ثغرة قانونية
الثغرة القانونية الخاصة بدعوة الشركات مباشرة، استناداً إلى الفقرة الخامسة من المادة الرابعة من تعليمات تنفيذ العقود الحكومية وفق القانون رقم 1 لسنة 2008، ساهمت في تمرير عقود عدة مقابل مبالغ مضخمة، كما هي الحال في تعاقد الوزراة مع شركة “تلو” للمقاولات العامة العراقية لشراء عجلة بث نوع O.B.V، لقناة الحضارة التابعة لوزارة الثقافة، بمبلغ مليون دولار.
قياساً للمواصفات المنصوص عليها في العقد، تواصلت معدّة التحقيق مع شركتين عراقيتين مختصتين بتجهيز معدات الإنتاج التلفزيوني والبث المباشر، فعرضت توفير العجلة ذاتها مقابل أقل من 250 ألف دولار فقط.
بعد عام واحد، أغلقت قناة الحضارة، ولم نتمكن من معرفة مصير عجلة البث.
أفلام فاشلة
في أيلول/ سبتمبر 2013، طلب المخرج وعضو لجنة اختيار الأفلام فارس طعمة التميمي إعفاءه من عضوية اللجنة، منتقداً إجراءات الوزارة ذات الصلة باختيار الأفلام المقرّر تمويل إنتاجها ضمن ميزانية مشروع بغداد عاصمة الثقافة. يعتقد التميمي أن رأي اللجنة كان مهمشا بالكامل، وأن وزارة الثقافة اعتمدت أفلاماً سبق أن رفضتها اللجنة. وهو يؤكد أن 20 فيلماً “يعضها لم يكن صالحاً، وبعضها الاخر لم يكن يستحق أن يطلق عليه اسم فيلم أصلاً”.
التميمي يعزو تمرير هذه الأفلام إلى “المحسوبية” التي كانت تتحكم بقبول الأفلام المقترحة أو رفضها. ويستشهد برفض اللجنة – التي كان عضواً فيها- فيلمين من إنتاج فنانين يمتّان بصلة نسب مع الدليمي. لكن سرعان ما وافقت لجنة اختيار الأفلام البديلة عليهما مقابل 1.7 مليون دولار.
رئيس لجنة إدارة ندوات المشروع الناقد مهدي عباس، يؤكد ما ذهب اليه زميله التميمي، لافتاً إلى أن “8 أفلام فقط من بين 37 فيلماً كانت تحمل صفات الأفلام السينمائية، فيما البقية أبعد ما تكون عن ذلك، سواء من حيث التقنية المستخدمة أو الموضوع وطريقة المعالجة”. ويقول عباس إن “بعض الأفلام لم تكن سوى أفلام وثائقية منحت صفة أفلام روائية طويلة بجرّة قلم على الورق فقط”. ويجادل بأن “أحد الأفلام الذي رصد له نحو مليون دولار لا يكلّف ربع هذا المبلغ، وفق التقديرات الحقيقية”.
ووفق دليل أصدرته وزارة الثقافة الذي عام 2014، فإن كلفة إنتاج الأفلام الـ37 ضمن المشروع، بلغت 16 ملياراً و482 مليون دينار عراقية (13.7 مليون دولار أميركي).
ويتهم عباس صراحة الجزء الأكبر من طبقة الفنانين والمثقفين وشركات الانتاج التي شاركت في مشروع بغداد عاصمة الثقافة بـ”التواطؤ في تمرير هذا الفساد لتحقيق مكاسب مادية”.
تراشق بالاتهامات
وثّقت معدّة التحقيق شهادات متنوعة من مخرجين ومؤلفين، تتضمن اتهامات متبادلة حول تقدير كلف الإنتاج وحقيقة المبالغ المصروفة. وامتدت الاتهامات لتشمل سرقة الحقوق الأدبية والفكرية وتحويل مسلسلات أو تمثيليات قصيرة إلى أفلام ضمن مشروع “بغداد عاصمة الثقافة”.
وزارة الثقافة مديونة
مدير السينما في دائرة السينما والمسرح قحطان عبد الجليل يشكو من أن دائرته “لم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها المالية الخاصة بإنتاج أفلام مشروع بغداد عاصمة الثقافة”. ويؤكد عبد الجليل أن دائرته اضطرت إلى دفع نحو 1.7 مليون دولار، ضمن بند غرامات تأخير ترتبت عليها نتيجة عدم دفع المستحقات في الوقت المحدد.
هذه الدائرة لم تكن تتدخل في كيفية تبويب قائمة الصرف للأفلام المنتجة، بل كان يُطلَب منها المصادقة عليها وحسب. ويلخّص عبد الجليل المشهد القائم حينذاك بأنه “كان فوضوياً” والأمور تسير “بعشوائية”، بسبب عدم وجود خطّة عمل محددة للإنتاج.
3.8 مليون دولار لكتب لا يعرفها الجمهور
خصّصت وزارة الثقافة 3.8 مليون دولار لطباعة 600 كتاب أدبي وثقافي، بواقع ألفي نسخة لكل مطبوع. وبتقسيم المبلغ على عدد الإصدارات، يتبين أن الوزارة خصّصت 6333 دولاراً للمطبوع الواحد، بغض النظر عن عدد الصفحات. وبسؤال ثلاث مطابع محلية عن كلفة طباعة ألفي نسخة لكتاب من 300 صفحة، جاء الرد بأن أعلى سعر طباعة لا يتجاوز 3000 دولار.
شمل هذا التباين في الأسعار عقوداً أخرى طبعتها وزارة الثقافة ضمن المشروع؛ منها عقد وقعته في تشرين الأول 2012 مع دار “ميزوبوتاميا”، لطباعة 65 كتاباً، بواقع ألفي نسخة للعنوان الواحد بكلفة 650 مليون دينار؛ أي أن كلفة طباعة الكتاب الواحد وصلت إلى 8500 دولار. وتعاقدت الوزارة مع دار أخرى لطباعة ثلاثة كتب لمركز البحوث والدراسات التابع للوزارة، مقابل 11 ألف دولار للكتاب الواحد. وتكرّر الأمر ذاته في الكثير من العقود التي اطلعت عليها معدّة التحقيق.
لجان صورية
أحد أعضاء لجنة تقييم الكتب ضمن المشروع ثائر عبطان، يقول إن هذه اللجنة “لم تكن لها سلطة فعلية لرفض كتاب أو قبوله، بل كانت مهمتها التمرير فقط، مثل أي جهة تنفيذية، فيما التوقيع الرسمي يعود إلى الوزير أو أحد وكلاء الوزارة”. ووصل سعر طباعة كتاب إلى 4500 دولار مقابل ألف نسخة، في حين أن الطباعة في بيروت مثلاً، لا تكلّف أكثر من 1500 دولار، وفق عبطان. ويستذكر كيف تجرأ حينها على “تقديم اعتراض رسمي لدى مكتب الوزير والمدراء العامين في الوزارة بشأن وضع اللجنة وطرائق اختيار الكتب وطباعتها”. وجاء الرد لاحقاً على شكل “تهديد مبطن” من أحد مدراء مكاتب وكلاء الوزراة: “الوكيل يقول لك، أكل ولا توصوص”، وهي عبارة دارجة تعني أن عليك أن تتقاضى راتبك وتصمت.
خارطة “هدر” بلا ضوابط
المفتش العام في وزارة الثقافة فراس خضير تركي، يرجع انتشار التجاوزات إلى عدم تدقيق دوائر المفتشين العامين في الصرفيات والمشاريع الخاصّة بالوزارات إلا لدى ورود شكاوى أو معلومة ترغب الجهات الرقابية بالتأكد منها. “هنا فقط يحق لهم تدقيقها، وإذا وجدوا فساداً موثقاً بالأدلة، يفتح تحقيق داخل الوزارة ثم ترفع نتيجة التحقيق إلى وزير الثقافة للمصادقة عليها”، يقول. بعد ذلك يحال ملف القضية إلى هيئة النزاهة التي تقوم بدورها بالتدقيق بالأدلة وتحيل الملف إلى القضاء.
لكن توفيق يلخّص تغلغل الفساد وحصانته في العراق، بأنه “أقوى من هيئة النزاهة برمتها”. ثم يؤشر رافعاً يديه: “الفساد أقوى وأعلى بكثير”.
الطرح ذاته يحمله عضو “لجنة النزاهة” في البرلمان عمار الشبلي. إذ يقول إن ستة قضاة فقط يتابعون قضايا الفساد في المحاكم العراقية، وقياساً على عدد القضايا الخاصة بالفساد والتي تتجاوز 3 إلى 4 آلاف قضية سنوياً، سيكون من الصعب على كل قاض متابعة أكثر من 500 قضية سنوياً.