مقالات رأي

الدروس الصعبة المستقاة عن التعليم في أدب شمال أفريقيا

فكرتُ وكتبت قدرًا لا بأس به عن الطريقة التي يتم من خلالها تدريس الأدب (أو لا يتم تدريسه وفقاً لها)، لكنني لم أهتم كثيرًا بكيفية سرد قصص عن التعليم من خلال الأدب.

أدركتُ هذه النقطة المهملة عندما صادفت دراسة لإيرين توهيغ، الأستاذة المساعدة في قسم الدراسات الفرنسية والفرنكوفونية في جامعة جورجتاون في واشنطن، والمتخصصة في أدب شمال أفريقيا. تهتم توهيغ على وجه التحديد بكيفية تناول الروايات في المغرب والجزائر للتعليم وكيف يتم تدريس الأدب في هذين البلدين. وقريباً سيصدر كتابها عن الموضوع بعنوان “الفصول الدراسية المتناظرة: تدريس وكتابة الأدب الوطني في المغرب والجزائر”، عن مطبعة جامعة ليفربول.

وما أن توقفت للتفكير في الأمر، حتى أدركت بأن التعليم موضوع قوي في الأدب العربي وأدب شمال إفريقيا، فهناك وفرة في الكتب التي تصوّر المدارس والجامعات والطلاب والأساتذة والخبرات التعليمية من هذا النوع أو غيره. أشارت توهيغ لي عندما تحدثت إليها مؤخرًا بأن الكثير من الروايات الأخيرة التي تتناول التعليم “مهتمة جدًا بفكرة المدارس التي لا تنتج قرّاءً للأدب المحلي.”

تعدّ العلاقة بين التعليم والأدب، في الواقع، وجودية. فإذا ما أصاب الفشل المدارس، كما تقول العديد من الروايات الأخيرة، فإن على الكُتاب أن يتساءلوا أيضاً: من سيقرأ لهم؟

في العادة، كانت بعض القصص التعليمية الأكثر شيوعاً في الأدب في شمال أفريقيا عبارة عن سير ذاتية تحكي تجربة الدراسة في المدارس الجديدة التي أقامتها القوى الاستعمارية. تناقش هذه الأعمال في الغالب الاسكتشاف المذهل الذي غيّر العالم للغة الفرنسية، والانقسامات بين البيت والمدرسة والكتابة والتحدث، والناجمة عن ذلك.

ففي كتابه أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية، كتب المفكر المغربي عبد الفتاح كيليطو “ذات صباح، أخذني أبي إلى المدرسة من غير أن يسألني رأيي. كانت رحلة بحق: كان ينبغي الخروج من البيت، ومغادرة المدينة العتيقة، والذهاب إلى ما وراء الأسوار، ووطء أرض لم أجرؤ قط على اقتحامها فيما سبق، أرض المدينة الجديدة. رأيت للمرة الأولى عربات تجرها خيول، كما رأيت بعض السيارات النادرة …. غدت الرحلة فيما بعد رحلة يومية، من المدينة العتيقة إلى ما وراء السور، من الفضاء الأسروي المألوف إلى الفضاء الأجنبي الغريب. وهي أيضا رحلة من الشفوي إلى المكتوب: فرضت الفرنسية عليّ نفسها كلغة لا تنفصل عن الكتابة. تعلمتها عن طريق تهجّي الحروف وتدوينها. درستها، لا لأتكلمها، وإنما لأقرأها وأكتبها. خارج المؤسسة التعليمية، لم يكن يجري بها العمل: التلاميذ لا يتكلمون بها فيما بينهم، وفي البيت، كانت منبوذة. كانت لغة الانفصال: ربما لأول مرة في تاريخ المغرب، تلقى الأطفال لغة لا يعرفها آباؤهم.”

عبد اللطيف اللعبي

وبالمثل، يسرد الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في رواية قاع الخابية طفولته وتربيته في فاس في خمسينيات القرن الماضي. كما يروي الكاتب الجزائري مولود فرعون في روايته ابن الفقير قصة صبي راعٍ من منطقة القبائل الجبلية يصبح تلميذا متألقًا ومعلما في النهاية. فيما يخلُص الروائي التونسي ألبير ممّي في روايته عمود الملح إلى تخطيط الراوي، وهو طالب، لكتابة قصة حياته الخاصة بدلا من الإجابة على سؤال الامتحان.

لكن ما يثير الدهشة بشكل أكبر، بحسب توهيغ، هو استمرار كون جميع الروايات عن التعليم في فترة ما بعد الاستقلال في كل من المغرب والجزائر، وفي كثير من الأحيان، روايات عن الاستعمار اللغوي. ويرجع ذلك إلى أنه حتى عندما تم تعريب النظام المدرسي، بقيت المسافة بين اللغة العربية الرسمية واللهجات (ولاسيما بالنسبة للمتحدثين بلغات البربر) شاسعة وبعيدة. إذ تم وصف هذا الوضع في كتب مثل خشخاش الشرق Les Coquelicots de L’Oriental، وهي قصة نشأة شخص فقير في مقاطعة يسكنها البربر شرق المغرب للكاتب بريك أوسعيد، فضلاً عن عدد من الأعمال الروائية الجزائرية.

ومن المجازات التعليمية الكلاسيكية الأخرى سرد سفر الطلاب العرب إلى الغرب واكتشافهم له. وتعتبر هذه الحكايات أيضا، في كثير من الأحيان، حكايات عن تصادم العوالم وعن التعليم الذي يكون مستوفيا ويحرر الاشخاص لكنه يجعلهم غرباء ويزعزع الاستقرار فيهم أيضا.

كان بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال للكاتب السوداني الطيب صالح فتىً رائع يقرر بنفسه حضور المدرسة الحكومية التي أنشأها البريطانيون. وبهدف متابعة دراسته، يسافر إلى القاهرة ثم لندن، حيث يصبح محاضراً جامعياً في سن الرابعة والعشرين. في نهاية المطاف، يدمره طوحه وسعيه وراء المعرفة الغربية والسلطة والنساء.

مع ذلك، فحتى عندما يتعلق الأمر بثمن باهظ، غالباً ما يتم اختبار التعليم وتقديمه كشكل من أشكال الفداء والتحرر. ففي النهاية، هذا هو الشكل الذي يُسمح للمؤلف/ المؤلفة بأن يقص حكايته أو حكايتها من خلاله.

في ختام الرواية الكلاسيكية الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري، وهو كتاب عن شخص فقير ومهمش تمامًا، بما في ذلك حرمانه من التعليم، يزداد اهتمام الراوي بتعلم القراءة والكتابة. وفي الصفحات القليلة الأخيرة، يَعد أحد معارفه بإحضار صديق مدرّس لتسجيل الراوي في المدرسة. يبدو الراوي متشككًا، ومع ذلك، فإن جزءً من قوة الكتاب تنبع من التأثير الأخير الذي يصيبنا نحن القراء من خلال نجاح المؤلف/ الراوي في تعلم القراءة والكتابة، وبالتالي كتابة العمل ذاته الذي نمسك به بين أيدينا.

محمد شكري (1935-2003)

مع ذلك، وجدت توهيغ بأنه، وبينما يميل جيل كبار الكُتاب (الذين غالباً ما يكونون أساتذة جامعيين) إلى النظر إلى التعليم كتجربة تحويلية، فإن هناك “جيلاً جديدًا من المؤلفين يصورون التعليم كله تقريبًا بطريقة ساخرة”. ومن الأمثلة البارزة على ذلك رواية “الفضل يعود لجون فونتين  Grâce à Jean de la Fontaine، لمحمد نضالي، والتي تمثل وصفاً لاذعاً لمعلّم شاب في المغرب. إذ يتوجب على بطل الرواية التعامل مع فساد رؤسائه، الذين يحصلون على رشاوى ومصالح جنسية مقابل الترقية، ومع نظام من الاختبارات للمعلمين المستقبليين يكافئهم على الثرثرة الببغائية غير المفهومة.

ففي سرد نضالي، يكون ما يتعلمه الراوي سلبي إلى حد كبير. وكما تشير توهيغ في مقال نشر في مجلة French Forum، فإنه عندما يبرز أمام لجنة علمية لإيضاح طرق تدريسه وشرحها، يكون الراوي “قد تعلم ببساطة الانتحال والاختراع وإعادة إنتاج ذات الهراء الذي كان يسخر منه بنفسه من قبل.”

تعتبر هذه النظرة اللاذعة للتعليم بصفته إعادة انتاج للجهل والخضوع والنفاق، ومع ذلك، فإن لكتاب نضالي أيضاً هامش مدمّر وغالبًا ما يكون مضحكاً.

كما أن الصور الأدبية الأخرى للتعليم أكثر ألماً: ففي نهاية رواية مغربية أخرى لصدّيق رباج بعنوان، مدرسة الرمال، يُقدِم معلم شاب تقطعت به السبل في قرية نائية على احراق نفسه بزيت مغلي للحصول على عذر لترك منصبه.

تعني وجهة النظر هذه في النظام التعليمي بصفته انكسار ميؤوس منه أن العلاقة التقليدية بين التعليم والأدب – حيث يتعلم بعض الطلاب أن يصبحوا كتاباً، وأن كتاباتهم ستدرس بدورها من قبل الآخرين يوما ما – قد انكسرت أيضا.

وبينما ينتاب معظم خريجي جامعات شمال أفريقيا القلق من البطالة، ترى توهيغ بأن “هناك مستوى آخر من الأزمة الوجودية بالنسبة للمؤلفين.” حيث أن المؤلفين المحتملين لا ينظرون إلى المدارس والجامعات على أنها أماكن سيتم فيها قراءة كتبهم أو تدريسها، أو كمؤسسات من شأنها صياغة قراء المستقبل.

أشارت توهيغ إلى رواية هوت مارُوك Hot Maroc للكاتب ياسين عدنان، والتي تصوّر أساتذة جامعيين انتهازيين يستخدمون طلابهم لإجراء أبحاثهم، فضلاً عن طلاب مسيسين لا يمكنهم رؤية ما وراء أفق الحرم الجامعي. بطل الرواية طالب يدرس الأدب العربي. وبدلاً من أن يصبح كاتبًا – كما قد يكون متوقعا له في رواية من جيل سابق – يصبح طعم ناجح على الإنترنت، حيث يتم استخدامه من قبل القوى التي يمكنها التأثير على الرأي العام من خلال القيام بحملات مبهمة عبر الإنترنت.

فكما كتبت توهيغ، يتوجب على الأدب الذي يتكلم عن فشل التعليم أن يتساءل عما إذا كان يفعل “أكثر من مجرد فرض شروط التقادم الخاصة به.” من ناحية أخرى، “يمكن للأدب الذي يدرك وضعه الهامشي أن يستخدم وضعه هذا في نقد مؤسسات السلطة.”

Countries

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى