(الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء شخصية للكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الفنار للإعلام).
تنويه من المحرر: يأتي المقال أدناه ضمن سلسلة مقالات حول هيمنة وتبعات الرقابة الذاتية الأكاديمية في أوساط التعليم العالي في عدد من الدول العربية، وذلك بالتزامن مع نشر نتائج استطلاع للرأي أجرته الفنار للإعلام بالتعاون شبكة العلماء في خطر حول الرقابة الذاتية لدى الأكاديميين والباحثين العرب. للإطلاع على التقرير الخاص بالإستطلاع اضغط هنا.
حين كنت طالبة كان يؤرقني سؤال: ما معنى أن يكون المرء أستاذاً جامعياً؟
تخيلت في البدء أنّ الأستاذ شخص شغوف، مسكون بالبحث، مدفوع بالأمل، يسارع لمكتبة الجامعة، يتهافت على الكتب. حين أصبحت طالبة لنيل الدكتوراه وضعت احتمالاً أقلّ مثالية، قلت قد يكون الأستاذ كائناً بائساً، يتجه للجامعة محمّلا بالكثير من الخيبات. وبعدما أصبحت أستاذة جامعية، توصلت لاكتشاف أخطر، إذ يحدث للمرء أن يهرول لأداء مهنته النبيلة بالكثير من التراخي والخفة والسطحية، متجاوزًا دروب الحماس وسراديب اليأس معاً، مبتكرًا لنفسه باباً ثالثًا يقوم على سلسلة من التواطؤ.
خلاصة أدركتها وأنا أتأمل عدد الباحثين الذين علقوا في متاهات الجامعة الجزائرية، أو الذين تسرّبوا من أبوابها الخلفية، ومعهم من تربعوا على عرش السلطة فيها.
يعرف الجميع طبيعة التحولات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، فالجامعة كانت ولا تزال مسرحاً للتجاذبات السياسية، وصارت حلبة صراع تفوق فيها المنطق المزاجي والانتهازي والظرفي الذي أوجدته السياسة، على الرؤية المعرفية العلمية الرصينة، التي تبحث عن طرق أفضل للوجود والتصاق أشد بهواجس الإنسان وقضاياه.
تحولت الجامعة بعد أن خلعت قفطان المعرفة وارتدت جلد السياسة، إلى مصنع لإنتاج أشكال جديدة من التسلط والتراتبية، بين من يملكون قوة سلطة القرار وشبكة العلاقات، ومن يملكون سلطة المعرفة التي تبدو في المحصلة، سلطة هزيلة تهزمها معادلة التواطؤ، فأصحابها هم البروليتاريا الجديدة داخل الجامعات، وممثلي طبقتها الكادحة.
تخلى هؤلاء عن أحلامهم في ممارسة حياة إنسانية ومعرفية حرة، مقابل الاكتفاء بإتقان فن العيش في فضاء قد يبدو آمناً، لكنه خانق، بالهواء الملوث الذي يفرخ قصصاً مأساوية.
أخر تلك القصص ما حدث مع زميلة رفضت إحدى الجامعات مناقشة رسالتها لنيل الدكتوراه، بزعم تناولها موضوعاً يمس المحاذير السياسية، على الرغم من أن الرسالة لا تتعدى كونها دراسة حول التغطية الإعلامية التي جرت لانتخابات خاضها رئيس جمهورية سابق، وليس فيها ما يمس المقدسات الوهمية، التي وضعها أصحاب القرار لدعم محترفي تفصيل الأبحاث التي تلبي التوقعات وتعجز عن طرح أسئلة جديدة، وتبقى في أحسن الأحوال مدونات تنتج ما يحفظه الجميع من أفكار، لكنها تنسجم مع الولاء الأعمى الذي يتم تعميمه تجنباً لأي إزعاج.