أخبار وتقارير

الأزمات الصحية والاقتصادية تهدد تمويل البحوث في المنطقة العربية

دبي – في أعقاب انخفاض أسعار النفط والآثار الاقتصادية الناجمة عن عمليات إغلاق كوفيد-19، من المتوقّع أن  يتعرض تمويل البحوث في البلدان العربية لضربة قاسية في العام المقبل.

من الناحية الإيجابية، يعتقد العلماء ومديرو العلوم أن يشجّع التمويل المنخفض على المزيد من التعاون. ويرون بعض الجامعات التي تنشئ صناديق ابتكار تتعلق بوباء كوفيد-19 ويأملون أن يساعد الوباء عامة الناس على رؤية قيمة البحث العلمي والطبي في المنطقة.

قد تستفيد بعض المجالات، مثل الرعاية الصحية والأبحاث المتعلقة بكوفيد-19، من الوباء العالمي. لكن، بشكل عام، يبدو تأثير الفيروس على البحث الأكاديمي كبيرًا وقد يستمر لسنوات قادمة.

تعد البحوث والتطوير عاملين حاسمين لنمو أي اقتصاد، لكن الدعم الحكومي للبحوث في جميع أنحاء العالم العربي – بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي الأكثر ثراءًا – يتخلف عن المستويات التي شوهدت في دول أخرى ذات مخرجات بحثية قوية.

بحسب البنك الدولي، أنفقت الدول العربية، في المتوسط، حوالي 0.5 إلى 1 بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي على البحث والتطوير في 2018، وهو آخر عام تتوافر فيه أرقام. يتناقض هذا بشكل صارخ مع الوضع في إسرائيل، التي أنفقت 4.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على البحث في ذلك العام، وهي أعلى نسبة في أي دولة متقدمة. إذ خصصت كل من النمسا وألمانيا أكثر من 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للأبحاث، وهي أعلى حصة في أوروبا، فيما كانت النسبة في الإمارات العربية المتحدة، الرائدة بين الدول العربية، 1.3 في المئة فقط.

أوقات أصعب قادمة

الآن، وبحسب الخبراء، يمكن أن يتجه الوضع في المنطقة نحو الهاوية.

قالت سالي جيفري، قائدة شبكة التعليم العالمية في شركة الخدمات المهنية بي دبليو سي الشرق الأوسط، “في دول الخليج التي تعتمد على النفط، سيستمر الضغط على الإنفاق الحكومي نتيجة للوباء وانخفاض أسعار النفط في تقييد الاستثمار في مجال البحث.”

تقول جيفري إن الحكومات قد تأمل في أن يتمكن القطاع الخاص من إنفاق المزيد على الأبحاث. قالت، “قد تقوم بعض الشركات الكبرى، مثل النفط والغاز، بذلك.” لكنها تعتقد، بشكل عام، أن يكون الإنفاق على الأبحاث “منخفضًا، على الأقل حتى ينتعش الاقتصاد ويعود الناتج المحلي الإجمالي إلى النمو الإيجابي.”

يتفق حسن بزي، العميد المشارك للأبحاث والتقدم في جامعة تكساس إي آند إم في قطر، على أنه قد تكون هناك أوقات أكثر صعوبة في المستقبل.

تعدّ جامعة بزي واحدة من عدة جامعات تتلقى تمويلًا من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي. مع انتشار وباء فيروس كورونا، أعادت كلية الهندسة توجيه حوالي ربع تمويلها إلى الأزمة، باستخدام موارده حيثما أمكن ذلك.

“تستعد الجامعات في جميع أنحاء العالم لعام أو عامين سيئين. نحن في وضع أفضل هنا، ولكن لا يزال من المتوقع تخفيض الميزانيات. لا شك في ذلك.”

حسن بزي  
العميد المشارك للأبحاث والتقدم في جامعة تكساس إي آند إم في قطر

قال بزي “لقد قمنا باستحداث برنامج تمويل بحثي داخلي، وقدمنا تمويلًا لسبعة مشاريع تشمل مجالات تتراوح من الهندسة إلى العلوم، وحتى الفنون الليبرالية لأن من الواجب معرفة أن مكافحة كوفيد-19 نشاط كامل يجب أن يشمل الجميع، من السلوك الاجتماعي إلى نشاطنا اليومي، وحتى الأدوات الصغيرة التي نستخدمها.”

من خلال العمل مع وزارة الصحة العامة في قطر والهلال الأحمر، استخدمت الجامعة مختبراتها للطباعة ثلاثية الأبعاد لتصنيع دروع للوجه لتقديمها للمتطوعين في الفلبين، فضلاً عن تصنيع الملحقات للمساعدة في توفير أجهزة التنفس.

قال بزّي “حتى الآن، لم يكن لكوفيد-19 سوى “تأثير طفيف” على تمويل جامعة تكساس أي آند إم في قطر للبحوث بشكل عام، على الأقل على المدى القصير. لكننا نعيش في قطر؛ وقد تأثر اقتصاد قطر وتم تخفيض الميزانيات في البلاد. الآن بالطبع ، إذا استمر تخفيض الميزانية للسنوات القليلة المقبلة، فستكون القصة مختلفة.”

يعتقد بزي أن انخفاض عدد الطلاب المسجلين في قطر وفي حرم جامعة تكساس إي آند إم في الولايات المتحدة سيكون أمرًا لا مفر منه، حيث يفضل العديد من الطلاب الانتظار بدلاً من إنفاق المال على ما يُرجح أن يكون تعليما عبر الإنترنت بالدرجة الأساس في العام الدراسي القادم. ويقول إن قيود السفر ستكون ذات تأثير على الإيرادات أيضًا، وبالتالي تمويل الأبحاث.

قال “تستعد الجامعات في جميع أنحاء العالم لعام أو عامين سيئين. نحن في وضع أفضل هنا، ولكن لا يزال من المتوقع تخفيض الميزانيات. لا شك في ذلك.”

أحد العاملين في جامعة تكساس إي أند إم في قطر، إحدى المؤسسات  التي تلقى تمويلاً من صندوق قطر الوطني للبحوث. مع انتشار وباء كوفيد-١٩ ، أعادت كلية الهندسة توجيه حوالي ربع تمويلها لمواجهة الأزمة (الصورة: جامعة تكساس إي أند إم في قطر).
أحد العاملين في جامعة تكساس إي أند إم في قطر، إحدى المؤسسات التي تلقى تمويلاً من صندوق قطر الوطني للبحوث. مع انتشار وباء كوفيد-١٩ ، أعادت كلية الهندسة توجيه حوالي ربع تمويلها لمواجهة الأزمة (الصورة: جامعة تكساس إي أند إم في قطر).

دعوة لمزيد من التعاون

يعتقد بزّي وجيفري، من شركة بي دبليو سي الشرق الأوسط، أن الضغوط الاقتصادية ستزيد من حاجة الباحثين إلى التعاون عبر المؤسسات والبلدان.

يقول بزّي إن جامعة تكساس إي آند إم في قطر تعمل بالفعل بشكل مكثف مع المؤسسات الآسيوية والأوروبية والأميركية، لكن مثل هذه التعاونات ستصبح أكثر ضرورة. قال “يمثل الأمر دائمًا فرصة للتعاون المتبادل، حتى بين أعضاء هيئة التدريس لدينا.”

لكن جمع الباحثين معًا عبر أرجاء المنطقة العربية ليس بهذه البساطة. توضّح جيفري قائلة، “في دول مجلس التعاون الخليجي، هناك عدد أقل من قواعد البيانات حول مجتمع البحث وشفافية أقل، وقد يكون تقاسم تمويل الأبحاث عبر المؤسسات أمرًا صعبًا.”

يعرف هاني الحسيني، أستاذ الرياضيات بجامعة القاهرة، هذه المسألة بشكلٍ مباشر. قال “لا تشجّع الحكومات العربية التعاون بين المؤسسات البحثية. على سبيل المثال، نواجه صعوبات في الحصول على الموافقات الأمنية والبيروقراطية لاستضافة المحاضرين الأجانب.”

يمكن أن يكون للتحديات تداعيات على طاقم البحث. فقد يغادر أعضاء هيئة التدريس الدوليين المنطقة، حيث تصبح حياة المغتربين أكثر صعوبة، مع معاناة الكثيرين من تخفيضات كبيرة في الأجور أو حتى فقدان الوظائف. (اقرأ التقرير ذو الصلة: استطلاع جديد: الهجرة حلم الباحثين العرب).

قالت جيفري “لفترة من الوقت، قد يكون هناك هجرة للعقول وفراغ في الخبرة البحثية العميقة في المنطقة، ولاسيما في بعض العلوم الناشئة.”

من المتوقّع أن يحدّ تقليص الميزانيات أيضًا من فرص البحث للشباب من طلاب الدراسات العليا الذين سيتعيّن عليهم بشكل متزايد البحث عن التمويل والإشراف القوي في الخارج لمواصلة عملهم. قالت “إذا لم يتمكنوا من تأمين ذلك، حيث ستكون المنافسة صعبة، فقد يتخلون عن خططهم لمتابعة البحث بشكل دائم.”

وتقول إن مثل هذه النتيجة ستشكل فرصة ضائعة لبلدان مثل المملكة العربية السعودية، “التي تتطلع بشدة لتنويع اقتصادها، والتحرك نحو اقتصاد يركز على المعرفة وخلق المزيد من فرص العمل من خلال الابتكار وريادة الأعمال.”

تخشى نشوى عيسى، أستاذة الفيزياء المشاركة في جامعة النيلين بالخرطوم، من أن تمثّل هجرة العقول مشكلة. قالت، “أعتقد أن الباحثين يهاجرون بالفعل، لكن ضعف التمويل سيضاعف معدلات الهجرة.”

“ستفقد جميع المجالات الأخرى على الأرجح لصالح الرعاية الصحية خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة.”

سالي جيفري
 قائدة شبكة التعليم العالمية في شركة الخدمات المهنية بي دبليو سي الشرق الأوسط

ينتاب الأساتذة المصريون ذات القلق. قال الحسيني، من جامعة القاهرة، إنه “غير متفائل بخصوص مستقبل البحث”. وأضاف “العديد من الطلاب الشباب المتميزين الذين يتم إعدادهم للانضمام إلى الجامعة يغادرون بدلاً من ذلك إلى المؤسسات الأجنبية التي تقدم منحًا مغرية.” ويقول إن التمويل الحكومي للبحث “ضئيل للغاية”، ولا يتوقع أن يتغير ذلك، “فالدولة غير مقتنعة بأن البحث العلمي أحد مهامها.”

الرابحون والخاسرون 

مع ذلك، لن تعاني جميع مجالات البحث من الأزمة. تفترض جيفري أن المجالات التي يمكن أن تحقق بعض المكاسب تشمل تكنولوجيا التعليم، مدفوعة بالحاجة إلى تحسين الوصول عبر الإنترنت إلى التعليم وتحسين المحتوى العربي. وتتوقع أيضًا استثمارًا قويًا في المجالات الصحية، لاسيما في البحث عن حلول الصحة الرقمية والبحوث الوبائية.

قالت “ستفقد جميع المجالات الأخرى على الأرجح لصالح الرعاية الصحية خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة.”

في دولة الإمارات العربية المتحدة، كان قطاع الصحة المستفيد الرئيسي من التمويل خلال أزمة كوفيد-19.

خصصت مؤسسة الجليلة، التي تدعم البحوث الطبية المحلية، 817,000 دولار هذا العام لصالح أبحاث كوفيد-19. في العادة، تركز المؤسسة على خمسة مجالات رئيسية هي: السرطان، والسمنة، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والصحة العقلية والسكري، وجميعها مطلوبة بشكل عاجل في المنطقة. ومع ذلك، قررت لجنتها الاستشارية العلمية هذا العام التركيز العام على الوباء العالمي.

يعتقد عبد الكريم العلماء، الرئيس التنفيذي لمؤسسة الجليلة، أن الاستجابة لدعوة تقديم الطلبات كانت غير مسبوقة، مع 91 طلب لهذا المجال وحده، مقارنة بنحو 120 في المواد الخمسة المعتادة. قال “بالنسبة لموضوع واحد، هذا التمويل أكثر بكثير من المعتاد، أكثر بحوالي 25 بالمئة.” ومع ذلك، يستمر العمل في مجالات البحث الخمسة الأخرى، كما يؤكد، حيث تم إنفاق أكثر من 2 مليون دولار هذا العام على المجالات الخمسة ذات الأولوية للمؤسسة. ويوضح قائلاً “لا يزال الناس يموتون بسبب السرطان وأمراض القلب والسكري، لذا لا يمكننا نسيان الأشياء الأخرى.” (اقرأ التقرير ذو الصلة: اختلاف الأمراض المسبّبة للوفاة في المنطقة العربية).

يقول عبد الكريم العلماء إن تواتر الأوبئة آخذ في الازدياد في إشارة إلى ظهور مرضين آخرين – متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد “سارس”، ومتلازِمة الشرق الأوسط التنفسية – منذ عام 2003. وكما هو الحال مع كوفيد-19، نجمت تلك الأمراض من الفيروسات التاجية أيضًا. في المقابل، من الواجب تكييف البحوث الطبية. قال العلماء، “سيُعقد اجتماع لجنة مؤسسة الجليلة العلمية الاستشارية مرة أخرى في عام 2021 ويعاد تقييم الوضع، ولكننا نأمل أن ينتهي كل هذا بحلول ذلك الوقت.”

قالت جيفري “مع ذلك، غالبًا ما تؤدي أوقات التغيير إلى استجابات إبداعية، وقد يعقب ذلك نتائج إيجابية.”

وأضافت “طالما أن الناتج المحلي الإجمالي آخذ في الانخفاض وهناك ضغط على الحكومات لتمويل النمو، فإن من المرجّح خسارة الأبحاث التي تستغرق وقتًا طويلاً ويصعب قياس تكلفتها وفائدتها. لكني ما زلتُ متفائلة. الباحثون أناسٌ مبدعون ومصممون، ويحبون التعاون، لذلك يمكن أن يكون هذا إعادة تشغيل صحية للطريقة التي يتم بها تمويل البحث وتنظيمه في جميع أنحاء المنطقة.”

لا يزال أنور فتح الرحمن أحمد دفع الله، أستاذ الكمبيوتر وأمن المعلومات ومؤسس ورئيس مبادرة الباحثين السودانيين، متفائلاً. فبالإضافة إلى قطاع الرعاية الصحية، يتوقع نموًا في تخصصات مثل العمل عن بعد، وإدارة سلسلة التوريد، والتعلم الإلكتروني، والأمن السيبراني، والتخزين السحابي، والبحوث الاجتماعية المتعلقة بالكوارث، وكذلك البحث النفسي.

قال دفع الله “برأيي، سيكون  التأثير إيجابيا لأن الحكومات والمجتمعات اهتمت أخيرًا بضرورة دعم وتمويل البحث العلمي – باعتبارها الطريقة الوحيدة للخروج من هذا الوباء، والأوبئة التي قد تأتي في مستقبل.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى