أخبار وتقارير

فنان يبتكر منحوتات من مخلفات مخيّم للاجئين

كانت رحلة عبد الرحمن قطناني نحو الشهرة رحلة غير اعتيادية. فقد ولد لاجئاً فلسطينياً في مخيّم صبرا في بيروت في العام 1983، أي بعد عامٍ واحد من المجزرة التي وقعت هناك، وهو اليوم يوسّع حدود الفن العربي عبر المنحوتات التي يقوم بصنعها من المواد المعاد تدويرها التي تعّلم كيفية استخدامها في صباه عوضاً عن الألوان والأقلام.

تعدّ بيروت لقطناني وعدد كبير من الفنانين الآخرين ملجأ، ويعود ذلك جزئياً إلى حرية التعبير الفني المسموح بها في لبنان. وقد سعى الكثير من السوريين والعراقيين في السنوات الفائتة إلى العمل والتعامل مع فنانين محليين يرحبون بالتفاعل مع فنانين أجانب.

حين لا يكون قطناني في الاستوديو الخاص به، غالباً ما تجده مع أحد أصدقائه الفنانين في مكتبٍ في الدور السفلي من معرض أجيال أو تجده يناقش مع مالك المعرض صالح بركات الأحداث الحالية السياسية والفنية في الشرق الأوسط. يفيض المعرض بالكتب حول الفن في الشرق الأوسط وأوراق بركات وعدد كبير من المنحوتات الصغيرة التي صنعها أحد فناني المعرض المتعددين. التقيت بقطناني مع الفنان سروان باران، وجلسنا إلى طاولة مستديرة فيما تبادلا السجائر.

قال قطناني “لم أفهم يوماً كيف يمكن أن تكون بيروت ملهمة إلى هذا الحد إلى أن رحلت إلى باريس لمدة ستة أشهر لأشارك في برنامج إقامة للفنانين. يأتي الإلهام بالنسبة لي من مصدرين أساسيين: البيئة التي تحيط بي، وبيئة المخيم. تسمح لك بيروت بالعمل من دون أي قيود، سواء كانت دينية أو سياسية، على الرغم من وجودها. فيمكنك أن تبعد نفسك عن هذه القيود.”

يشاطر باران زميله الرأي، وهو فنان عراقي عاش في عمّان لعشر سنوات قبل أن يستقر في بيروت. قال “إنّ بيروت بيئة خصبة يهتم فيها العديد من الفنانين الجديين ببعضهم البعض ويتعاملون معاً، وعملنا الجماعي هو ردة فعل على سياسة الحرب.”

حاز قطناني في العام 2007 على إجازة في الفنون الجميلة من كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، ونال جائزة الفنانين الشباب في العام 2009 في صالون دوتون (Salon d’Automne أي معرض الخريف)، وشارك منذاك في برامج إقامة للفنانين أخرى بالإضافة إلى معارض جماعية وفردية في الشرق الأوسط وأوروبا.

يؤمن قطناني أنه فنان، لكنه اعتبر نفسه كذلك بشكلٍ تدريجي. قال “الأمر المثير للاهتمام هو أنني لم أتعرّف إلى بيروت سوى مؤخراً على الرغم من أنني ولدت ونشأت هنا طيلة حياتي. ففي المخيم، ينتابك شعور بالخوف حيال الخروج من المخيم لأنّه لطالما كانت صبرا وشاتيلا محاطتين بالكتائب[مسلحين يمينيين].  ولطالما قلق أهلنا حيال خروجنا من المخيمات.” لم يتعرّف قطناني على المتاحف والمعارض الفنية المنتشرة في وسط بيروت حتّى العام 2008 و2009 حين كان في منتصف العشرينات من عمره. يقول إنّ ثقافته الفنية التي اكتسبها في المخيم بدائية في أحسن الأحوال.

من أعمال قطناني. (الصورة: معرض أجيال)

“زرع في فكرنا العاملون في المنظمات غير الحكومية الذين أتوا ليعملوا ويساعدونا في المخيم أنّه لا يمكننا القيام بأي شيء من دون مساعدة أو تمويل خارجي. لكنني لطالما اعتقدت أنه يمكنني أن أنجز شيئاً ما من دون مساعدتهم.” اقتصر الفن فيما مضى في المخيمات على تمثيل للصراعات السياسية، مثل الملصقات. بدأ قطناني برسم الكاريكاتور وزخرفة الجدران (الغرافيتي). وكانت الخطوة الكبرى التي دفعت به إلى الأمام كفنان عصري اكتشاف طريقة لتسجيل الصراع الفلسطيني باستخدام الخردة. – “أي شيء كنت أجده في المخيم.” بدأ بجمع أشياء وأدوات مرمية. قال ” كان للقمامة يوماً حياة مع شخص ما. كان لها هدف لمدة من الزمن لشخص ما، وتحتوي هذه الأغراض على حكايات. لذا قررت أن أجمع هذه “الحكايات”، وببطء، صار بإمكاني أن أبني أعمال فنية بواسطة هذه الأغراض بطريقة بسيطة وممتعة.”

تختلف مواضيع التماثيل: منحوتات ثنائية البعد تمثل على سبيل المثال عائلة تبحث عن ملجأ مصنوعة عبر قص أشكال أفرادها من الحديد المموّج وإضافة وعاء أو دمية إلى المنحوتة؛ أو تمثل أولاد صغار يطيرون الطيارات الورقية (هواية غالباً ما تُمارس في المخيمات). يقوم قطناني عبر هذه الأعمال بالتفكّر حول واقع الحياة في مخيمات اللاجئين. ويذكّر تعدّد المواد التي يستخدمها ببداية النحت بالتقنيات المختلطة في الفن الغربي، إلاّ أنّ أعمال قطناني لا تشتق منها.

https://www.bue.edu.eg/

إحدى أشهر تماثيل قطناني هي منحوتة السلك الشائك “الإعصار” المعروضة حالياً في مجموعة مؤسسة رمزي وسعيدة دلول الفنية. ترمز هذه المنحوتة إلى الصراع الداخلي النفسي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني وتقييد تحركاته وحتّى فكره. صنع قطناني هذا التمثال من سلك شائك مطابق للذي يحيط المخيّمات. قال “علينا أن نعيد تقييم مفهوم الاستقلال لكي نتمكن فعلاً من السعي نحو الحرية معاً.”

يتميز هذا العمل أيضاً برسالته العالمية، قال باران”إنّ استخدامه للسلك الشائك لا يتعلّق بالفلسطينيين فحسب بل بشعوب أخرى وبفقدان الحرية في أجزاء أخرى من العالم. لقد استفاد منه لنفسه، ولكنه يحمل معنى للآخرين أيضاً.”

وأضاف قطناني: “تعلّمت في كلية الفنون الجميلة أنّ الفنانين يبتكرون ألوانهم الخاصة بهم لكي يتمكنوا من إيجاد الألوان التي تجعلهم فريدين. في المخيمات، ما من ألوان في الواقع – ليس لدينا طلاء زيتي أو أكريليك، لذا نستخدم ما يتوفر لنا، مثل طلاء المنازل.”

يعلم أنّ بعض النقاد لم يعتبروا أولى أعماله فناً لأنّها كانت مصنوعة باستخدام طلاء المنازل على الحديد المموّج. يعلّق قائلاً “ولكنني تمكنت منذاك أن أستخدم المواد التي أجدها في المخيمات لإنتاج العمل الذي أودّ صنعه. إنني أعيد تدوير المواد التي أجدها من حولي، وقد سمح لي ذلك بابتكار أعمال جديدة ومكّنني من عرض الأشياء بطرق مختلفة.”

لم يتم تنفيذ هذه الأعمال بطريقة عشوائية كما قد يبدو. فما يظهر وكأنّه ابتكر بشكلٍ عفوي هو في الواقع جزء من هيكلية منظمة. قال “حين يزور الغرباء مخيماتنا، يتهموننا ببناء الأشياء بشكل عشوائي، ولكن ما يبدو عشوائي لكم هو منظم جداً بالنسبة لنا. فهو تنظيم فردي مقارنة بالتنظيم الجماعي، ولذا يبدو عملي وكأنّه صنع بشكل عفوي.” مضيفاً “لقد ساعدني فني من دون أدنى شك على الخروج من المخيمات والقدوم إلى بيروت، ومن بيروت إلى أمورٍ أخرى. هل يساعد الفن في تحرير مجموعة من الناس؟”

ويجيب عن سؤاله بنفسه “أعتقد أنّه يمكن لعملي أن يساعد على نشر الأفكار أو إلهام الآخرين لإحداث نوع من التغيير.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى