أخبار وتقارير

بعد التجديد.. بغداد تعيد ليالي الثقافة العراقية إلى شارع المتنبي

في احتفال نظمته السلطات المحلية في العراق، مطلع الأسبوع، أضاءت الألعاب النارية سماء بغداد، بمناسبة إعادة افتتاح شارع المتنبي بعد تجديده، بما يمثله من قيمة ثقافية في واحدة من أبرز العواصم العربية.

وأعادت أعمال الترميم البريق إلى واجهات المباني المزخرفة، بطرازاتها المميزة، وشرفاتها، وأسيجتها الحديدية المشغولة بالزينات المضيئة. ويقع الشارع، الذي يعود تاريخه إلى العصر العباسي، قبل ألف عام تقريبًا، في الحي القديم من بغداد، ويحيط به المتحف البغدادي التراثي والقشلة، وهي ثكنة عثمانية من القرن التاسع عشر تحولت الآن إلى مركز ثقافي.

في عام 1932، أطلق الملك فيصل الأول (حكم العراق بين عامي 1921 و1933)، على الشارع اسم المتنبي تيمّنا باسم الشاعر الشهير من القرن العاشر الميلادي أبو الطيّب المتنبي. والآن، يمثل تمثال الشاعر المطل على نهر دجلة بداية الشارع الذي ينتهي بقوس مزين بمقتطفات من قصائده.

بعد حضوره الاحتفال، يقول خلدون عباس، مؤسس مجموعة الطوارئ للإغاثة الانسانية، لـ«الفنار»: «لطالما تساءلت عن سبب إهمال وتجاهل الأحياء والشوارع التاريخية، مثل شارعي الرشيد والمتنبي. هذه التفاتة مهمة لتشجيع التغيير الذي نحتاج إليه، ولننقل للعالم حقيقة وجود حياة في بغداد رغم كل شيء».

«لطالما تساءلت عن سبب إهمال وتجاهل الأحياء والشوارع التاريخية، مثل شارعي الرشيد والمتنبي. هذه التفاتة مهمة لتشجيع التغيير الذي نحتاج إليه، ولننقل للعالم حقيقة وجود حياة في بغداد رغم كل شيء».

خلدون عباس
مؤسس مجموعة الطوارئ للإغاثة الانسانية

ومنذ سنوات طويلة، ظل الشارع العراقي الشهير، الذي تتراص على جانبيه المكتبات، على امتداد أقل من كيلومتر واحد، مقصدًا للطلاب والمثقفين. وفي يوم الجمعة من كل أسبوع، يتحول المكان، بما فيه من مكتبات، وأكشاك كتب، ومقاهٍ قديمة، إلى ساحة رحبة وفريدة للمثقفين بما يوفره من أجواء، ومؤلفات تروج في الأوساط الثقافية.

وشملت احتفالات السبت، عروضًا للمهرجين، وعزفًا للموسيقى والأغاني الشعبية البغدادية، وعرض مسرحية قصيرة قدمها طلاب كلية الفنون الجميلة مرتدين الأزياء التقليدية، بالإضافة إلى معرض فني، وآخر للكتب بالشارع الذي بات مخصصًا للمارة فقط بعد إعادة رصفه بالطابوق. كما انتصبت شجرة الميلاد الضخمة على ضفاف نهر دجلة تحت سماء أضاءتها الألعاب النارية.

ويرى سعد سلوم، المنسق العام لمؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية، وهي منظمة غير حكومية معنية بدراسات الذاكرة الجماعية، أن للشارع «رمزية كبيرة لبغداد».

معرض الصور: شارع المتنبي يعود للحياة

ويضيف لـ«الفنار»، وهو أستاذ مساعد بكلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية: «في العقد الماضي، يمكنني تقسيم بغداد إلى ثلاث مناطق: المنطقة الخضراء، حيث دماغ الحكومة ومركز البعثات الأجنبية والسفارات، والمنطقة الرمادية، خارج المنطقة الأولى، والمنطقة الثقافية التي يمثلها هذا الشارع. ورغم محاولات تقسيم بغداد إلى مناطق شيعية وسُنية، حافظ هذا المكان على هوية الوطن المتنوعة، وظل ممثلاً لعراق أشمل عبر التاريخ».

ويقول «سلوم»: «قد يكون الشارع من أقدم أماكن بيع الكتب في العالم، وهو يمثل استمرارية التعددية الثقافية والتنوير والوحدة في التنوع في بغداد».

ملتقى مثقفي العراق

ويُنظر إلى الشارع اليوم على أنه مقياس لحالة الثقافة العراقية على مدى قرون، حيث كان ملتقىً للنخب الثقافية في العراق، حتى في ظل الدكتاتورية والحرب الأهلية الدموية في عام 2006. في آذار/ مارس 2007، أسفر انفجار سيارة مفخخة يقودها انتحاري عن مقتل 30 شخصًا وجرح 60 آخرين في الشارع، وتدمير الشركات والمكتبات. ويتابع «سلوم»: «كان ذلك الهجوم اعتداءًا على حلقة مهمة من حلقات الهوية العراقية».

«إنه الآن مثل حديقة هايد بارك في لندن؛ إذ يمكنك حضور عروض مسرحية في الشارع، ورؤية الشباب يعزفون على الجيتار، وحضور فعاليات لقراءات من الروايات».

سعد سلوم
أستاذ مساعد بكلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية

بعد عام، أعيد افتتاح الشارع، فيما بدأت بعض مباني الثكنة العثمانية القديمة في استضافة صالونات ثقافية أسبوعية مع تحسن الوضع الأمني في بلدٍ أنهكته الحروب. ويوضح مدرس العلوم السياسية: «إنه الآن مثل حديقة هايد بارك في لندن؛ إذ يمكنك حضور عروض مسرحية في الشارع، ورؤية الشباب يعزفون على الجيتار، وحضور فعاليات لقراءات من الروايات. كما يوفر الشارع للكُتاب فرصة اللقاء المباشر مع قرائهم. إنه مكان فريد في العالم العربي».

نهضة فنية وثقافية

بعد عقود من الصراع، جاء هذا التجديد بالتزامن مع علامات على وجود نهضة فنية وثقافية في العراق. وقد تجلى ذلك من خلال انطلاق فعاليات مهرجان بابل الدولي بعد توقف دام 18 عامًا، وافتتاح صالات عرض فنية خاصة جديدة في بغداد، وتنظيم معارض كتب وحفلات موسيقية لنجوم البوب المصريين واللبنانيين بحضور الآلاف.

في زيارته الأخيرة للعراق، رحب المهندس المعماري، زيد عصام، بمشروع إعادة التأهيل الذي طال انتظاره بعد تفجير العام 2007. ويقول «عصام»، المقيم في عمّان، لـ«الفنار»: «بعد الانفجار، لم تحدث صيانة حقيقية، فيما تركت إساءة الاستخدام وشاحنات الكتب ذات الحمولة الثقيلة أرضية الشارع محطمة، فيما انتشرت فوضى من الأسلاك الكهربائية في كل مكان. كان الشارع بحاجة إلى مثل هذا المشروع، والذي يمكن وصفه بأنه أعمال صيانة».

خلدون عباس، من مجموعة الطوارىء للإغاثة الإنسانية، برفقة مجموعة من الشبان العراقيين بالأزياء البغدادية التراثية. قدم طلاب كلية الفنون الجميلة تمثيلية تراثية في حفل إعادة افتتاح الشارع التاريخي. (الصورة: خلدون عباس).
خلدون عباس، من مجموعة الطوارىء للإغاثة الإنسانية، برفقة مجموعة من الشبان العراقيين بالأزياء البغدادية التراثية. قدم طلاب كلية الفنون الجميلة تمثيلية تراثية في حفل إعادة افتتاح الشارع التاريخي. (الصورة: خلدون عباس).

وفيما يبدي بعض التحفظات فيما يتعلق بالمواد المستخدمة والتشطيب والأضرار التي لحقت بالشرفات القديمة، يرحب «عصام» باستجابة القائمين على المشروع لنداء المهندسين المعماريين العراقيين، بعدم تركيب مظلات غير مناسبة، كانت قد شوهدت في التصاميم الأولية لخطة التجديد.

ومع ذلك، يقول صاحب متجر لبيع الكتب، طلب عدم ذكر اسمه، لـ«الفنار» إن فترة التجديد تجاوزت الخطة وأثرت سلبًا على أعمالهم. ويوضح: «لم يكتمل الترميم بعد. اقتصر الأمر على رصف الأرضية واستبدال الأرصفة ودهان المباني. أخشى أن يتم إهماله قريبًا بسبب عدم متابعة أي مشروع في العراق. أخشى رؤية ذات الفوضى من جديد في غضون أقل من عام».

إحياء ليالي بغداد القديمة

ويشير «عصام» إلى أن الإضاءة الجديدة المبهجة أعادت الحياة الليلية إلى شارع كان يُهجر في العادة قُبيل المساء. ويضيف: «سررتُ كيف أن هذه الإضاءة ووجود القوات الأمنية ساعدت شارع المتنبي على استقبال العائلات في ساعات المساء المتأخرة. اتخذ بائع السميط وفطائر البوريك زاوية في الشارع لخدمة عملائه الجدد». ويقول: «قد يُسهم ذلك في إعادة الحياة الليلية في شارع المتنبي، وربما شارع الرشيد، فضلاً عن ربط الناس بشكل أفضل ببغداد القديمة».

أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.

ومن جانبه، يرى «سلوم» الأمر خطوة لإبراز أهمية أحياء بغداد التاريخية وجذب السياح الأجانب الذين بدأ عددٌ متزايد منهم زيارة البلاد بالفعل. وقال: «يمثل هذا الترميم آخر خط دفاع لحماية وحدة العراق». ويضيف: «يمكن أن تصبح الأمتار الـ900 التي تفصل بين تمثال المتنبي وتمثال الشاعر العراقي معروف الرصافي (1875-1945) أكبر جولة ثقافية في الوطن العربي. إنها تختزل الوقت الفاصل بين العصور الوسطى وتاريخ العراق الحديث. ستشعر أنك في بغداد التاريخية؛ بغداد التي لا يمكن أن تُطمر تحت الرماد».

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى