أخبار وتقارير

دور نشر ومكتبات سورية تودع الحركة الثقافية لأسباب اقتصادية

في ضربة موجعة لحركة النشر والبحث والثقافة بسوريا، ودعت دور نشر، ومكتبات عدة، مسيرتها مع صناعة الإبداع، على خلفية أزمة اقتصادية خانقة تشهدها البلاد.

دار معابر للنشر والترجمة، واحدة من تلك المؤسسات الثقافية التي أغلقت أبوابها، بعد نحو عشرة أعوام على انطلاق أعمالها في العاصمة السورية دمشق. وجاء «غلاء المواد الأساسية للورق والأحبار، وكذلك ارتفاع الأجور، في مقدمة الأسباب» التي أدت إلى ذلك القرار، في عام 2015، كما يقول مؤسسو الدار.

شيئًا فشيئًا تحولت الأزمة إلى ظاهرة؛ فلم يعد قرار الإغلاق قاصرًا على دار نشر هنا أو أخرى هناك، بل شمل عددًا كبيرًا منها، وخاصة خلال الأعوام الخمسة الماضية. كما ودعت مكتبات عدة تاريخها مع صناعة النشر والثقافة «بسبب ركود عملية البيع»، ومنها: مكتبة «نوبل»، و«الذهبي»، و«عالم المعرفة»، و«ميسلون»، وغيرها.

وفي تصريح إلى «الفنار»، تقول منى هلال، من مؤسسي دار معابر للنشر: «اضطررنا إلى اتخاذ قرار مؤقت بالإغلاق بسبب تمسكنا بمنهجنا في نشر كتب الفلسفة والترجمة، وعدم الانجرار نحو الكتب الاكثر مبيعًا؛ فالمترجم السوري، اليوم، بات يفضل العمل مع الجهات الخارجية، عن التعامل مع دور النشر السورية بعد خفض المقابل المادي، بالإضافة إلى إغلاق سوق تصدير الكتب أمام غالبية دور النشر في البلاد».

وتضيف «هلال»، التي أسست منذ 14 عامًا، دار معابر للنشر، مع زوجها الراحل أكرم أنطاكي: «في مواجهة الأزمات المتتالية الناتجة عن الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد، اضطررنا لخفض عدد النسخ المطبوعة من كل الكتب المنشورة، وابتكار طرق جديدة بديلة لعملية البيع مثل تأجير الكتب للطلاب في الجامعات السورية؛ لكن لم تفلح هذه الطرق في تفادي اتخاذ قرار التوقف عن النشر عام 2015، وخاصة بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدتها الدار». وتعرب الناشرة السورية عن أملها في أن تدعم وزارة الثقافة في البلاد، دور النشر «التي تعاني كثيرًا، من أجل ضمان استمراريتها، في مواجهة الركود الذي يضرب الجميع، ويعصف بالصناعات الثقافية في سوريا».

«دور النشر السورية لا تعتمد اليوم على المكتبات المحلية لبيع كتبها، لكنها تعتمد، بشكل رئيسي، على مشاركتها في المعارض الخارجية».

سعيد البرغوثي
مالك دار كنعان للدراسات والنشر السورية

وتتزامن هذه الإغلاقات المتكررة للمكتبات ودور النشر، مع نشوء ظاهرة انتشار المكتبات التراثية المتخصصة في بيع الكتب الدينية، والتي حققت «رواجًا لافتًا» في حجم مبيعاتها، خلال السنوات الأخيرة، بحسب ناشرين وموزعي كتب في سوريا.

ويقول سعيد البرغوثي، مالك دار كنعان للدراسات والنشر السورية، لـ«الفنار»، عن تراجع حركة توزيع الكتب داخل البلاد: «دور النشر السورية لا تعتمد اليوم على المكتبات المحلية لبيع كتبها، لكنها تعتمد، بشكل رئيسي، على مشاركتها في المعارض الخارجية». ويشير، في الوقت نفسه، إلى وجود «صعوبات كبيرة تواجه عملية تسويق الكتب في لبنان، خلافًا لما كان عليه الوضع في السابق».

ومازالت دار كنعان للنشر، التي تتخذ من العاصمة دمشق مقرًا لها، منذ تأسيسها عام ١٩٨٩، تكافح في مواجهة «حالة الكساد التي تعيشها صناعة النشر». وقد لجأت الدار إلى تخفيض عدد النسخ المنشورة لكل عنوان يصدر عنها من أربعة آلاف نسخة إلى خمسمائة نسخة فقط، في الوقت الراهن.

يضيف «البرغوثي»: «سوق الكتاب تضاءلت كثيرًا لعوامل اقتصادية بالدرجة الأولى. نعم، لا تزال بعض المكتبات قائمة هنا وهناك، ولكن المصدر الأهم، اليوم، للكتب في سوريا، هو مواقع قرصنة الكتب على الإنترنت، ويأتي بعدها مباشرة باعة الشوارع (البسطات) التي تبيع نسخًا مقرصنة (مطبوعة بشكل غير شرعي) ورديئة، من الكتب الأكثر مبيعًا، في المنطقة».

كما يعتقد «البرغوثي» أن انتشار باعة الكتب المتجولين «من أسباب الركود كذلك»، مشيرًا إلى أنهم ينتشرون «أسفل الجسور الرئيسية في العاصمة السورية، وبعض المناطق الأخرى، حيث يبيعون نسخًا من أحدث الإصدارات، بأقل من ربع ثمنها، وهي نسخ مطبوعة بطرق ومواد بدائية رديئة، لكنها تلبي حاجة ما تبقى من القراء في البلد».

عن تلك الأزمة، يقول الروائي السوري يعرب العيسى لـ«الفنار»: «في سوريا، توقفت الصناعة، ومحطات الكهرباء، والصحافة، والدراما، ومزارع الدواجن، فلم ستكون المكتبات مستثناة عن بقية بنى الحياة السورية؟ بلد بكامله يمر بمرحلة احتضار، كجسد يفقد وظائف أعضائه، واحدًا تلو الآخر. ما يحتاج لتفسير حقًا هو صمود بعض المكتبات حتى الآن».

«في سوريا، توقفت الصناعة، ومحطات الكهرباء، والصحافة، والدراما، ومزارع الدواجن، فلم ستكون المكتبات مستثناة عن بقية بنى الحياة السورية؟ بلد بكامله يمر بمرحلة احتضار، كجسد يفقد وظائف أعضائه، واحدًا تلو الآخر. ما يحتاج لتفسير حقًا هو صمود بعض المكتبات حتى الآن».

يعرب العيسى
الروائي السوري

ويتابع «العيسى»، المقيم في دمشق: «تردي الحالة الثقافية انعكس في إغلاق المكتبات، وخيار مقاومة الموت البطيء للثقافة السورية بات مسألة غير ممكنة؛ فلم يعد في العاصمة السورية سوى ثلاث مكتبات تبيع الكتب الحديثة، وهي مكتبات: العمومية، والنوري، والشام». ويضيف: «يمكن أن يكتب عشرة منا كتبًا، ويرسم عشرون لوحات، وينظم مائة قصائد، لكنها ستبقى محاولات فردية مشتتة ـ بغض النظر عن مستواها الثقافي والفني، لكنها لن تغير شيئًا من رحلة الثقافة الوطنية، بوصفها بنية من بنى المجتمع، نحو مصيرها المحتوم، أي نحو قبرها».

في السياق نفسه، يرى الروائي السوري خليل صويلح، المقيم في دمشق، أن إغلاق المكتبات المعروفة بكونها منافذ لبيع الكتب ذات الطابع الليبرالي والماركسي «بمثابة مؤشر على مستوى الاحتضار الثقافي الذي وصلت إليه البلاد بعد عشر سنوات من الحرب، واندحار وانتحار أحوال القراءة، ليس لأسباب معيشية وحسب، وإنما هيمنة سلوكيات جديدة أفرزتها الحرب، تضع الكتاب في أسفل سلّم اهتماماتها».

ويقول «صويلح»، في تصريح إلى «الفنار»، إن ثمة ظاهرة نشأت خلال سنوات الحرب، تتمثل في «انتشار عشرات المكتبات التراثية، المتخصصة في بيع الكتب ذات التوجهات الإسلامية». ويوضح الروائي الفائز بجائزة الشيح زايد للكتاب، العام 2018، عن روايته «اختبار الندم»، أن «هذا الانتشار، وحالة الرواج للكتب الدينية، يستهدف، بشكل أساسي، أسلمة المجتمع الدمشقي»، في إطار «الميل العام المسيطر على طبقات كبيرة من هذا المجتمع، نحو الصوفية، فضلًا عن النفور من العلمانية وأفكارها».

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

ويختم «صويلح»، المولود في الحسكة السورية: «جوهر الكارثة يكمن في انهيار الطبقة الوسطى؛ هذه الطبقة التي كانت ترى المكتبة المنزلية أساسية بالنسبة لها، قبل أن يصبح الميكرويف أكثر أهمية من الكتاب. ثم علينا ألّا نتجاهل القيم الجديدة، التي لا تضع القراءة في صلب اهتماماتها، عدا كتب الطبخ والأبراج والروايات المسليّة».

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى