مقالات رأي

تطوير كليات الصحافة العربية بمساهمة علماء الاجتماع

يبدو القراء والجمهور العربي على دراية تامة بالأمور عندما يتعلق الموضوع باستخدام التقنيات الرقمية، لكن كليات الصحافة تبدو بطيئة في التكيف.

یدرك طلاب الصحافة من الشباب العربي فرص العمل التي توفرھا وسائل الإعلام الرقمیة. كما يتوجه ممتهنو الصحافة على الطراز القديم إلى معاهد الدراسات العليا لتعزيز مهاراتهم. وهم بحاجة إلى معرفة التطورات في صحافة البيانات، وكيفية تحرير الصور ومقاطع الفيديو والمقاطع الصوتية.

إن التحدي الذي تواجهه الأوساط الأكاديمية في المنطقة واضح: فكليات الصحافة والأساتذة بحاجة إلى مساعدة الصحافيين الطموحين، والواعين لهذه الاحتمالات المستقبلية، على تنمية مهاراتهم وتأمين شروط استمراريتهم في مثل هذا المناخ.

لنأخذ، على سبيل المثال، واحدة من أحدث التغييرات وأكثرها إثارة للاهتمام والتي ولدها العصر الرقمي ألا وهي ريادة الأعمال في مجال الصحافة. فالصحافة المطبوعة تشهد حالة تغير مستمر، وتتم الإطاحة بالمجلات مع صعود التطبيقات الالكترونية. وعوضاَ عن إعلان الحداد على خسارة “العصر الذهبي” للصحافة، يقوم صحافيون يتمتعون بروح المغامرة بالبحث عن تعيين حاجات السوق بعقلية ريادي الأعمال، ويلبّون هذه الحاجات من خلال منصات مبتكرة أو نماذج تمويل جديدة.

هناك بالفعل العديد من مشاريع الصحافة الريادية الجيدة في العالم العربي. وبعضها مطبوعات تعنى بالاهتمامات العامة، لكن بعضها الآخر محدد ويغطي موضوعات غالباً ما تتستّر عليها وسائل الإعلام التقليدية، كدراسات النوع الاجتماعي وحقوق الإنسان، والبيئة، وآلية صنع السياسات، وواقع الجماعات المهمشة، على سبيل المثال. ومن المثير للاهتمام، أن هذه المشاريع تميل أيضاً إلى تجاوز الحدود من خلال التغطية الإقليمية والمساهمين الدوليين في الكتابة لديها كما الجمهور الذي تسعى لاستقطابه.

تعتبر المفكرة القانونية من الأمثلة الجيدة على ذلك، حيث تقوم بنشر معظم محتواها عبر الإنترنت، لكنها تصدر أيضاً مطبوعات فصلية في لبنان وتونس. وهي تغطي عملية وضع القوانين في العالم العربي بهدف جعلها مفهومة للمواطنين العاديين، وليس للخبراء القانونيين فحسب.

كما تساهم النساء بصورة متزايدة في هذه المشاريع الجديدة. وقد أثبتن قدرتهن على ان يصبحن رائدات أعمال مميزات في مجال وسائل الإعلام. يعتبر ملتقى المرأة العربية، على سبيل المثال، والذي أطلقته صحافيتان شابتان في عام 2014، مثالاً ناجحاً عن “صحافة المواطن”، حيث يتم انتقاء وتحرير ونشر مقالات من الكتاب العاديين والمتمرسين باللغة الإنجليزية أو العربية. فيما يمنح مثال آخر يتمثل في بوابة المندرة، والتي تم تأسيسها من قبل صحافية مصرية في عام 2010، صوتاً للسكان الأكثر فقراً في ريف صعيد مصر.

https://www.bue.edu.eg/

يمكن لكليات الصحافة أن تقوم بالمزيد لإعداد الطلاب لإطلاق ما ينتجونه من مشاريع إعلامية بمثل هذه الطرق. ويمكنها أيضاً أن تساعد رواد الأعمال الناجحين على الاستفادة من البيئة الجامعية من خلال التعاون والمناقشات مع الطلاب والأساتذة حول تجاربهم والتحديات التي يواجهونها وخططهم المستقبلية.

مع ذلك، وعلى الرغم من الإمكانيات الواضحة للصحافة الريادية، فإنها ما تزال شبه غائبة عن المناهج الصحافية في الجامعات العربية.

هناك حاجة للتغيير إذا ما أردنا أن يبقى الصحافيون في العالم العربي مواكبين للعبة. لكن، ومن أجل القيام بذلك، يجب تشجيع كليات الصحافة على التعاون مع الأقسام الأخرى في الجامعات، مثل: إدارة الأعمال، وتكنولوجيا المعلومات، وعلم الاجتماع، والفنون والعلوم الإنسانية. نحن بحاجة لتطبيق المنهج “متعدد التخصصات” الشهير – والذي يُشاد به باستمرار ونادراً ما يتم تطبيقه.

إن التعرف على التحليل الاجتماعي بمناهجه وأساليبه أمر ضروري في الصحافة العربية اليوم لأنه، وفي لحظة التغيير الاجتماعي التاريخي هذه، يجد الصحافيون أنفسهم وهم يخاطبون المجتمع المدني، تماما كما هو حال علماء الاجتماع على الدوام.

يمكن لعلماء الاجتماع مساعدة طلاب الصحافة على تعزيز مهاراتهم في كشف الواقع الاجتماعي الذي يقف وراء شؤون الحياة العادية. حيث تعد المعرفة العميقة بالمؤسسات الاجتماعية (الأسرة والتعليم والدين والصحة)؛ والفوارق الاجتماعية (السن والطبقة والنوع الاجتماعي والحياة الجنسية)؛ والموضوعات المتعلقة بالتفاعلات الاجتماعية (العمل، والصداقة، والحب، والزواج، وما إلى ذلك) من العناصر التي لا تعد ولا تحصى في علم الاجتماع.

قد تكون بعض المواضيع التي يتناولها الصحافيون مثيرة للجدل حتماً، ولدى علماء الاجتماع الكثير من الخبرة في كيفية العثور على البيانات وإجراء الدراسات الاستقصائية والمقابلات لهذه المواضيع. فعلى المستوى العملي، يمكن لأساتذة علم الاجتماع تعليم طلاب الصحافة سبل المقاربة والإبحار في خضم تلك القصص المثيرة للجدل.

إن القدرة على استكشاف هذه الموضوعات أمر حيوي لاسيما في العالم العربي بسبب الغياب الطويل لأية حرية تعبير حقيقية.

عندما نتحدث عن صحافة البيانات، يمكن أن نهمل بسهولة كوننا نناقش حياة الناس وتجاربهم الخفية وراء تلك الأرقام.

هناك الآن اهتمام كبير من قبل الصحافيين بوسائل البحث الكمية والنوعية في البحوث الاجتماعية للتعامل مع تحليل البيانات. ويحتاج الصحافيون إلى هذه المهارات لإنتاج رسومات بيانية وبيانات مرئية أخرى. إن خبرة علماء الاجتماع مسألة حيوية بالنسبة للصحافيين اليوم لأن في إمكانها أن تساعدهم على أن يكونوا أفضل الرسل والموثقين لثقافة عصرهم.

مع ذلك يشبه الأمر شارعاً ذو اتجاهين، حيث يمكن لكليات وأقسام الصحافة تقديم التدريب لعلماء الاجتماع أيضاً.

لدى العديد من علماء الاجتماع أمور مثيرة للاهتمام ليخبرونا بها عن العالم الذي نعيش فيه، لكنهم يحجمون عن مشاركة عملهم مع الجمهور الأوسع خارج أسوار الجامعة. ويرجع جزء كبير من ذلك إلى كونهم لا يعرفون كيفية ترجمة عملهم ليفهمه غير الخبراء. ويمكن للصحافيين أن يساعدوا في تدريبهم على كيفية تقديم مقترح عن أبحاثهم للمراسلين الصحافيين أو عبر احتراف الكتابة للقارئ العادي.

على ذات القدر من الأهمية، هناك حاجة للبدء بتدريس برامج الصحافة باللغة العربية – لغة وسائل الإعلام الرقمية والاجتماعية في المنطقة – لكن معظم الجامعات لا تزال تدرس الصحافة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية فقط. هذا هو الحال بالطبع في الجامعات ذات الأسماء الكبيرة الموجودة في لبنان ومنطقة الخليج ومصر وبعض بلدان شمال أفريقيا.

لهذا الأمر تأثير كبير؛ إذ أن الكثير من الصحافة الجريئة والمثيرة للجدل في العالم العربي تنشر باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. وهناك سبب وجيه لذلك لأنها لا تشكل تهديدا للسلطات لكونها لا تصل إلى جمهور واسع. فالكتابة بلغة أجنبية أكثر عرضة للتسامح من قبل الأنظمة العربية الحاكمة.

وإذا ما أرادت الصحافة أن يكون لها تأثير في منطقة ما، فينبغي أن يتم نشرها باللغة التي يتحدثها شعبها.

قد تكون الكتابة بالإنجليزية أو الفرنسية آمنة، لكن ما الفائدة من ذلك ما لم يتمكن أغلبية القراء من الإطلاع عليها؟

*بولا الخوري، باحثة مشاركة في مركز التحليل والتدخل الاجتماعي Centre d’Analyse et d’Intervention Sociologiques في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، في باريس. لدى الخوري خبرة لأكثر من 20 عاماً كصحافية وعالمة اجتماع، حيث ساهمت في تعميم العلوم الاجتماعية في المواضيع الصحافية التي تكتبها. وهي تترجم حاليا إطروحة الدكتوراه الخاصة بها عن رائدات الأعمال اللبنانيات من الفرنسية إلى العربية، بهدف جعلها في متناول الجمهور غير الأكاديمي.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى