أخبار وتقارير

رحلة باحث لبناني في استكشاف تاريخ العرب

طرابلس- في منزله البسيط والذي يعكس ذوقاً رفيعاً، وفي غرفة مكتبه المكتظة بالكتب واللوحات الفنية، يقضي خالد زيادة المؤرّخ والأديب والدبلوماسي اللبناني جل وقته في القراءة والبحث والكتابة عن العلوم الاجتماعية وإشكالية العلاقة بين أوروبا والإسلام والعرب.

يقول مؤلف كتاب “لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب“، والذي صدر في عام 2016 ليشرح تغير نظرة المسلمين إلى أوروبا من الازدراء والاحتقار الذي اتسمت به خلال قرون طويلة من الزمن إلى الإعجاب بعدما أنجزت أوروبا تقدمها في الميادين المختلفة ومن ثم تحول هذا الإعجاب إلى عداء بسبب المرحلة الاستعمارية، “الأفكار هي التي تغير المجتمعات. لذلك عندما تراجع الفكر في منطقتنا شهدنا الأصولية تشغل الفراغ. فلا يمكن أن نصنع تغييراً دون أن تكون لنا رؤية متسقة مع متطلبات الانخراط في العالم المعاصر.”

وعلى الرغم من تولي زيادة لمناصب دبلوماسية كسفير لبلده في مصر والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية. لكنه مازال يفضل تقديمه كأستاذ جامعي وباحث، حيث عمل كأستاذ في معهد العلوم الاجتماعية ومديراً لكلية الآداب والعلوم الانسانية الفرع الثالث في الجامعة اللبنانية لأكثر من 25 عاماً قضاها في البحث والتوثيق إلى جانب دوره كأستاذ. كما يشغل اليوم منصب مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت.

بعد عودته إلى لبنان وحصوله على شهادة الدكتوراه في الفلسفة جامعة السوربون في فرنسا، عمل زيادة مع عدد من زملائه وطلابه على حفظ سجلات محكمة طرابلس الشرعية ليصدر لاحقاً ثلاثة كتب تعكس عمله على هذه السجلات وتبرز أهمية التعامل مع الوثائق التي تتضمنها كوحدة تعكس الحياة الاجتماعية من خلال استخدام مناهج البحث الاجتماعي والأنثروبولوجي.

قال “كان هاجسي يتمحور حول كيف يمكننا استخدام هذه السجلات في الأنثروبولوجيا بمعنى كيف يمكن لهذه السجلات أن تخدم ليس فقط الوقائع التاريخية وإنما دراستها وتحليلها هي عمل منهجي.”

اهتم زيادة بالعلاقة بين العالمين العربي والإسلامي من جهة وبين أوروبا، إذ يعتبر أن كل المظاهر الثقافية والسياسية والاجتماعية حدثت بتأثير هذه العلاقة التي ترجع إلى ما يزيد على قرنين من الزمن. كما ركز على البحث في الآليات التي تحكم علاقة السلطة بالمجتمع في المدينة الإسلامية. فكان أول من كتب بالعربية عن التجربة العثمانية المبكرة في الإصلاح، وأول من بحث في المؤسسات والأجهزة العلمية كسبيل للتعرف على ظهور المثقف العربي، بالإضافة إلى رصده لأصول النظرة الإسلامية إلى أوروبا.

قال جان جبور، أستاذ في قسم اللغة الفرنسية وآدابها في الجامعة اللبنانية وزميل زيادة خلال فترة عمله كأستاذ وقارئ ومتابع لمؤلفاته، “هناك تنوع في أبحاثه بين السيسيولوجيا والتاريخ والأدب. مع ذلك، فإن لكل كتاب له نكهة خاصة تعكس ثقافته الواسعة وفكره العميق.”

يعد كتاب “الكاتب والسلطان، من الفقيه إلى المثقف” أحد أبرز مؤلفات زيادة، والذي وثق مرحلة الانتقال من الدولة المملوكية وصعود دور العلماء في الدولة العثمانية، ومرحلة الانتقال من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر مع ما شهده من تأثير للتحديث على أجهزة العلماء وأجهزة الكتّاب في آن معاً. نشر زيادة أيضاً مجموعة أعمال سردية تتمثل في ثلاثة كتب هي “يوم الجمعة يوم الأحد“، وقد ترجم إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية. ثم “حارات الأهل جادات اللهو” وترجم إلى الإنكليزية. ثم “بوابات المدينة والسور الوهمي“. وقد صدرت الكتب الثلاثة في مجلد واحد عن دار الشروق بعنوان “مدينة على المتوسط“.

كما كتب زيادة رواية وحيدة بعنوان “حكاية فيصل” تروي السيرة التاريخية للأمير فيصل بن الحسين ودوره في الثورة العربية الكبرى.

قالت وفاء شعراني، أستاذة مادة الفلسفة وصديقة زيادة، “رغم أن كتابته في مجملها أكاديمية تأريخية إلا أنها تحمل تفاصيل إنسانية وحنيناً لحقبة زمنية لم يعشها لكنه ينجح في نقلها للقارئ بكل سلاسة.”

بدورها، تعتقد مها كيال، أستاذة مادة الأنثروبولوجيا ورئيسة مركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية وزميلة زيادة في التدريس، أن زيادة ليس مؤرخاً تقليدياً.

قالت “هو قارئ للتاريخ أكثر منه مؤرخاً له. فالحدث ليس مهماً لذاته في كتاباته بل هو مهم في تأثيراته وفي تفاعلاته. ورغم اهتمامه العميق بالتاريخ، إلا أنه لم يقدس الزمن ولم يتوقف عنده، هو دائماً يستخدم الزمن للفهم والتحليل والقراءة بهدف تطلع مستقبلي.”

وعلى الرغم من توقفه عن التدريس منذ أكثر من عشر سنوات، إلا أنه مازال يحظى بشعبية واسعة بين طلابه.

قالت عبير السبع، الحاصلة على شهادة الدكتوراه في التنمية الاجتماعية تحت إشرافه، “يمتلك زيادة أسلوباً سلساً في طرح القضايا ومناقشتها وهو مثقف ومتواضع وحريص على طرح الأسئلة وفتح باب النقاش مع تشجيعنا باستمرار على البحث عن أجوبة.”

يؤكد جبور زميل زيادة على ما تقوله السبع. قال “اعتبر خالد منذ بداية عمله كأستاذ أن العمل الأكاديمي يقوم على البحث أكثر مما هو تعليم أو إدارة، وكان يطبق ذلك على نفسه وطلابه.”

وإلى اليوم، لا يتوقف زيادة عن القراءة والكتابة والتوثيق.

قال “لم تعد الجامعات مراكز لإنتاج الفكر هذه الأيام. وبالرغم من أن مراكز الأبحاث ليست البديل عن الجامعات، فإنها تعوّض النقص الذي يسببّه تراجع التعليم فيها، وتفتح الباب أمام الكتاب والباحثين لتحقيق أبحاثهم ونشر نتاجهم.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى