أخبار وتقارير

الرقابة الذاتية مشكلة شائعة لكن مسكوت عنها في الأوساط الأكاديمية العربية

يمارس نحو 75 في المئة من أساتذة الجامعات العربية رقابة ذاتية في حياتهم المهنية، حيث يمنعون أنفسهم من قول ما يعتقدون لتجنب الوقوع في المشاكل،  وفقًا لإستطلاع إلكتروني للرأي أجرته الفنار للإعلام ومنظمة علماء في خطر.

يمكن أن تكون المستويات الفعلية للرقابة الذاتية الأكاديمية أعلى مقارنة بالقيود التي يفرضها المسؤولون في بعض البلدان على ما يمكن أن يقوله أو يفعله الأساتذة. يعني هذا أن حرية التعبير، وهي إحدى السمات المميزة للتعليم الجامعي، عُرضة للخطر.

كتب بنجامين شميلينغ، المدير الإقليمي لمكتب الهيئة الألمانية للتبادل العلمي DAAD في عمّان، في رسالة بالبريد الإلكتروني، “يتطابق الميل إلى الرقابة الذاتية، الذي تشير إليه هذه النتائج الرئيسية، مع بيانات الإصدار الأخير من مؤشر الحرية الأكاديمية، حيث تتذيل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قائمة المقارنات العالمية.” (اقرأ التقرير ذو الصلة: تقرير جديد: الحرية الأكاديمية في أدنى مستوياتها في المنطقة العربية).

يعتقد محمود ناجي، الباحث في برنامج الحرية الأكاديمية في مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وهي مجموعة مناصرة لحقوق الإنسان مقرها القاهرة، أن للرقابة الذاتية تأثير كبير على التبادل الحر والمفتوح للأفكار والمعلومات.

قال “يقلل ذلك من مساحة الحرية الممنوحة للأساتذة أثناء النقاش مع الطلاب. كما أنه يحد من إمكانية نقل المعرفة إلى الطالب أولاً، وفي جهود العمل على تطوير البحوث.”

بالطبع، يُعتبر مصير غاليليو وسقراط بمثابة تذكير مناسب بأن هناك تاريخ طويل ومشحون عن مخاطر تحدث المرء عمّا يجول في خاطره في بيئة مثيرة للجدل سياسيًا. لكن هناك شيء مختلف بشأن تحدي الرقابة الذاتية في الجامعات، لا سيما في ضوء تأثيره على جودة الخطاب الأكاديمي.

قال ناجي “تعيق [الرقابة الذاتية] قدرة الأساتذة والمؤسسات الأكاديمية على حل مشاكل المجتمع ودفع عجلة التنمية. ويؤثر ذلك على الأداء المهني لأعضاء هيئة التدريس مما ينعكس بدوره على جودة التعليم الجامعي بشكل عام.”

يعتقد ناجي أن الرقابة الذاتية الأكاديمية “انعكاس للمناخ العام” الذي يعمل في ظله الأساتذة، والذين يتعرضون للتضييق بسبب “تدخلات الحكومات في قضايا التعليم العالي من خلال السياسات التوجيهية والقوانين المقيدة فيما يتعلق بأساليبهم في التدريس والبحث.”

منهجية الإستطلاع

يعتبر هذا الاستطلاع الأول من نوعه لرصد الرقابة الذاتية في الأوساط الأكاديمية في المنطقة العربية، ويأتي في إطار جهد مشترك بين الفنار للإعلام وشبكة العلماء في خطر، وهي منظمة مستقلة غير ربحية مقرها جامعة نيويورك.

قال روبرت كوين، المدير التنفيذي المؤسس لمنظمة علماء في خطر، “من الصعب للغاية قياس الرقابة الذاتية الأكاديمية. إذا كان الفرد خائفًا من مشاركة أفكاره حتى مع زملائه المقربين، فهو بطبيعة الحال متحفظ عن مشاركة حقيقة مخاوفه مع باحثين لا يعرفونهم. لكن علينا المحاولة. إذا لم نتمكن من قياس المشكلة، فلن نتمكن من فهمها ومن ثم معالجتها.”

أُجري الاستطلاع عبر الإنترنت على مدى خمسة أشهر (من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 إلى آذار/ مارس 2021) وحصل على 190 ردًا من أكاديميين من 17 دولة عربية، هي: الجزائر ومصر والعراق والأردن والكويت ولبنان وليبيا والمغرب وعُمان وفلسطين والمملكة العربية السعودية والصومال والسودان وسوريا وتونس والإمارات العربية المتحدة واليمن.

تضمّن الإستطلاع أيضًا ردودًا من أساتذة عرب في دول خارج المنطقة، بما في ذلك فرنسا وغانا والهند وإيران وكينيا وماليزيا والمكسيك وجنوب إفريقيا وإسبانيا وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وأماكن أخرى. قال بعض المشاركين إن الخوف من العواقب التي قد تطال أقاربهم الذين مازالوا في بلادهم منعهم من التحدث عن آرائهم في مؤسساتهم الأم.

قال أستاذ سوري يعمل حاليا في تركيا، “على الرغم من أنني لا أعمل في المنطقة حالياً، إلا أنني لا أشعر بامتلاكي الحرية الكاملة للتعبير عن أفكاري في عملي لأن عائلتي لا تزال موجودة هناك وأنا قلق بشأن افتراء زملائي.”

أشكال مختلفة من الرقابة الذاتية

تختلف أشكال ودرجات الرقابة الذاتية الأكاديمية من مكان إلى آخر؛ حيث أنها أقل انتشارًا في الفصول الدراسية والمختبرات والمكتبات مقارنة بالاجتماعات الرسمية: أفاد 77 في المئة من المُستطلعة أراؤهم بأنهم من المحتمل إلى حد ما أو من المحتمل أو من المرجح جدًا أن يمارسوا الرقابة الذاتية في الفصول الدراسية، بينما قال 86 في المئة إنهم يخضعون للرقابة الذاتية أثناء الاجتماعات الرسمية، في مكاتب الإداريين، أو بين أعضاء هيئة التدريس أو مجموعات الطلاب.

الرقابة الذاتية شائعة أيضًا على نطاق واسع في وسائل الإعلام الرقمية، حيث أفاد 85 في المئة من المشاركين في الإستطلاع أنهم من المحتمل إلى حد ما، أو من المحتمل أو من المرجح جدًا أن يمارسوا الرقابة الذاتية في الفصول الدراسية الإلكترونية أو في رسائل البريد الإلكتروني أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

قال أستاذ مصري يعمل في جامعة حكومية في شمال القاهرة، طلب عدم ذكر اسمه، ” تعرضتُ لمضايقات من قبل السلطات الأمنية بسبب بعض المنشورات على فيسبوك. كنت أدافع عن حق الأساتذة في رواتب وتعويضات أفضل لدعم مخرجات أبحاثهم العلمية. منذ ذلك الوقت، توقفتُ عن نشر أي شيء على وسائل التواصل الاجتماعي.”

يعتقد البعض أن بريدهم الإلكتروني واتصالاتهم تخضع للمراقبة.

قالت أستاذة لبنانية طلبت عدم الكشف عن اسمها “كل شيء مراقب. علينا أن نكون حريصين حتى لا نفقد وظائفنا أو ربما حياتنا بتحويلنا إلى السجن.” موضحة أن “مساحة حرية التعبير في لبنان تتقلص بسرعة. تحدث الآن العديد من الملاحقات القضائية لحرية التعبير كل يوم.” (اقرأ التقرير ذو الصلة: انتهاكات جديدة تطال حرية التعبير في لبنان).

أقرّ باحث آخر بأنه يشعر بالراحة عمومًا عند مناقشة القضايا في محادثات فردية، ولكن “عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في الأماكن العامة، بالطبع لا.”

قال بعض الأكاديميين إنهم اختاروا الابتعاد عن تناول الموضوعات السياسية على وسائل التواصل الاجتماعي لأن “الناس يكونون أكثر افتقارًا إلى اللباقة خلف الشاشة”.

تحدث الرقابة الذاتية أيضًا في الاتصالات الشخصية مع العلماء أو الطلاب الدوليين. ومع ذلك، تكون الرقابة أعلى عند إجراء الاتصالات في المؤسسات المحلية (76 في المئة) مقارنة بالاتصالات مع الخارج (70 في المئة).

قال علي البريهي، العميد السابق لكلية الإعلام بجامعة صنعاء، “في البلدان التي يغيب فيها القانون، قد يكلفك افتراء أحد الزملاء أو سوء فهم لكلمة ما حياتك، الأمر ليس مزحة.”

أنواع الانتقام

أفاد حوالي 60 في المئة من المشاركين أن خوفهم الأكبر يكمُن في مخاطر التعرض للاعتقال أو المحاكمة، بينما كان البقية يخشون فقدان المنصب أو الامتيازات، والقيود على السفر، والتهديد بالتعرض للعنف الجسدي، والتهديد بالإيذاء الجسدي للأسرة أو الزملاء.

قال طارق المرحبي، المعيد بقسم الحاسب والشبكات بجامعة حجة باليمن، “نعم، أمارس الرقابة الذاتية طوال الوقت وبشكل يومي. يمكن أن تُقتل لمجرد الإدلاء برأي مختلف. تعرض العديد من الأساتذة للقتل والضرب والمضايقات بسبب الآراء أو الانتماءات السياسية.” (اقرأ التقرير ذو الصلة: تقرير جديد يرصد الهجمات على قطاع التعليم العالي في اليمن).

أفاد حوالي 25 بالمئة من المُستطلعة آراؤهم عن تعرضهم لانتقام مهني أو قانوني أو بدني عنيف منذ بداية العام الدراسي الماضي. واعتبر المشاركون السلطات الأمنية المصدر الأساسي للتهديد، تليها في ذلك إدارات الجامعات وزملاء العمل.

قالت نشوى عيسى، الأستاذة المساعدة للفيزياء بجامعة النيلين بالخرطوم، “قد تتسبب محادثة غير رسمية مع زميل في مشكلة كبيرة، إذا أسيء فهمها عن غير قصد أو عن قصد.”

قال البعض إن القيود الاجتماعية المفروضة على حرية التعبير أصعب من تلك التي تفرضها الحكومات وأرباب العمل، وأنه قد يكون من المستحيل تقريبًا تناول موضوع محظور في بعض المجتمعات.

قالت أستاذة في ليبيا طلبت عدم ذكر اسمها “العمل في مجال العلوم الاجتماعية صعب للغاية، حيث يهيمن المجتمع أكثر من السياسة. يعتبر إجراء بحث أو مناقشة مواضيع متعلقة بالجنس أو الإدمان على المخدرات مسألة حرجة للغاية. لذلك نمارس الرقابة الذاتية بانتظام لتجنب التعرض للأذى.”

كانت هذه الأستاذة من بين الـ 60 في المئة من المشاركين الذين أفادوا أنهم نصحوا زملائهم بممارسة الرقابة الذاتية.

بالطبع، يعتقد بعض الأكاديميين بعدم وجود حاجة للرقابة الذاتية.

قال عبد الرحمن سعيد، أستاذ علم النفس بجامعة أم القرى في مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، “لا أعتقد أن هناك أي سبب لفرض الرقابة الذاتية هنا. لقد تغيرت المملكة كثيرًا ونحن نعيش عصر الانفتاح على جميع المستويات. ليست لدينا أي خطوط حمراء، ولكن هناك بعض الموضوعات التي قد تتعارض مع قيم المجتمع وهي ما نحتاج إلى توخي الحذر بشأنها.”

نتائج ونصائح

يعتقد شميلينغ، من مكتب الهيئة الألمانية للتبادل العلمي DAAD في عمان، أن الرقابة الذاتية تعني أن جوانب مختلفة من الخطاب الأكاديمي، بدءًا من التعريف المشترك لموضوعات البحث إلى نشر نتائج البحث إلى المجتمع العلمي أو جمهور أوسع، محدودة ومشوهة، أو حتى مُفسدة.

قال “حتى الآن، يؤثر ذلك بشكل مباشر على التعاون العلمي، على الصعيدين المحلي والدولي.”

 مع ذلك، من الصعب إيجاد علاج لأن الرقابة الذاتية شيء يحدث داخل عقل الفرد، وهي عصيّة بذلك على الحلول التي تستهدف السياسات.

قال شميلينغ “أعتقد أن من المهم التصدي للمشكلة من زوايا مختلفة: وسيكون لرفع الوعي والحساسية بخصوص مسألة الرقابة الذاتية، على المستوى الفردي والمؤسسي على حد سواء، أهمية قصوى.”

وأضاف أن مجموعات المناصرة أو منظمات التمويل أو تصنيف الجامعات يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا.

قال “لا يمكنهم اتخاذ موقف بشأن الحرية الأكاديمية والرقابة الذاتية بشكل عام فقط، ولكن يمكنهم أيضًا دمج جوانب محددة منها (وتجنبهم لها) في سياساتهم وبرامجهم ومنشوراتهم وأنشطتهم. في هذا الصدد أيضًا، يمكن أن يكون للتبادل والتعاون الدولي في التعليم العالي والبحث دور داعم.”

 أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.  

بدوره، يدعو ناجي المؤسسات الأكاديمية للعمل بجدية أكبر لحماية الأساتذة والباحثين من أي تهديدات، ولاسيما الحكومية منها.

قال “يعتبر غياب أي جهة تدافع عن حقوق الأساتذة في مواجهة هذا التوغل في حقوقهم العلمية والبحثية السبب الرئيسي وراء ممارستهم الرقابة الذاتية.”

*ساهم طارق عبد الجليل وعمرو التهامي في إعداد هذا التقرير.

Countries

تعليق واحد

  1. الرقابة الذاتية ليست خاصة بالأساتذة الجامعيين بقدر ما هي خاصيّة مجتمع بأكمله، فهي نتيجة بيئة اجتماعية وسياسية معيّنة تجعل الفرد يعيش حالة من الخوف نظرا للمصير الذي ينتظره إذا ما حاد عن الطريق الذي رسمته القيادة السياسة، لذلك يلجأ الجميع إلى الرقابة الذاتية بحثا عن الأمن والأمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى