مقالات رأي

تأثير الرقابة الذاتية الأكاديمية في الوسط الجامعي والمجتمعات العربية

(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).

تنويه من المحرر: يأتي المقال أدناه ضمن سلسلة مقالات حول هيمنة وتبعات الرقابة الذاتية الأكاديمية في أوساط التعليم العالي في عدد من الدول العربية، وذلك بالتزامن مع نشر نتائج استطلاع للرأي أجرته الفنار للإعلام بالتعاون شبكة العلماء في خطر حول الرقابة الذاتية لدى الأكاديميين والباحثين العرب. للإطلاع على التقرير الخاص بالإستطلاع اضغط هنا.

هل سبق أن راودك سؤال تحاشيت أن تطرحه خشية أن يحكم عليك أحد؟ أو واتتك فكرة خفت من مشاركتها مع غيرك لتتجنب تعليقاتهم وردود أفعالهم؟

تلك مشاعر إنسانية معتادة ولا بأس فيها، بل ربما تكون محمودة أحياناً. بالطبع، في حال كان دافع امتناعك هو عدم إيذاء مشاعر الآخرين. كما أن السكوت الناتج عن إدراك قلة المعرفة بالموضوع محل النقاش مقارنة بالآخرين هو دلالة على رجاحة عقل.

أما إذا كنت أكاديمياً أو طالباً جامعياً، وانعقد لسانك عن التعريف بعملك أو بأفكارك بسبب الخوف، فأنت واقع من دون شك في براثن الرقابة الأكاديمية الذاتية.

ما هي الرقابة الأكاديمية الذاتية؟

يُقصد بالرقابة الأكاديمية الذاتية الامتناع عن تحري وفحص مسائل بحثية بعينها، أو تدريس موضوعات محددة، أو التعريف بنظريات أو أدلة أو أفكار في إطار الخبرة المهنية أو التخصص العلمي بسبب تهديد أو خوف من انتقام مهني أو قانوني أو جسدي.

لا يتعلق الأمر بالخوف من الخطأ. فالحرية الأكاديمية؛ عند احترامها، تحمي حق العلماء والطلاب في أن يكونوا مخطئين، وفي أن يستكشفوا النظريات والأدلة التي قد يتبين أنها غير صحيحة.

ترتبط الرقابة الأكاديمية الذاتية بالخوف من فقدان وظيفة أو منصب، وهي تتعلق بالخوف من المضايقات والتهديد بالعنف؛ سواء شخصيًا أو عن بُعد (مثل الهاتف أو عبر الإنترنت)، بما في ذلك التهديدات العنصرية والمتحيزة جنسيًا وتلك التي تعكس كراهية المثليين؛ واستقاء المعلومات الشخصية، أو النشر الخبيث للتفاصيل الشخصية عبر الإنترنت؛ والجهود المقصودة لتدمير السمعة والقضاء على سبل العيش. وقد يصل إلى حد الخوف من العنف الفعلي، بما في ذلك الضرب والاغتصاب والقتل. والخوف من أفعال الدولة، ومنها الاعتقال غير المشروع والمحاكمة والسجن. ويمكن أن يتعلق الأمر بالخوف من الجهات الفاعلة غير الحكومية، ومن ذلك عنف الغوغاء دون توفير حماية كافية من السلطات العامة. ولا يقتصر الخوف عليك ولكن يمتد إلى أفراد الأسرة أو الزملاء، بما في ذلك ترهيب الأطفال والآباء وأخذ الرهائن قضائياً أو مقاضاة أو سجن أحد أحبائك لمعاقبة الآخرين على التعبير عن آرائهم.

تعد الرقابة الأكاديمية الذاتية أمر شائع، لأسباب منطقية وجيهة. وتُشن الهجمات على المنتسبين إلى التعليم العالي في جميع أنحاء العالم بوتيرة تنذر بالخطر. ففي تقريرها السنوي Free to Think 2020، وثقت شبكة العلماء في خطر 341 هجمةً على العلماء والطلاب والعاملين ومؤسساتهم في 58 دولة خلال عام واحد، مع العلم بأن هذه هي الهجمات العلنية والمرئية، ومجرد غيض من فيض. كما أنه لا يتم الإبلاغ عن غالبية الهجمات على أوساط التعليم العالي سنوياً. (اقرأ التقرير ذو الصلة: تقرير جديد يرصد الهجمات على قطاع التعليم العالي في اليمن).

تعد الرقابة الأكاديمية الذاتية أمر شائع، لأسباب منطقية وجيهة. وتُشن الهجمات على المنتسبين إلى التعليم العالي في جميع أنحاء العالم بوتيرة تنذر بالخطر.

لكن حتى الهجمات القليلة تكفي لإحداث أضرار جسيمة، لأن الهجمات العنيفة لا تستهدف إسكات أفراد معينين فحسب. فهي تخلق مناخًا من التخويف يقضي على محاولات التساؤل الاستفسار والإبداع والتعبير. ولها تأثير “مخيف”، متعمد في كثير من الأحيان، من قبيل الهجمات على العلماء والطلاب والجامعات فهي طرق فعالة لاستمرار الهيمنة على المجتمع بالقوة. ومن هنا، يبدأ معظم الفاعلين في نطاق المنطق، وهم يشهدون مصير القلة التي تعبر عن رأيها، في مراقبة عملهم وتعبيرهم وحتى أفكارهم. ومن ثم يصمتون، وفي بعض الحالات يتخلون عن مجالات عمل كاملة. أي إنهم يمارسون الرقابة الذاتية.

محاولة لتقدير حجم المشكلة

يعتبر قياس الرقابة الأكاديمية الذاتية مهمة صعبة للغاية. فإذا كان الأفراد يخشون مشاركة أفكارهم حتى مع زملائهم المقربين، فإنهم بطبيعتهم يتحفظون عن مشاركة حقيقة مخاوفهم مع باحثين لا يعرفونهم. مع ذلك، علينا محاولة الاستقصاء مهما كان الأمر. فإذا لم نتمكن من تقدير حجم المشكلة، فلن نتمكن من فهمها وبالتالي حلها.

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

في الأشهر القليلة الماضية، اشتركت “شبكة العلماء في خطر” مع “الفنار للإعلام” في استطلاع للرأي لقياس الرقابة الأكاديمية الذاتية في مؤسسات التعليم العالي بالمنطقة العربية. تم نشر الإستطلاع إلكترونيا من دون تجميع بيانات شخصية، بهدف تقييم التجارب الشخصية مع الرقابة الأكاديمية الذاتية على مدار العام الماضي. تنوعت الأسئلة بين: هل فرضت على نفسك رقابة ذاتية؟ وهل تعرف آخرين يمارسون الرقابة الذاتية؟ مع استبعاد أي أمثلة لا تتعلق بمجالات الخبرة المهنية أو التخصص العلمي أو المؤسسة.

وعلى الرغم من أن منهجيات البحث الأشد دقة أمر مرغوب ومطلوب، فإن حساسية الموضوع واتساق النتائج للأبحاث الحديثة الأخرى حول الحرية الأكاديمية، بما في ذلك التقارير الواردة هنا، تشير إلى أن النتائج تقدم بيانات قيّمة حول موضوع يستدعي مزيدًا من الدراسة والمناقشة.

تظهر النتائج أن أكثر من 75 في المئة من المشاركين يمارسون رقابة ذاتية على أوجه التعبير في مجالهم المهني، بينما ذكر 35 في المئة أنهم يفعلون ذلك “أحيانًا” على الأقل و40 في المئة يمارسونه “بشكل متكرر” أو “دائمًا تقريبًا”. وبالمثل، يعتقد 76 في المئة من المشاركين أن زملائهم يمارسون الرقابة الذاتية، بينما قال 43 في المئة أن هناك “عدد قليل على الأقل” من زملائهم يخضعون أنفسهم للرقابة الذاتية، و34 في المئة يقولون بأن “أغلبية” أو “جميع” زملائهم يمارسون الشيء نفسه. وربما ما يثير القلق هو أن 25 في المئة من المشاركين ذكروا إنهم تعرضوا للانتقام في العام الماضي، وهناك 47 في المئة يعرفون زملاء عانوا من الانتقام.

تظهر النتائج أن أكثر من 75 في المئة من المشاركين يمارسون رقابة ذاتية على أوجه التعبير في مجالهم المهني، بينما ذكر 35 في المئة أنهم يفعلون ذلك “أحيانًا” على الأقل و40 في المئة يمارسونه “بشكل متكرر” أو “دائمًا تقريبًا”.

ومن بين الذين ذكروا خوفهم من الانتقام، كان الأكثر شيوعًا هو الخوف من الاعتقال والمحاكمة (60٪ في المئة)، فقدان الوظيفة (54 في المئة)، تقييد السفر (46 في المئة)، المضايقات، بما في ذلك التصيد عبر الإنترنت (41 في المئة)، والعنف (25 في المئة).

ومن أنواع الانتقام الشائعة بدرجة أكبر انتقام سلطات الدولة (58 في المئة)، الجامعة أو المؤسسة (51 في المئة)، ومن أسفٍ أن هناك نسبة 40 في المئة تحدثت عن انتقام من زملاء وأقران. وبوجه عام، ذكر 30 في المئة من المشاركين إنهم أكثر خضوعاً للرقابة الذاتية حالياً مقارنة بالعام السابق. (ذكر 22 في المئة فقط إن الموقف يتحسن وأنهم أصبحوا أقل حاجة لفرض رقابة ذاتية الآن عن الماضي، في حين ذكر 47 في المئة ألا فارق بين الوقت الحاضر والماضي).

تتماشى هذه النتائج وأبحاث أخرى. ففي الإصدار الأخير من بيانات مؤشر الحرية الأكاديمية للعام 2020 تراجع في منحنى الحرية الأكاديمية في معظم أنحاء العالم، وخاصة أن “العلماء والطلاب في المنطقة العربية يتحركون في نطاق حرية أكاديمية أقل من نظرائهم في أي مكان آخر في العالم”. (اقرأ التقرير ذو الصلة:  تقرير جديد: الحرية الأكاديمية في أدنى مستوياتها في المنطقة العربية).

مع ذلك، هناك بعض الجوانب المضيئة. إذ يشيد التقرير بتونس، الدولة العربية الوحيدة في الفئة أ من المؤشر، وهي الفئة الأعلى مستوى، من حيث الحماية الدستورية القوية للحرية الأكاديمية بفضل الإصلاحات التي اعتمدتها الدولة بعد الثورة، إلا أن البيانات في مجملها تشير إلى وجود سحابة الخوف تخيم على التعليم والاقتصاد والمجتمعات العربية. فلا عجب أن أظهرت دراسة سابقة أن 91 في المئة من الباحثين يريدون مغادرة بلادهم، ومن بين هؤلاء 43 في المئة أشاروا على وجه التحديد إلى أن الافتقار إلى الحرية الأكاديمية سبب رئيسي للسفر إلى الخارج. (اقرا التقرير ذو الصلة: استطلاع جديد: الهجرة حلم الباحثين العرب).

المسألة تتعلق بتكاليف، أو مزايا، عامة

ما هي أهمية هذه المشكلة؟ هنا نقول بأن القيود على حرية البحث والتعبير تكلف الاقتصادات العربية أموالاً. إذ تشير تقديرات حديثة إلى أن هجرة العقول تكلف الاقتصادات العربية نحو 1.5 مليار دولار سنويًا. من بين الراحلين عن البلاد، يعد الأكاديميون والطلاب ضمن الأكثر تكلفة، بسبب الاستثمار المجتمعي والشخصي حتى وصولهم إلى المرحلة الجامعية ومن ثم المهنية، وخسارة العائد المضاعف على تلك الاستثمارات الذي كان من الممكن تحقيقه على مدار العام خلال مسار وظيفي مدته ما بين 30 إلى 40 عامًا.

ما هي أهمية هذه المشكلة؟ هنا نقول بأن هذه القيود على حرية البحث والتعبير تكلف الاقتصادات العربية أموالاً. وتشير تقديرات أخيرة إلى أن هجرة العقول تكلف الاقتصادات العربية نحو 1.5 مليار دولار

ربما أغفلت التقديرات لتلك الخسائر وجود خسائر أخرى ربما تكون مساوية أو أكبر ناجمة عن ممارسة الرقابة الأكاديمية الذاتية من قبل أولئك الذين لا يغادرون بلادهم. تمثل نسبة 76 في المئة من الباحثين الذين أفادوا بأنهم يخضعون عملهم الأكاديمي للرقابة الذاتية نوعاً من العبء وهي ضريبة مباشرة على الإنتاج الفكري والإبداع. فإذا لم نتحدث عن هجرة العقول، فعلينا أن نهتم لهذا “الاستنزاف العقلي”، أي الإنتاجية الشخصية والمهنية والإبداعية المهدرة التي كان من الممكن أن تتحقق لولا الخوف من الانتقام؛ وهو خوف لا تعرفه الأماكن التي تتمتع بقدر جيد من الحرية الأكاديمية.

بالإضافة إلى تلك التكاليف الاقتصادية الباهظة، فإن الرقابة الأكاديمية الذاتية تنال من جودة البحث والتدريس في الجامعات العربية. وذلك لأن الحرية الأكاديمية؛ حرية التدريس لأعضاء هيئة التدريس والباحثين في وضع جدول أعمال البحث على أساس الأدلة والحقيقة والعقل ونقل النتائج إلى الزملاء والطلاب والعموم، هي ضامن تلك الجودة. ومن دون الحرية الأكاديمية، تخضع المناهج التعليمية وجداول الأعمال البحثية للمصالح الضيقة، غالبًا ما تكون سياسية، وأحيانًا تجارية أو مجتمعية.

على نطاق أوسع، تمكّن الحرية الأكاديمية مؤسسات التعليم العالي من خدمة الصالح العام. وعندما يكون للباحث وعضو هيئة التدريس حرية مشاركة معارفه وخبراته، فإن ذلك يعود بالفائدة على العامة. وعندما يكون حرًا في طرح الأسئلة حول التحديات الرئيسية، أينما تقوده هذه الأسئلة على درب الحلول، يمكنه المساعدة في فهم ومعالجة القضايا الرئيسية مثل تغير المناخ، الصحة العامة، التنمية الاقتصادية، وإرث التمييز، وأكثر من ذلك.

ربما يكون طرح هذه التساؤلات مؤلمًا، لكن فيه فائدة للمجتمع، إن لم يكن فيه فائدة كذلك لمن هم في السلطة والذين قد يستفيدون من الوضع الراهن.

في الرقابة الأكاديمية الذاتية استنزاف عقلي للخبرات والإبداع والابتكار في مؤسسات التعليم العالي العربية ومجتمعات العالم العربي بوجه عام. فيجب علينا وقف هذا الاستنزاف من خلال التصدي للعزلة والخوف، والإصرار على أن تطالب الدول العربية وقادة مؤسسات التعليم العالي والجمهور بحماية أكبر للحرية الأكاديمية، ليس نظرياً فحسب، ولكن عملياً كذلك، وليس لما فيه صالح الأكاديميين وحدهم، ولكن بما يحقق الصالح العام للجميع.

روبرت كوين: المدير التنفيذي المؤسس لشبكة العلماء في خطر، وهي شبكة دولية من مؤسسات التعليم العالي والأفراد الذين يكرسون جهودهم لحماية حرية التفكير والتساؤل وتبادل الأفكار. وجميع الآراء الواردة هنا هي آراء الكاتب وحده ولا تمثل آراء شبكة العلماء في خطر أو المؤسسات الأعضاء أو الموظفين أو غيرهم داخل الشبكة.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى