة، محاضرة واحدة. وكان مثابرًا، ودؤوبًا في العمل كأنه شاب في مقتبل العمر. وكان مقبلًا على الدراسة، ومحبًا لها».

أحمد حسين سعفان
أستاذ الأدب العربي الذي أشرف على رسالة ماجستير حسني هداهد بجامعة المنصورة.

حفاوة وتكريم

ولم يكتف بذلك، فبادر، وكان قد جاوز الثمانين من العمر، إلى الالتحاق بصفوف الدراسات العليا بكلية الآداب في جامعة المنصورة. وعقب اجتيازه السنة التمهيدية، انخرط في إعداد أطروحته لنيل درجة الماجستير، وقد أنجزها في أقل من عام واحد، وحاز الدرجة العلمية الرفيعة بتقدير ممتاز، عن دراسته التي حملت عنوان: «فنيات التصوير في شعر الخبز أرزي»، وهو شاعر من العصر العباسي، وكان أميًا، لا يقرأ ولا يكتب، وكان يرتجل الشعر ارتجالًا، وله ديوان واحد، جمعه له الشاعر ابن لنكك البصري.

في ذلك اللقاء، الذي أجري عقب حصوله على الماجستير في العام 2020، لم ينس «هداهد»، الإشادة بأساتذته الذين فتحوا أمامه أبواب التعلم، حيث أشار إلى استقبال عميد كلية الآداب بجامعة المنصورة، آنذاك، د. رضا سيد أحمد، له واقفًا، وهو يقول مشجعًا: «ستكون فخرًا للكلية».

وقد تلقى حسني هداهد، تكريمًا من السلطات المحلية بمحافظة الشرقية بعد نيله الماجستير، وسط حفاوة الباحثين بالأوساط الأكاديمية، لإصراره ومثابرته على التعلم، رغم المتاعب المصاحبة للتقدم في العمر.

ورغم ما وجد من احتفاء، إلا أن رحلته مع العلم لم تخل من متاعب، حيث يذكر في أحد اللقاءات، أنه كان يخرج من مقر مسكنه بمحافظة الشرقية، قبيل دخول الفجر، في أجواء ممطرة أحيانًا، ليلحق بمحاضرات جامعة المنصورة في وقت مبكر. وعن ذلك، يقول: «لم أعبأ، ولم أهتم. كنت أرى تكريمًا واحترامًا من الأساتذة، وعميد الكلية. إذا تأخرت بعض الوقت يبادرون بالسؤال عني. والحمد لله، لم أتأخر في محاضرة واحدة».

ولم يغفل «هداهد» الدور الذي لعبته زوجته في دفعه نحو مسار التعلم، حتى أنه أهداها رسالته للماجستير، قائلًا: «أهدي هذه الرسالة إلى زوجتي: زينب عبد الغني محمد حسين، وهي التي كتبت كتاب الله (القرآن الكريم) ثلاثين مرة بخط يدها، ولم تتعلم أكثر من المرحلة الابتدائية».

حسني هداهد بين أعضاء لجنة الإشراف والمناقشة على رسالته للماجستير - المصدر: (موقع انفراد).
حسني هداهد بين أعضاء لجنة الإشراف والمناقشة على رسالته للماجستير – المصدر: (موقع انفراد).

وفي رسالة منه إلى الشباب، قال: «رسالتي إلى الشباب، وإلى غير الشباب، أن يمحوا كلمة مستحيل من قاموسهم. وإذا كانت نيتك صافية وصادقة في تحصيل العلم، تأكد أن الله سيعينك ويحقق لك ما تصبو إليه».

طالب جاد ومثابر

في اتصال هاتفي مع «الفنار»، قال الدكتور أحمد حسين سعفان، أستاذ الأدب العربي القديم المتفرغ بكلية الآداب جامعة المنصورة، والذي أشرف على رسالة «هداهد» للماجستير، إن الطالب كان من كبار السن الذين التحقوا بالكلية، بعدما جاء به، إليه، الأستاذ الدكتور سمير حسون رئيس القسم، في يوم من الأيام.

وأضاف: «قال لي رئيس القسم إن هذا الطالب يريد أن يعمل معك في الأدب العربي». وتابع: قلت له: «هل يا عم حسني أنت قادر على العمل وعلى العطاء؟. فقال: إن شاء الله». وأشار «سعفان» إلى أنه اختار الشاعر الخبز أرزي، ليكون موضوعًا لرسالة «هداهد»، وقد «درسه الطالب بقدر ما أتيح له من الضوء»، وفق تعبيره.

وعن انطباعاته عنه أثناء الإشراف على رسالته العلمية، قال: «كان طالبًا جادًا، درس على يديّ، وعلى زملائي في السنة التمهيدية للماجستير. ولم يتغيب، في الحقيقة، محاضرة واحدة. وكان مثابرًا، ودؤوبًا في العمل كأنه شاب في مقتبل العمر. وكان مقبلًا على الدراسة، ومحبًا لها، وكأنه عاد إلى الشوق القديم الذي حضّه أيام الصبا».

«كان (حسني هداهد) يمسك قلمًا وورقة، ويدون الملاحظات التي يقولها المناقش للباحث، ليفيد منها في رسالته، على عكس غيره من الباحثين صغار السن».

محمد سيد ربيع
العميد السابق لكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدمياط.

وواصل «سعفان»: «أنجز معي رسالته للماجستير، وناقشه أستاذان جليلان، هما: الأستاذ الدكتور مختار عطية عبد العزيز، أستاذ الأدب والبلاغة والنقد في كلية الآداب بجامعة المنصورة، ومعه أيضًا الأستاذ الدكتور محمد سيد ربيع، العميد السابق لكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدمياط. وقد مُنح الدرجة بتقدير ممتاز».

وبعبارة رثاء، أضاف: »علمت من أحد تلاميذنا، بأنه انتقل إلى جوار ربه، بعدما قدّم مثالًا للشباب الواعد، بأن يعمل وأن يجتهد وأن يحصّل العلم ما أتيح له ذلك».

وبالمثل، يقول الدكتور محمد سيد ربيع، في تصريح لـ«الفنار»، إن الباحث الراحل كان حريصًا على مواصلة البحث لدراسة الدكتوراه، بعد الماجستير، كما كان حريصًا على حضور معظم مناقشات الرسائل العلمية، قبل مناقشة رسالته.

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

ويصفه في تلك المناقشات، قائلًا: «كان يمسك قلمًا وورقة، ويدون الملاحظات التي يقولها المناقش للباحث، ليفيد منها في رسالته، على عكس غيره من الباحثين صغار السن». ويضيف «ربيع»: «كنت أشفق عليه من كثرة سفره بين محافظتي الدقهلية والشرقية. وكنت فخورًا به، وبحرصه على التعلم، وهو في تلك المرحلة العمرية التي يركن فيها غيره للدعة والراحة».

سُئل «هداهد»، ذات مرة، عن أمنياته، فأجاب بأنه يرغب في الحصول على الدكتوراه، «لا أكثر ولا أقل»، وفي إجابة أخرى عن نفس السؤال، قال إنه سيسعى إلى نيل الدكتوراه «إن كان في العمر بقية»، غير أن الموت كان أسبق من خطاه.

مقالات ذات صلة:

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى