مقالات رأي

تعليم الأبناء اللغة العربية: الموازنة بين الحب والقواعد

تعلمت اللغة العربية بعد بلوغي؛ وأحمل درجة الماجستير المزدوجة في دراسات الشرق الأوسط والسياسة العامة، وقد أنشأت قاموسًا على الإنترنت للغة العربية الفصحى واللهجات المصرية والشامية.

على الرغم من كوني مهتم جداً بالدراسة، إلا أن تعليم ابني اللغة العربية يعتبر أحد أهم التحديات التي واجهتها. إنها عملية حل للغز لا ينتهي: محاولة معرفة كيف يعمل عقله، وكيف يمكن جعل التعلم ممتعًا، وما هي أسبابي الخاصة للقيام بذلك.

وفيما يلي بعض النصائح الجاهزة من تجربتي، والتي اكتشفت بعضها ودعمتها بالبحوث. وهنا نقطة مهمة: أنا لست مختصاً في هذا المجال، لكنني أميركي عربي من الجيل الثاني، وقد وصلت، من خلال الجهد المطلق والملاحظة والرغبة في التجربة – وهي ذات القوى العظمى التي يأتي جميع الآباء والأمهات مجهزين بها – إلى نقطة يتمكن فيها ابني البالغ من العمر ثلاث سنوات من التحدث معي باللغة العربية بالكامل.

الوقت هو كل شيء

عندما أعلم ابني اللغة العربية، فليس هناك بديل عن الوقت الذي أقضيه في التفاعل معه بهذه اللغة. تعتبر ساعات الاتصال العامل الأساسي في تعلم اللغة، كما يشير هذا الحديث في منتدى TED Talk. تصنف وزارة الخارجية الأميركية اللغة العربية كواحدة من اللغات الأكثر صعوبة في التعلم، حيث يحتاج الشخص البالغ لحوالي 2,200 ساعة لتعلمها. يحصل ابني على 1,000 إلى 1,500 ساعة باللغة العربية في السنة، وذات القدر باللغة الأردية (حيث أن زوجتي من باكستان وتقوم بتعليمه لغتها أيضاً)؛ وحوالي ضعف هذا الوقت مع اللغة الإنجليزية من خلال الحضانة. وببلوغه الثالثة، فإنه سيكون قد قضى ما يقرب من 3,000 إلى ,4500 ساعة باللغة العربية بالفعل.

لكن هذا الاستثمار يؤتي ثماره، فقد حفظ ابني عشرات الأغاني باللغة العربية، خاصةً باللهجات الشامية المختلفة، بالإضافة لبعض الأغاني المصرية. نقوم أيضا بتسمية جميع الأشياء اليومية التي نراها داخل المنزل وخارجه باللغة العربية: أدوات المطبخ، ولعب الأطفال، والحيوانات، والحشرات (ستندهش من عدد الحشرات المختلفة التي أعرف أسماءها باللغة العربية). التنوع مهم: حيث سيقلل جعل لغته واسعة بقدر الإمكان من احتمال أن يقتصر على سياقات معينة داخل منطقة راحة ضيقة عندما يكبر.

تعدد اللغات مسألة تعاونية وليست تنافسية

من بين الخدع لتحقيق ذلك رؤية اللغات الأخرى التي يتعلمها في إطار علاقة تعاونية وليست تنافسية. فعلى الرغم من أنه من الصحيح كون تعلم ثلاث لغات يعني أن لديه وقت أقل في أي لغة على حدة، إلا أنه يعطيني الفرصة لتوسيع لغته العربية من خلال كل ما يتعلمه. عندما يعود إلى البيت بعبارة جديدة باللغة الإنجليزية، أساعده في ترجمتها إلى العربية. وبالمثل، أطلب منه أن يخبرني عمّا حدث معه في الحضانة، الأمر الذي يجبره على ترجمة الأحداث التي حدثت من اللغة الإنجليزية إلى العربية.

في بعض الأحيان، يبدو وكأنه ينظر إلى اللغات على أنها مسارات متوازية، ومع تطور أحداها يدرك بأن في إستطاعته أن يضيف إلى الأخرى – عن طريق السؤال عن كلمات جديدة، على سبيل المثال، وهو أمر يفعله مع أسماء الحيوانات والألعاب الجديدة. يوضح هذا نقطة مهمة أدركتها من خلال دراستي: حيث يتمثل جوهر اللغة في بناء جميع الارتباطات بها. ومع ذلك، لا يضطر ابني إلى إعادة إنشاء كل رابطة من الصفر. بدلاً من ذلك، يمكنه البناء من خلال ما يعرفه بلغات أخرى.

الموازنة بين الفصحى واللهجات

بينما نقوم بدراسة بعض الفصحى، أركز على اللهجات. السبب بسيط، لأنه بحاجة لأن يكون قادرًا على التحدث. فمن بين أكثر الأشياء خطورة بالنسبة للأطفال أن تجذب انتباههم للتحدث بشكل غير صحيح – لأن ذلك يجعلهم غير مرتاحين وغير مستعدين للاستمرار في اللغة. ويمكن أن يجعل استخدام الفصحى الكبار يضحكون، ليس بطريقة قاسية ولكن بطريقة لا تزال محرجة لطفل، وسيسخر الأطفال الآخرون منك بلا انتهاء. من المحتمل أن يكون تدريس الفصحى في هذه المرحلة بمثابة حكم بالإعدام على لغته على المدى الطويل: فهو سيحد من من إمكانية تفاعله بشكل مريح مع السياقات التي يمكنه التنقل فيها.

من الواضح أن الفصحى لغة مختلفة بالنسبة له – فهي تختلف في المفردات، والنطق، والتشكيل، والنحو – ويعتبر تعليم ابني كيفية الموازنة بين العربية الفصحى والعامية أمراً صعباً. وبما أنني لست في بلد عربي، فليس في إمكاني ببساطة الوثوق في التعليم والبيئة العامة لمساعدته على تعلم التفريق بين الاثنين. لذلك أحاول بناء أوجه تشابه بين الاثنين. عندما نشاهد أفلام الكارتون باللغة العربية، أستمع لأرى أين ستكون هناك تحديات، ثم أشرح بعض العبارات مرة أخرى باللهجة العامية. يعتبر تبديل الشفرة والقدرة على التبديل بين الفصحى والعامية مهارة مهمة، وكلما زاد قدرته على إتقانها على المدى الطويل، كلما كان وصوله إلى اللغة وكل ما تجسده أفضل.

من الأدوات الشائعة عند التواصل باللغة العربية القدرة على سحب العبارات من الفصحى عند الحاجة. لقد بدأت بفعل هذا مع ابني، وغالبًا ما أوضح هذه النقطة عن طريق تغيير نبرة كلامي عند استخدام الفصحى. على سبيل المثال، عندما قرأت كتاب “أرنب كرمة” لتغريد النجار، قرأت الكتاب له بالعامية على الرغم من أنه مكتوب بالفصحى. لكن، عندما تقول الأم “يا أيها الأرنب المُخيف”، فقد كانت الكاتبة نفسها تلعب بوضوح على النبرة الرسمية للعبارة. وهذا شيء أستفيد منه لتقديم عبارة من الفصحى يمكننا استخدامها فيما بعد أثناء اللعب.

أبحث أنا أيضا عن الكتب العربية المكتوبة بالفصحى المباشرة والسهلة. تمكنت من شراء بعض الكتب بالعامية، وعندما لا أستطيع العثور على ما يكفي، أقوم بترجمة بعض المفضلات لدي من الإنجليزية إلى العامية، مثل هذه النسخة من أبي يويو Abiyoyo التي ساعد بعض الأصدقاء في إعدادها.

القواعد وتحديات أخرى

يتمثل التحدي الأكبر الذي يواجهه ابني في قواعد اللغة الآن في الاتفاق بين الجنسين والأعداد، وهذا ينبع بشكل واضح من حقيقة أن تفاعله مقتصر إلى حد كبير عليّ. لكن الإستراتيجية التي بدأت استخدامها تتمثل في سؤاله عمّا إذا كان الشيء صبي أو فتاة، على غرار ما تقترحه هذه المؤلفة، ومن ثم مساعدته على تكرار الجملة بشكل مناسب (ولكن من دون إجباره على فعل ذلك إذا لم يكن في المزاج المناسب للقيام بذلك).

لدي شعور بأن الشخص الثاني المؤنث سيتهرب منا منذ فترة، لكنني بدأت في استخدامه عندما نلعب ألعاب التخيل من خلال إضافة شخصيات نسائية. بشكل عام، أتجنب استخدام نهج صارم قائم على القواعد في التعامل مع النحو، وبدلاً من ذلك أركز على التدريس من خلال الممارسة والارتباط بالأشياء التي يعرفها حتى يكتسب اللغة بشكل طبيعي.

لقد تمكنت من الحفاظ على اللغة العربية بل وتعزيزها لدى ابني ما أن بدأ بالذهاب إلى الحضانة الناطقة باللغة الإنجليزية. لكن تحديات المستقبل محبطة في الواقع. سيكون الوقت التحدي الأكبر: فمعظم تفاعلاته ستكون باللغة الإنجليزية، لذلك ستلعب اللغة العربية دوراً أصغر. بالمقارنة مع اللغة الإنجليزية، سيكون هناك نقص في المواد الجيدة باللغة العربية التي يمكن للأطفال والشباب البالغين الوصول إليها. كل شيء يأتي باللغة الإنجليزية: الأفلام، والألعاب، والكتب المصورة، والروايات ، سمها ما شئت. كما أن الكثير ممّا يتوفر باللغة العربية غالباً ما يكون مكتوب بشكل سيء، أو مكتوب بنسخة غريبة من الفصحى غير المناسبة للأطفال.

وقد يكون أحد الحلول بالنسبة له الحصول على دروس في اللغة العربية. لكن، إذا ما تمت الدروس بطريقة خاطئة، فإنها يمكن أن تجعل الأطفال يكرهون اللغة. إذا كان فصل ابني يركز تمامًا على القواعد اللغوية أو إذا لم يعجبه المعلم، فسوف يربط هذه الأشياء السلبية باللغة. وإذا كان الفصل يركز على الدين الإسلامي، كما تفعل العديد من فصول تدريس العربية، فإنه سيحد من اللغة بطريقة كنت أحاول تجنبها من خلال التركيز على أشياء مثل النطق والحفظ الجامد، وهو سياق بعيد عن المتعة والحب التي نربطها بها حاليا.

أفضّل أن يكون هناك نشاط باللغة العربية ما بعد المدرسة، مثل درس في الفنون العربية للأطفال، أو الحصول على دروس خاصة في الموسيقى ولكن باللغة العربية. لكن التحدي سيكمن في العثور على مثل هذه الأشياء.

إن القضايا المطروحة أمامنا عديدة، وإذا كان التاريخ مرشداً جيداً، فإن الفشل أكثر احتمالاً من النجاح – حيث تفقد الأجيال اللاحقة من المهاجرين لغة أجدادهم ببطء. كمتحدث للغة العربية من الجيل الثاني، فقد نشأت غير مرتاح لتلك اللغة بل انني كرهتها، لأقلب الطاولات كشخص بالغ وأتقن الفصحى والعديد من اللهجات. لقد قمتُ بذلك من خلال إيجاد طريقة لجعل اللغة ممتعة ومحبوبة. وربما يأتي يوم يرفض فيه ابني هذه اللغة، وهو قرار سأحاول احترامه لأنني أفعل ذلك بدافع الحب له. لكن، إذا ما استطعت أن أبين له جمال العالم الذي تمنحه له العربية، ستكون لدي فرصة للنجاح في حينها.

*حسام أبو زهر: مؤسس المشروع العربي الحي.

Countries

تعليق واحد

  1. شكرا لك. وجدت من تجربتي الشخصية وتجربتي مع ابنائي ان اهم العوامل المساعدة على تعلم اي لغة، هو وجود المحتوى الشيق للطفل والثري بالثقافة والأغاني والمعلومات والترفيه والذي يجعله يتقن لغة المحتوى.
    عندما كنا أطفالا، نشأنا في الخليج على برامج عربية راقية موجهة للأطفال مثل افتح ياسمسم العربي والمناهل وغيرها. كمان ان تعريب أفلام الكرتون اليابانية جعل اللغة العربية الفصحى هي لغة الترفيه بالنسبة لنا.
    ولكن هذا الإنتاج لم يستمر للأسف، وتوقفت دول عربية عديدة عن دعم الإنتاج العربي واكتفت بالاستمرار في دبلجة أفلام الكرتون ولكن المحتوى تحول من التلفزيون الى الكمبيوتر والسوشل ميديا. وهما توقفت اللغة العربية تماما !
    اذكر ان ابني الاول تعلم اللغة الإنجليزية وهو ذو ٤ سنوات فقط من لعبة جميلة في الكمبيوتر تعلم اللغة عن طريق السماع وليس القواعد، ثم عن طريق مجموعة ألعاب توماس القطار! ثم بدا يلتهم المحتوى الإنجليزي الذي كان متقدما جدا عن اي محتوى عربي بسنوات ..

    اذا اردنا ان نحافظ على لغتنا وثقافتنا، يجب ان ندعك الإنتاج العربي الموجه للأطفال ولكن بمعايير جديدة عالمية لكي تكون الجودة منافسة لجودة المحتوى الإنجليزي .

    تحياتي،
    عبدالله طه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى