أخبار وتقارير

المستقبل في عيون الأدباء والفنانين العرب

برلين ـ في العقود الأولى من القرن العشرين، اعتمد مؤلفون مصريون وفلسطينيون مثل جرجي زيدان وجورج حنين وجبرا إبراهيم جبرا على تاريخ الشرق الأوسط وطاقة الدول العربية في فترة ما بعد الاستعمار لتخيل مستقبل عالمي لمجتمعاتهم.

إذ تصوّر زيدان، على سبيل المثال، والمعروف بكونه أحد أوائل المفكرين في القومية العربية، مصر ما بعد الاستعمار بكونها قادرة على الاندماج مع سوريا كأمة واحدة. وفي المقالات القصيرة التي عثر عليها بعد وفاته بفترة وجيزة في عام 1914، تخيل زيدان بأن هناك بلدًا ستتخلى فيه النساء عن حجابهن ويتمتعن بذات الامتيازات مثل الرجال. فيما مجّد كتّاب آخرون عظمة الفراعنة وتصوروا مصر مستقبلية تقود العالم في مجالات العلوم والتكنولوجيا في القرن الواحد والعشرين.

لم تتجسد تلك الرؤى الكبرى والفاضلة، لكن هذا لم يمنع المؤلفين العرب المعاصرين وصانعي الأفلام ورسامي الكاريكاتير من تقديم رؤى جديدة للعالم العربي.

مؤخراً، تم استكشاف بعض هذه الرؤى في منتدى عُقد في برلين بتنظيم الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، وهي مبادرة مستقلة مقرها بيروت وتقوم بتمويل منظمات وفنانين منفردين في السينما وفنون الأداء والأدب والموسيقى والفنون البصرية. عُقد المنتدى تحت عنوان “المستقبل متخيلاً: العالم العربي على أنقاض الثورات“، في التاسع والعاشر من حزيران/ يونيو في دار نشر أرشيف كابينيت Archive Kabinett والمعرض الواقع في حي فيدينغ الذي تقطنه أغلبية عربية وتركية.

دعت آفاق فنانين وباحثين عرب بارزين مثل الكاتب والمترجم هيثم الورداني لحضور المنتدى لمناقشة الطرق التي تتبعها التفسيرات المعاصرة للمجتمعات العربية المستقبلية في الحوار مع الأجيال السابقة. كانت العروض مفتوحة للجمهور وتمت ترجمتها فوريا بين اللغتين العربية والإنجليزية.

سواء أكانت قاتمة أو دنيوية أو سريالية، فإن تفسيرات الفنانين العرب المعاصرين للمجتمعات المستقبلية تنطلق من الحنين والرؤى الطوباوية لأسلافهم من أجل إثارة حوار مدروس حول الحاضر.

قال الورداني، الذي ولد في القاهرة ويقيم حالياً في برلين، “الواقع يتكشف وقد أصبح البشر جزءً من العاصفة العالمية المحيطة بهم. وفي موقف اليوتوبيا، نحن نتخلى عن وجهة نظر السيطرة على الواقع.”

تراوحت العروض من قراءات دقيقة لمؤلفين بارزين من أمثال حنين وزيدان وحتى عرض أفلام حديثة تصور مستقبل عربي متذبذب.

يجمع أحد هذه الأفلام، “في المستقبل، أكلوا من أرقى أنواع الخزف” (2015)، وهو فيلم خيال علمي جزئياً وبمثابة تعليق سياسي في جزئه الآخر، للفنانة والمخرجة الفلسطينية لاريسا صنصور، بين العمل الحي والصور الملتقطة بالحاسوب ليروي قصة مجموعة المقاومة المستقبلية في أرض مجهولة. ترسخ المجموعة الخيالية شظايا خزفية ممزوجة بحمض نووي في الأرض من أجل التأثير على مسار التاريخ ودعم إدعاءات الحضارة الخيالية المستقبلية على وطنها المتلاشي.

وتقديراً للقصص المتضاربة من وطن يلعب دورا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تتلاعب صنصور مع حجج الهوية الوطنية والملكية الرمزية للوطن على كلا جانبي النقاش. كما يُستخدم الخيال العلمي لمعالجة كيفية تسخير التاريخ والسجل الأثري لدعم حجة كل جانب من أطراف الصراع.

تشكل مثل هذه التصورات المثيرة للجدل حول مستقبل فلسطين غارقة في سياسة الهوية والعبث التاريخي صرخة بعيدة من آمال الكاتب والمترجم جبرا إبراهيم جبرا في تأسيس مجتمع فلسطيني عالمي في العقود الأولى من القرن العشرين، بحسب سونيا ميشار الأتاسي، الأستاذة المشاركة للغة العربية والأدب المقارن في الجامعة الأميركية ببيروت.

بولادته في بيت لحم عام 1919 – بعد فترة وجيزة من إعلان وعد بلفور المحوري لعام 1917 الذي أعطى زخما للدفع باتجاه إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين – كتب جبرا قصصاً آسرة من السيرة الذاتية عن حياة الفلسطينيين قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948. ومن خلال القيام بذلك، ألمح إلى ما يمكن أن تكون عليه دولة فلسطينية متنوعة، بحسب ما قالته ميشار الأتاسي خلال عرض تقديمي عن جبرا في اليوم الأول من المؤتمر هنا.

وتظهر مراسلاته مع النخبة المثقفة في القدس في أربعينيات القرن العشرين وما بعدها – بعد إجباره على مغادرة وطنه وإعادة توطينه في بغداد، حيث توفي عام 1994 – بأن جبرا تمسك بالأمل في مستقبل عالمي وسلمي في فلسطين.

غير أن ذلك الأمل أصبح عابراً بشكل أكبر كلما مر وقت أطول في المنفى، كما هو موضح في أعماله الأدبية الأخيرة، بحسب ميشار الأتاسي.

قالت “عقد الكثيرون الأمل على المثقفين. لكن روايته “البحث عن وليد مسعود” (1978) لم تعد تبث الأمل بعد، بل إنها أكثر واقعية في التعبير عن الحالة – حيث يختفي البطل، لكن ما هو الدور الذي يلعبه في المجتمع عندما يعود؟”

لم يكن المؤلفون العرب المعاصرون، الذين قواهم استمرار الأنظمة الاستبدادية في أعقاب الربيع العربي،  أكثر تفاؤلا في تصويرهم للمستقبل في العالم العربي. فبدلاً من تصوير اليوتوبيات الساطعة أو الواقع المرير المأساوي، صوّر الكثيرون منهم  مجتمعات عربية مستقبلية عالقة في زخارف الرأسمالية الغربية.

وبقراءة من الفصل الأخير من روايته “نساء الكرنتينا” (2014) في اليوم الأول من المؤتمر، يتصور الكاتب والصحافي المصري نائل الطوخي مستقبلاً قريباً يتسم بالعبث في مصر حيث أدت الطموحات الرأسمالية إلى بناء أنفاق جديدة تجتاز الأرض مثل قطع الجبن السويسري، والتي تستخدم تقريبا كعربات مدن الملاهي لأعلى مُزايد.

فبدلاً من التمسك بانقسام ثنائي مألوف لليوتيوبيا والواقع المرير، يقدم الطوخي تعليقاً سياسياً من خلال تصوير “مستقبل لا يبدو وكأنه مستقبل” يتجاهل فيه الناس بشكل متزايد الكيفية التي يتأثرون من خلالها بالآخرين.

قال “كل المشاهد المبتذلة للمسؤولين الحكوميين والعناوين الصحافية المبتذلة والحاكم المعتد بنفسه ووسائل الإعلام … الناس لن يتغيروا أبدا. سيبقى الناس أغبياء.”

لكن الطوخي، بتخيله عالماً عالقا في الدنيوية والغباء، يبعث على الراحة بطريقة ما، بالنظر إلى الواقع الظالم على الأرض في العديد من الدول العربية اليوم.

قال “لم أكن أريد أن أنظر إلى الوراء للتفكير في ماضي يمثل الماضي الذهبي، ولم أكن أرغب في وجود بطل يحبه الجميع.” وأضاف، “لديّ فتاة صغيرة، وأحب أن أتخيلها مع أحفادها من حولها، وهي تعيش حياة طبيعية فحسب. الكل يحب أن يتخيل الأشياء الخارقة للطبيعة، أولئك البشر الفائقون. لكنني أحب أن أتخيل هذه الأشياء العادية.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى