(ملاحظة المحرر: يأتي هذا المقال الثاني ضمن سلسلة من ثلاثة أجزاء. ناقش المقال الأول المشاكل الاقتصادية في تونس وربطها بتراجع نظام التعليم الذي كان متفوقًا ذات مرة في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي. يناقش المقال الثاني، أدناه ، تفرّد نظام التعليم التونسي في حقبة ما الاستعمار وكيف أعد التونسيين العدّة لمجتمع ديمقراطي أكثر تطورًا. وسيتناول الجزء الثالث المحاولات الأخيرة والراهنة لإحياء نظام التعليم والتغلب على العديد من العلل التي ساهمت في تدهور البيئة الاقتصادية.)
طوال النصف الثاني من القرن العشرين تقريبًا، أشرق النظام التعليمي في تونس كمنارة للضوء في العالم العربي المعتم فكريا.
لكن ذلك النظام تآكل في عهد الدكتاتور زين العابدين بن علي. ففي الفترة ما بين عامي 1987 و2011، عندما كانت حكومته الأولى التي أطيح بها في ما سيُعرف باسم الربيع العربي، حوّل بن علي جامعات البلاد الشهيرة إلى “مصانع للبطالة“. إذ ساهمت سياساته الاقتصادية المضللة، إلى جانب التغيرات الديموغرافية وتقليص الدعم لنظام تعليم مهني لا مثيل له إقليميًا، في معدلات البطالة الحالية في تونس والتي تبلغ 16 بالمئة على الصعيد الوطني و36 بالمئة بين الشباب.
بعد ما يقرب من عقدٍ على الإطاحة ببن علي وانتقال الأمة إلى الحكم الديمقراطي، سيكون من المغري أن نفترض أن نظام التعليم في تونس – الذي لا يزال يعاني من نقص التمويل والأداء السيئ – قد لا يفي بوعده. ولكن إذا كان يمكن القول أن السوابق التاريخية يمكن أن تتنبأ بآفاق المستقبل، فقد أثبت نظام التعليم في تونس – والأهم من ذلك، التونسيين أنفسهم – مرونة شديدة وقدرة على التكيف مع التغيير.
نظام تعليمي رائد
لكي نفهم تمامًا الكيفية التي شكل من خلالها التعليم تونس الحديثة، يجب ألا نسلط أنظارنا على بداية حقبة ما بعد الاستعمار في عام 1957، بل قبل ذلك بأكثر من قرن. تم تسهيل عمل أجندة التعليم الطموحة للأمة بعد الاستعمار من خلال تاريخ طويل من الإصلاح التدريجي، وغرس مهارات التفكير النقدي، وتقاليد النقاش القوي.
كانت مدرسة باردو الحربية، التي تأسست في عام 1840 تحت الحكم العثماني لتدريب الضباط على نمط المدرسة الحربية أسكي ساراي (القصر القديم) في اسطنبول، المكان الذي بدأت فيه قصة التعليم التونسي. كانت باردو أول مدرسة في تونس – وفي العالم العربي في الواقع – تعمل بشكل مستقل عن السلطات الدينية. ونتيجة لذلك، لعبت الأكاديمية دورًا مهمًا في تأسيس الطبقة السياسية التونسية وساعدت في تعزيز الانخراط مع أوروبا وبقية العالم.