مقالات رأي

بعد انتقادات الباحثين، نيويورك تايمز تتعهد بإعادة وثائق العراق

يبدو أن الجدل الدائر حول استيلاء صحافية أميركية على وثائق من العراق قد تم حله. فللرد على الانتقادات الموجهة من الباحثين، أعلنت صحيفة نيويورك تايمز بأن الوثائق الأصلية سيتم تسليمها إلى السلطات العراقية. وكانت سجلات تبين الكيفية التي أدار من خلالها تنظيم الدولة الإسلامية الحياة اليومية في الأراضي العراقية التي سيطرت عليها الجماعة المتطرفة حتى وقت قريب موضوعة على المحك. لكن المحور الحقيقي للمسألة يتمثل في حق العراقيين في استعادة السيطرة على تراثهم الثقافي والتحكم فيه والوصول إليه، بما في ذلك سجلات الأرشيف الحديثة التي ستساعد على فهم بعض المآسي التي عانت منها البلاد.

في نيسان/ أبريل، نشرت صحيفة نيويورك تايمز “وثائق داعش”، وهو مقال عن الحياة في المناطق التي حكمتها الدولة الإسلامية السابقة، من قبل المراسلة روكميني كاليماكي. جمعت كاليماكي وفريقها ما يقرب من 16,000 صفحة من الوثائق الداخلية للدولة الإسلامية على مدى خمس رحلات إلى العراق. تواجد الفريق مع قوات الأمن العراقية التي اجتاحت المدن والأقاليم المحررة حديثاً من داعش، وبحصول الصحافيين على موافقة شفوية من الضباط الأمنيين، قاموا بأخذ السجلات التي خلفها المتطرفون في مراكز الشرطة والمحاكم ومعسكرات التدريب والمنازل.

في بعض الأوساط، أثار مقال كاليماكي الذعر. لذا بدأت سارة فرحان، طالبة الدكتوراه في التاريخ بجامعة يورك في تورنتو والتي تنحدر في الأصل من الموصل، حيث أعلنت الدولة الإسلامية “الخلافة” في عام 2014، في تقديم عريضة إلكترونية “للتنديد بأحدث نهب للممتلكات الثقافية في العراق وإدانة نشر بيانات شخصية لمدنيين عراقيين.”

وصف سنان أنطون، الروائي والمترجم العراقي الذي يعمل أستاذا في جامعة نيويورك، ما قامت به الصحيفة على أنه استمرار للممارسات الاستعمارية التي ملأت المتاحف الغربية بالآثار الشرقية، حيث كتب في أحد التعليقات على موقع قناة الجزيرة “تجاوزت ممارسة النهب الكنوز الأثرية وآثار ما قبل الحداثة.. لا تزال الدول والمؤسسات الأجنبية (أو الأفراد العاملين معها) تنهب المحفوظات والمجموعات الكاملة من الوثائق المهمة.”

في رسالة مفتوحة نُشرت على الموقع الإلكتروني لرابطة دراسات الشرق الأوسط، أكدت جوديث تاكر، رئيسة الرابطة، ولوري أ. براند، رئيسة لجنة الحرية الأكاديمية التابعة للمجموعة، بأن كاليماكي قد استخدمت المواد “في تجاهل تام للقضايا القانونية والمهنية والأخلاقية والمعنوية العديدة التي تنطوي عليها”. وعن أخذ الوثائق إلى خارج البلاد، كتب رؤساء رابطة دراسات الشرق الأوسط، “مرة أخرى سيمكّن ذلك الغرباء من التأثير على نحو غير ملائم، أو حتى السيطرة، على رواية تاريخ العراق”. تعمل تاكر أستاذة للتاريخ في جامعة جورج تاون، فيما تعمل براند أستاذة للعلاقات الدولية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا الجنوبية.

الآن، أعلنت صحيفة نيويورك تايمز أنها ستعيد الوثائق الأصلية إلى السفارة العراقية في واشنطن. كما صرّحت بأنها ستعلن عن خططها لتقديم نسخ رقمية من الوثائق المتاحة للباحثين في وقت قريب.

وفي خطوة أخرى للتعامل مع مخاوف منتقديها، تلقت كاليماكي ومحررها أسئلة من القراء عبر موقع الصحيفة على الإنترنت.

يقدم تقرير كاليماكي، المستند إلى الوثائق، بعض الأفكار المثيرة للاهتمام. على سبيل المثال، تكتب بأن المستندات تقدم دليلاً على أن ضرائب على التجارة والزراعة هي التي موّلت تنظيم الدولة الإسلامية إلى حد كبير أكثر من التمويل الخارجي أو حتى مبيعات النفط.

كما وثقت كاليماكي أيضاً الطريقة التي قامت بها داعش بمصادرة ممتلكات جميع العراقيين من غير السُنة وإعادة توزيعها، جزئياً من خلال غنائم وزارة الحرب التي تم إنشاؤها حديثًا. كما تضمنت الدولة الإسلامية وزارة للزكاة والجمعيات الخيرية، والتي قامت بتطبيق مجموعة من الضرائب الدينية المعروفة باسم “الزكاة”، ووزارة الحسبة، التي راقبت المخالفات للقانون الديني. كتبت كاليماكي “تم إلقاء المواطنين في السجن بسبب سلسلة من الجرائم الغامضة، بما في ذلك نتف الحاجب، وحلاقة الشعر بطرق غير مناسبة، وتربية الحمام، ولعب الدومينو، ولعب الورق، وعزف الموسيقى وتدخين النرجيلة”.

لكن داعش استولت في الغالب على الإدارات المحلية القائمة وأجبرت الموظفين من الذكور على الاستمرار في العمل وتنفيذ سياساتها الجديدة.

في جلسة الأسئلة والأجوبة مع القراء، كتب مايكل سلاكمان، رئيس تحرير القسم الدولي في نيويورك تايمز، بأن الوثائق التي تم أخذها كانت “مهملة، وفي كثير من الحالات معرضة لخطر التدمير.” وقال إن الصحافيين ساهموا في الحفاظ على الوثائق ولم يتصرفوا خارج إطار القانون.

كتب “كان هدفنا الحفاظ على الوثائق وحمايتها لضمان تمكّن الجمهور من امتلاك فرصة لفهم داعش من داخل داعش.”

أضافت كاليماكي بأن “قوات الأمن العراقية رافقت فريقنا على الدوام. كانوا يقودون الطريق وأعطونا الإذن لأخذ الوثائق.”

لكن منتقدي قرار صحيفة نيويورك تايمز يقولون إن موافقة القادة العسكريين لا ترقى إلى مستوى تصريح رسمي من السلطات المعنية. ويزعمون أيضًا بأن الاستيلاء على الوثائق يتعارض مع عدد من الاتفاقيات القانونية مثل: حظر النهب بموجب اتفاقية لاهاي لعام 1907؛ وحماية التراث الثقافي بموجب إعلان لندن لعام 1943؛ واتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح؛ واتفاقية اليونسكو لعام 1970 بشأن التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بصورة غير مشروعة.

ومن مصادر القلق الأخرى الطريقة التي تمت من خلالها مشاركة الوثائق التي تحمل أسماء الأفراد من دون تغيير. تظهر وثيقة في مقال “وثائق داعش”، على سبيل المثال، تقديم رجل سُني للحصول على أراضي شيعية مصادرة، وقد نُشر اسم الرجل بالكامل وصورته. ألا يمكن أن يؤدي نشر تلك التفاصيل إلى حدوث حالات انتقام؟ وللإجابة عن هذا السؤال، عرضت كاليماكي إجابة مقتضبة وغير مرضية بصراحة “يرجى العلم بأننا سنزيل بالطبع معلومات التعريف إذا كنا نعتقد بأن هناك خطرًا على سلامة المدنيين.”

تعتبر السيطرة على المحفوظات مسألة حساسة بشكل خاص في العراق، البلد الذي سُلبت محفوظاته مراراً وتكراراً بطرق مدمرة لتراثه الثقافي والتاريخي. ففي أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، قامت سلطة التحالف المؤقتة، وهي الحكومة الانتقالية التي نصّبتها الولايات المتحدة في أعقاب الغزو، بالاستيلاء على 120 مليون صفحة من الوثائق من البلاد، لا يزال مصير معظمها مجهولاً ولا يمكن للباحثين الوصول إليها حتى يومنا هذا.

في حينها، تم السماح لكنعان مكية، الباحث العراقي الأميركي والمؤيد القوي للغزو، بالاستيلاء على أرشيف حزب البعث الحاكم السابق والمؤلف من ملايين الصفحات. تم إخراج هذه الوثائق وغيرها ممّا تبرعت به السلطات الأميركية من العراق وأصبحت جزءً من مؤسسة الذاكرة العراقية. في عام 2008، طالب مدير دار الكتب والوثائق الوطنية المؤسسة بإعادة الوثائق، حيث كتب “يرغب العراقيون بشدة في معرفة حقائق ماضيهم القريب ومواجهتها. إنهم بحاجة لمعرفة معاناة الضحايا وتشخيص من ارتكب تلك الجرائم، قبل تقديمهم إلى العدالة. ويدرك العراقيون جيداً بأنه ليس في الإمكان تنفيذ أي مشروع للمصالحة الوطنية بنجاح من دون جعل الوثائق المصادرة متاحة لكل من الباحثين والجمهور، بوساطة وكالة مسؤولة تمثلهم.”

مع ذلك، لا يزال الأرشيف موجودًا في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، في ظل غياب لأي خطط لإرجاعه.

(من المقرر أن تتم إعادة الأرشيف اليهودي العراقي – الذي يخضع للترميم في الأرشيف الوطني الأميركي في واشنطن – إلى العراق في غضون سنوات قليلة، على الرغم من الضغوط الهادفة للإخلاف بالوعود المقدمة للسلطات العراقية بخصوص القيام بذلك).

مقارنة مع الحجم الكبير والطغيان الذي طبع السرقات السابقة، يبدو استيلاء صحيفة نيويورك تايمز على الوثائق جريمة أكثر تواضعاً وخفة. فقد ردت الصحيفة على الأقل على أسئلة ومطالب منتقديها.

نأمل في أن يوضح الغضب بشأن تحقيقها بأن هناك تسامحًا أقل من ذي قبل للحجة القائلة بأن المؤسسات والخبراء الغربيين هم فقط القادرون على الحفاظ على وتفسير تاريخ الدول غير الغربية (لاسيما تلك التي قاموا بغزوها).

تعتبر ميزة وجود هذه المحفوظات في العراق للباحثين العراقيين، الذين هم بحاجة إلى جميع المصادر التي يمكنهم الحصول عليها ولديهم الحق في الوصول إلى تاريخهم الخاص، أمر بديهي، لكنه يصدمني أيضاً أن يكون فقط من حق الباحثين الأجانب الذين يرغبون في الاطلاع على النسخ الأصلية للسفر إلى العراق، ليطاؤا البلد الذي يقومون بدراسة تاريخه الحديث.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى