مقالات رأي

معرض يسلط الضوء على تجربة الفن التجريدي العربي

يقدّم معرض “التشكّل: التجريد في العالم العربي في خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين“، وهو معرض تاريخي يُقام حاليًا في غراي غاليري بجامعة نيويورك، سردًا تطوريًا موسعًا عن تطور فن التجريد لدى الفنانين العرب.

في عام 1964، كتب الفنان الجزائري محمد خدّة في مقالٍ له أن على الفنانين البحث عن وظيفة جديدة للفن مع بزوغ فجر حقبة ما بعد الثورة الاشتراكية من حولهم. وقال إنه يمكن أن يكون للفن أغراض أخرى غير تلك التي تساعد على الدعاية، وأن تطور الفن قد سمح بظهور أشكال جديدة من الفن تتجاوز المَجاز، وكتب أن للفن التجريدي “أفق لا متناهي.”

تستشهد سهيلة تاكيش، القيّمة الأبرز في المعرض، بمقال خدّة في مقالها الافتتاحي في كتالوج المعرض، ويبدو أن اقتراح خدّة قد أرشد الكثير من جهود تنسيقها الذكي لهذه المجموعة المختارة من الأعمال المستمدة من مجموعة مؤسسة بارجيل للفنون في الشارقة.

اهتمت تاكيش بإهتمام شديد بإبراز الإبداع والأصالة لدى الفنانين العرب أثناء استكشافهم لمقاربة ما بعد التصويرية في ممارسة الفن من خلال لمس، إذا جاز التعبير، أشكال وتقنيات فنية موجودة بالفعل في ثقافتهم البصرية اليومية.

تضمنت هذه الأشكال فن الخط والكتابة – وهو شيء يُعتبر أمرًا مفروغًا منه اليوم، نظرًا لوجود فنانين أعادوا تحديد طريقة إنشاء الخط والنص البرمجي على مدار الستين عامًا الماضية – بالإضافة إلى الرسوم التوضيحية البربرية، كما في حالة الأعمال الفنية للفنان المغربي أحمد الشرقاوي، وحساسيات التصميم الجرافيكي كما يتضح من استخدام الكلمات والعبارات من قبل الفنان الفلسطيني كمال بلاطة؛ والتصوير التجريدي للفنانة اللبنانية هوغيت كالان، والاستجابات على الأعمال الفنية التاريخية مثل أعمال عبد الله بن عنتر كرد على لوحة جيفرني لـ “مونيه”، (1983)، وهي استجابة بالرسم لعروض مونيه الانطباعية لحديقته الشهيرة في جيفرني وزهوره المائية.

محفزات الإبداع

قد يكون سرد التفاصيل الفنية التي ساهمت في جعل كل عمل تم إدراجه في المعرض مساهمًا هامًا في هذا النوع تمرينًا عاديًا مقارنةً بتسليط الضوء على العوامل الاجتماعية والسياسية والصدف الفنية التي حفزت على إنشاء الأعمال المعروضة. وقد يكون إدراج تفاصيل السيرة الشخصية والوظيفية في النصوص الجدارية بمثابة دليل داعم على اعتزام القيّمة الفنية إثبات كون التجريد العربي قد تطور بالتوازي مع التجريد الغربي بدلاً من أن يكون مثالًا مشتقًا من هذا النوع.

هناك علامات واضحة على موقع الفنانين الاجتماعي والسياسي والوطني في الأعمال المعروضة، والتبادل والحوار الذي حدث بين مختلف الدول العربية كما هو الحال مع الفنانين الذين درسوا في مدارس الفنون في مختلف البلدان المجاورة وتحت إشراف أساتذة مختلفين.

مع ذلك، ربما يكون أقوى ما يمكن ملاحظته في جميع أرجاء معرض “تشكّل” متمثلا في الأدلة الفنية على الدور المهم للفنانات العربيات والذي يساوي دور الذكور في تطوير الفن التجريدي.

عبد الهادي الجزار، النور من الداخل الأخضر، 1958، ورق وقلم وحبر على ورق، 14 5/8 × 21 5/8 بوصة (37 × 55 سم) (الصورة: مؤسسة بارجيل للفنون)
عبد الهادي الجزار، النور من الداخل الأخضر، 1958، ورق وقلم وحبر على ورق، 14 5/8 × 21 5/8 بوصة (37 × 55 سم) (الصورة: مؤسسة بارجيل للفنون)

فعلى عكس تطور الفن التجريدي الغربي، حيث لم يتم التعرف على النساء أكاديميًا أو تجاريًا في وقت مبكر بصفتهن لاعبات رئيسيات، تساعد تاكيش قائمة الفن العربي الوليدة (والتي يجري تشكيلها الآن) في عدم إغفال المساهمات التي قدمتها فنانات من خلال تسليط الضوء على اتساع وعمق تجاربهن مع الشكل واللون والموضوع.

إذ تثبت الأعمال التي نفذتها النساء، عند دراستها بشكل جماعي،  أنهن أخذن مذهب “خدّة” ونفخن فيه الحياة، مما دفع الشكل والموضوع واللون إلى عدد لا حصر له من العوالم الجديدة.

مساهمات النساء

على سبيل المثال لوحة سامية حلبي بعنوان “مكعب أبيض في مكعب بني” عام 1969، حيث يأتي العنوان عبارة عن تهاون مذهل في الانقلاب الفعلي الذي حققته حلبي والمتمثل في دمج الحواف الصعبة للأشكال المكعبة لتظهر شفّافة. لا تبدو المكعبات بنية اللون أو بيضاء اللون تمامًا بل مزيج غائم نتج عنه لون بني ناعم مع درجات من الأرجواني والأبيض المُشرّب بلون وردي.

تعدّ التجربة مع التأثير البصري للون على عين المشاهد والتساؤل اللاحق حول ماهية اللون بالتحديد بمثابة حوار مع ما فعله الفنان الأميركي مارك روثكو في عمله الخاص، لكن حلبي تقدّم وتتحدّى سؤالين فنيين معًا – الشكل و للون – وليس سؤال واحد فقط، حيث لم تكن لروثكو علاقة بالألوان.

أعجبتك القصة؟ اشترك مجاناً في نشرتنا البريدية للحصول على المزيد من القصص.

يمكن إعتبار مثالين من أعمال الفنانتين اللبنانيتين هوغيت كالان وسيمون فتال مثالين استثنائيين على انتقال التشكيل إلى الفن التجريدي.

ففي عمل كالان غير المعنون من العام 1971، يتم تقديم أقل تلميح حول شكل جسد المرأة، حيث تُلمّح الأشكال الجرسية المنحنية التي رسمتها إلى خلفية الموضوع. إذ يعتبر الشكل والمظهر ثانويان في تألق اللون الذي تستخدمه لتوضيح رؤيتها للفن التجريدي على اعتباره أسلوب يقدم تعليقًا أنثويًا على العالم.

كما يتحدث عمل فتّال بعنوان أشكال السماوية (1973) أيضًا عن الأشكال التصويرية، مع أشكال يمكن الاستدلال عليها كجسدين، ربما جسدان أنثويان، متشابكان. تنتقل كل فنانة من الشكل إلى التجريد بطريقة مختلفة، ولكن كلاهما مثالين جديرين على استكشاف الكيفية التي يمكن للفن التجريدي من خلالها إنتاج لغة بصرية جديدة للإعلان عن الأفكار والتجارب الجديدة في عصرنا.

ويتجسّد كون الفن التجريدي وسيلة لغوية للتعبير عن لحظات عصرنا بشكل واضح في عمل للفنانة المصرية منحة حلمي. إذ تترجم لوحتها بعنوان “استكشاف الفضاء/ الكون” (1973) التشويق والتقدم في العلوم والتكنولوجيا، حيث توضح النجوم المتلألئة الكون الذي أصبح في الأفق ومتناول وصول البشر إليه. يتم التلميح إلى العلم بنمط من الخطوط المشابهة لتلك الموجودة على لوحة الدوائر الإلكترونية.

يعد معرض “التشكّل” معرضًا بارزًا ليس لتصحيح المفاهيم الخاطئة حول تاريخ الفن العربي الحديث  فحسب ولكن لعرض العديد من المطالبات والمقترحات التي يمكن من خلالها عرض تاريخ المنطقة.

صور من المعرض

يستمر معرض “تشكّل: التجريد في العالم العربي في خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين“، في العرض حتى 4 نيسان/ أبريل في غراي غاليري في جامعة نيويورك، في المبنى رقم 100 في واشنطن سكوير إيست في مدينة نيويورك. سيتوجه المعرض إلى صالات عرض أخرى بعد ذلك في جامعة نورث وسترن وجامعة كورنيل وكلية بوسطن وجامعة ميشيغان في آن أربور.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى