مقالات رأي

حرية البحث في مواجهة الرقابة الذاتية، من ينتصر؟

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

تنويه من المحرر: يأتي المقال أدناه ضمن سلسلة مقالات حول هيمنة وتبعات الرقابة الذاتية الأكاديمية في أوساط التعليم العالي في عدد من الدول العربية، وذلك بالتزامن مع نشر نتائج استطلاع للرأي أجرته الفنار للإعلام بالتعاون شبكة العلماء في خطر حول الرقابة الذاتية لدى الأكاديميين والباحثين العرب. للإطلاع على التقرير الخاص بالإستطلاع اضغط هنا.

قبل أن يضع الباحث خطة لأي بحث، يقوم عادة بالقراءة حول الموضوع  الذي يرغب في دراسته، ثم يحدد النقاط الجديدة التي سيقوم بمعالجتها. لكنه في بعض الأحيان يجد نفسه أمام بعض المواضيع التي يجب أن يراعي فيها السياق المجتمعي.

إذ أن هناك موضوعات تتسم بالحساسية عند تناولها، منها على سبيل المثال ما يتعلق بدراسة تاريخ اليهود في المجتمعات العربية بسبب تعقد الصراع العربي الإسرائيلي، ويزداد الأمر صعوبة عند دراسة موضوعات مماثلة في دولة مثل ألمانيا مرت بفترة الحكم النازي، الذي انتهج سياسة اضطهاد اليهود، فيما يعرف ب “الهولوكست”، مما يشكل نوعاً من الحساسية الأكاديمية في التعاطي  بحذر أو تحفظ مع مثل تلك الموضوعات.

وبالتالي يقع أغلب الباحثين تحت سلطة الرقابة الذاتية، خوفاً من الوقوع في ما لا يحمد عقباه. إذ تم اتهام روجيه جارودي، الكاتب والمفكر الفرنسي الشهير، بمعاداة السامية عند دراسته للهولوكست والأساطير المؤسسة لإسرائيل. فما الحال لو قام باحث عربي مسلم بدراسة موضوع مماثل، وهو يعتقد أن اليهود المصريين على سبيل المثال واجهوا خلال الحقبة الناصرية أزمات كثيرة انتهت إلى خروج معظمهم من مصر. مثل هذه الخلفية المركبة تجعل من صاحب الدراسة مادة خصبة وسهلة، لتوجيه اتهامات ومواجهة مزاعم، فمن بالداخل يتربصون به وبموضوعه، ومن هم في الخارج يحملونه آثام الصورة النمطية عن العرب والمسلمين.

هناك إشكالية أخرى تواجه من يرغب في مقاربة الموضوع وهي  أن حقل الدراسات اليهودية في الجامعات الغربية مسيطر عليه من قبل أكاديميين داعمين للرواية الصهيونية ويعملون على ترويجها، ومواجهة أية رواية مضادة.

 لكل هذه الأسباب يضطر الباحث أحياناً إلى تفعيل الرقابة الذاتية في كل ما يكتبه أو يتحدث به سواء في قاعة الدرس أو خارجها. ويتملكه  الكثير من الحرص في كل ما يكتبه، ولا حل أمامه سوى التدقيق في المصطلحات التي يستخدمها ويعالجها بعناية شديدة. (اقرأ التقرير ذو الصلة: العلوم الإجتماعية في العالم العربي شحيحة رغم الحاجة إليها).

مصيدة الرقابة الذاتية

حين قررت العمل على موضوع مشابه في أطروحتي للدكتوراه، بدأت بالقراءة، عن الأمور التي توصف بأنها معادية لليهود، وتندرج في إطار المزاعم الشائعة عن معاداة السامية، وقمت بمراجعة القوانين الألمانية  في هذا الشأن وعدد من أحكام المحكمة الألمانية العليا. كما رجعت كذلك إلى محاكمات نورنبرج لآخذ فكرة أعمق عن تعقد السياق العام.

وبطبيعة الحال كنت كلما قطعت شوطاً شعرت أكثر بتعقد الموضوع، وأدركت ثمن الوقوع في فخ الرقابة الذاتية وهي على النقيض من الحرية الأكاديمية التي أسعى للعمل في ظلها.

وبطبيعة الحال  كنت كلما قطعت شوطاً شعرت أكثر بتعقد الموضوع، وأدركت ثمن الوقوع في فخ (الرقابة الذاتية) وهي على النقيض من الحرية الأكاديمية التي أسعى للعمل في ظلها.

أيقنت مع الوقت أن الخطوط التي تفصل بينهما دقيقة جدا وقد تكون غير مرئية كذلك. (اقرأ التقرير ذو الصلة: أبواب موصدة أمام الباحثين في الشرق الأوسط).

تأكدت الفكرة حين شرعت في معالجة بعض النقاط، حول الحركة الصهيونية وصراعها مع تيارات الوطنية المصرية، وكذلك عند تناولي أوضاع المدارس اليهودية في مصر ومحاولات نشر اللغة العبرية وعلاقة ذلك بمساعي الحركة الصهيونية، ووجدت خلال رحلة جمع المادة عدة نصوص عربية كتبها يهود مصريون، من أولئك الذين ناهضوا الصهيونية، ورأيت أن استعراضها قد يسبب لي إشكالية عند ترجمتها ومناقشتها على الصورة التي جاءت عليها.

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

وبعد تفكير عميق أهديت إلى فكرة تتمثل في قيامي بنشر هذه النصوص بالعربية، على أن أتبعها بالترجمة الألمانية والإنجليزية، تحسباً لما قد يطرأ في المستقبل، إذا ما واجهت مزاعم ضد عملي الأكاديمي. حينها أستطيع أن أحاجج بأن هذا النص منقول عن أصل  منشور بالعربية وما فعلته هو الترجمة.

واقع مختلف خارج ألمانيا

أذكر أنني في مرحلة أخرى من العمل حصلت على قبول في جامعة برنستون لمتابعة دراسة الدكتوراه مع مشرفي الثاني البروفيسور روبرت تيجنور من قسم التاريخ، وأثناء تواجدي في برنستون وجدت الأمر مختلفاً حقاً عما هو عليه في ألمانيا، فالجو المحافظ الذي يهمين على المجتمعين الأكاديمي والعام فيما يتعلق بدراسة اليهود ليس هو كما في الولايات المتحدة، خففت كثيراً من قيودي، وتخلصت من الأعباء النفسية وتحررت إلى حد كبير من ثقل الرقابة الذاتية التي قبلت بها، وبدأت أناقش مع أستاذي العديد من النقاط المهمة المتعلقة بالأطروحة، فوجدت جرأة في الطرح والنقاش داخل قاعات الدرس طالما أنه مدعوم بالأدلة والوثائق التاريخية، وانعكس هذا علي قدراتي في تطوير أفكاري.

في هذه الأثناء أدركت أن خلفيتي لن تلعب دوراً كبيراً فيما أقوم بطرحه، وأن المجال العام لن يفرض رقابة أخرى علي، أو أن المجال الأكاديمي سيجد حرجاً في مناقشة بعض الأسئلة نتيجة للحساسية التاريخية حول هذا الموضوع.

“دع ما يريبك إلي ما لا يريبك.”

حديث نبوي

بعد عودتي من برنستون تلقيت دعوة من مركز الدراسات اليهودية في برلين لإلقاء محاضرة مفتوحة أمام الأكاديميين والجمهور حول موضوع علاقات التقارب بين اليهودية والمجتمعات المسلمة، وبعد  قبول الدعوة اخترت لمحاضرتي موضوع (اليهود المصريين بين القومية المصرية والحركة الصهيونية). قبل المحاضرة بفترة تواصلت مع مدير المركز طالباً منه الإطلاع على النص الذي كتبته، فرحب كثيراً، وذكر لي أن طرحي متوازن ودقيق ويتسم كذلك بالجرأة، وهو يشجع ذلك، وقال لي أعلم أن هذا الطرح من إفرازات آثار برنستون، فأنا خريج جامعة ييل، وأعلم أن ما تطرحه مغاير للطرح الألماني.

عند إلقاء محاضرتي أعدت من جديد تفعيل الرقابة الذاتية، لأني أخذت في الاعتبار الحساسية التاريخية التي تحكم تناول هذا النوع من الموضوعات في ألمانيا. وربما بسبب جرأة الطرح، كان تفاعل العامة أكثر رحابة وانفتاحاً من تفاعل عدد من الأكاديميين الذين أبدوا تحفظات ممزوجة ببعض الخوف.

تفاعلت مع أسئلتهم وأجبت عنها بكل حياد، وأدركت أن السير في هذا المجال بالنسبة إلي سيكون صعباً، فإما أن أتقبل الرواية الشائعة داخله، وإما أتركه لمجال أكاديمي آخر، وهو ما حدث  بالفعل، من باب الإيمان بالحديث النبوي الذي يقول”دع ما يريبك إلي ما لا يريبك.”

تقادم الخطيب حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة برلين الحرة، كان باحثًا زائرًا في جامعة برينستون. يركز في أبحاثه على التاريخ والدراسات الثقافية وسياسة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى