مقالات رأي

الاستماع للمعلمين الطريقة المثلى لتحسين التدريس

جلست جويا جردي في مؤخرة القاعة وهي تحاول دون جدوى أن تبقي عينيها مفتوحتين بينما تتظاهر بتدوين الملاحظات. تمتلك جويا خبرة واسعة في التدريس وهي ترأس حالياً قسم العلوم في مدرسة دولية تضم صفوفاً من الروضة حتى الصف الثاني عشر. وقد حضرت ورشة عمل حول التعلم المدمج كجزء من التدريب على التطوير المهني الذي تنظمه المدرسة في وقت ما بعد الظهيرة كل يوم أربعاء.

لم تختر جويا هذا الموضوع ولا تعرف كيف يمكنها تطبيقه لتحسين تدريسها. تكلّم المتحدث، وهو خبير في هذا المجال، لمدة ساعتين عن التعلم المدمج من دون أية معرفة عن المدرسة وعمّا إذا كان المدرسون أو الطلاب أو أولياء الأمور مستعدين للتعلم المدمج.

في الأسبوع المقبل، ستحضر جويا ورشة عمل حول الذكاء العاطفي. ومن المتوقع أن تقوم بتطبيق المفهومين في تدريسها وتدعم المدرسين في قسمها لتطبيق هذه المفاهيم.

بالنسبة للعديد من أصحاب المهنة، يرسم هذا السيناريو صورة دقيقة إلى حد ما لطبيعة التطوير المهني ومعضلة المعلمين مع كيفية الاستفادة منه. ويعتبر هذا أحد الأمثلة العديدة التي تعكس تصوراً للمعلمين باعتبارهم أدوات لتطبيق المعارف وتقنيات التعلم، في حين أن المعلمين هم مشاركون أساسيون في العملية التعليمية ومن الواجب تمكينهم والنظر إليهم كصناع قرار.

لا يقتصر دور التطوير المهني على الإلمام بمعرفة الممارسين فحسب بل يمتد الأمر لتزويدهم بالمهارات والرؤى التي تساعدهم على توجيه عملية تعلّمهم.

بعد أن أمضيت أكثر من 16 عامًا في التدريس وإدارة المدارس، يمكنني أن أؤكد لكم بأن أحد أكثر الأمور التي يفزع المعلمون منها هي التطوير المهني. بصفتي معلمة لطالما سألت نفسي، “لماذا يتعين عليّ الاستماع إلى مجموعة من الخبراء الخارجيين الذين لا يعرفون شيئًا عن مدرستنا؟” و”كيف يمكن أن يكون هذا التعلم مفيداً؟” لكن هذه الأسئلة بقيت بلا إجابة بالنسبة لي وللعديد من المعلمين.

غالباً ما يُطلب من المعلمين حضور ورش التطوير المهني. كمدرسة أو إدارية في مدرسة، غالبا ما تساءلت مع نفسي عن القيمة المضافة لهذه الورش المعزولة التي يحضرها المعلمون. أحضر ورش العمل تلك في الغالب، لكن لم تتح لي الفرصة لتطبيقها في عملي.

توقفت عن العمل منذ عام لأكرّس وقتي للبحث الذي يرتكز على الممارسات اليومية للمدرسين. تفقد البحوث الكثير من أهميتها عندما تفشل في التحدث بلغة الممارسين. أعمل حالياً كمحاضرة جامعية ومدربة. وفي كل من هذين الدورين، أركز على الاستماع إلى اهتمامات المعلمين ومدراء المدراس وحضورهم. أتذكر على الدوام الأيام التي جلست فيها في القاعات للاستماع إلى خبراء يتحدثون إلينا عن موضوعات كنت أعلم بأنني لن أتمكن من تطبيقها في فصولي الدراسية على الاطلاق.

هدفي هو المشاركة في بحوث تعاونية مع معلمين، مما يجعلها جزءً محوريًا من البحث. فعندما يصبح المعلمين باحثين، يصبح التطوير المهني مجدياً وفعالاً ومستداماً.

لطالما اعتبر التطوير المهني جزءً لا يتجزأ من أساليب تحسين المدرسة. ففي سياقه التقليدي، كان التطوير المهني يعادل فكرة استقدام مجموعة من الخبراء الخارجيين، ومن أساتذة الجامعات على وجه الخصوص، ليقدموا المشورة لمستمعين سلبيين من أمثال جويا حول كيفية حل مشاكلهم والتغلب على التحديات التي يواجهونها في ممارستهم. بالطبع هناك قيمة في تعريض الممارسين لمعرفة الخبراء. لكن السؤال هو، ما مدى وعي هؤلاء الخبراء بالاحتياجات السياقية للمدارس التي يزورونها، ولماذا تحتاج المدارس إلى الاعتماد حصريًا على الخبراء الخارجيين من أجل تحسينها؟ تشير الأبحاث إلى فشل العديد من برامج التطوير المهني بسبب طبيعتها التي تعتمد وجود نهج واحد يناسب الجميع.

وليكون التطوير المهني فعالا وقادراً على كسب ثقة المعلمين ومدراء المدارس، فإنه يحتاج إلى التخلص من إطاره كمهمة “إضافية” تضاف إلى المهام الكثيرة للمعلمين. يجب أن تصبح جزءً لا يتجزأ من ممارساتهم اليومية، كما يحتاج إلى أن يصبح مرتكزًا على التعلم المهني في الممارسة. وحتى يحدث هذا، لا يمكننا التحدث عن تطوير مهني مفيد ومستدام وفعال.

أيضاً ليكون التعلّم المهني ذو معنى، ينبغي أن يكون نابعاً من احتياجات ورغبات المتعلمين. لذلك، فإن من الأهمية بمكان بالنسبة لمصممي التطوير المهني قضاء بعض الوقت في التعرف على السياق الذي يعملون فيه. والأهم من ذلك، يحتاج المصممون للعمل مع المعلمين في المدارس لمساعدتهم على تحديد احتياجاتهم وأولوياتهم التعليمية. لا يجبر المدرسون طلابهم على التعلم؛ ولا يمكن للمدارس أن تملي على المعلمين شكل التعلم الذي يتوجب عليهم الانخراط فيه. في حالة جويا والعديد من المعلمين الآخرين في هذا المجال، يتم البت في الموضوعات بشكل عام من قبل إدارة المدارس ومجموعة من الخبراء الخارجيين. وقد تعكس هذه الموضوعات مصالح واحتياجات هؤلاء الممارسين أو قد لا تعكسها على الاطلاق.

قد تثبت محاولات جعل التطوير المهني مستدامًا كونها مسألة أكثر تحدياً. يمتلك الممارسون ثروة من فرص التعلم المحتملة غير المستغلة. ويجب أن يهدف التطوير المهني إلى تحسين مهارات “الممارسة الانعكاسية” لديهم حتى يتمكنوا من تحويل تجاربهم اليومية إلى فرص للتعلم. في الممارسة الانعكاسية، يتم تدريب المعلمين على التفكير في خبراتهم الوظيفية اليومية لتحسين تدريسهم. ونظرًا للإيقاع المتسارع لأيامهم، يميل المعلمون إلى تحويل المهام المعقدة إلى أسلوب روتيني، وبالتالي يصبحون غافلين عن “التعلم” المتضمن في هذه المهام. تدفع الممارسة الانعكاسية المعلمين إلى التوقف وتحويل هذه الخبرات الروتينية إلى فرص تعلم ديناميكية.

يتعلق جعل التدريب على التطوير المهني فعالاً بالقدرة على تحقيق أهداف التدريب أو لا. في الإطار التقليدي للتطوير المهني، على شكل سلسلة من ورش العمل، غالباً ما يتم التغاضي عن الرصد والتقييم. فما أن تنتهي ورشة العمل التي تحضرها جويا والتي تتحدث عن التعلم المدمج، حتى تعود إلى فصلها الدراسي مع القليل من الدعم والمتابعة لتحديد ما إذا كانت قد أدركت المفهوم وتقوم بتطبيقه بفعالية أو لا.

تفقد البحوث الكثير من أهميتها عندما تفشل في التحدث بلغة الممارسين، تقول الكاتبة. (الصورة: عزالدين الناطور)

مؤخراً، تلقيت منحة من مبادرة جودة التعليم والتعلم للجميع، وهي جزء من برنامج مركز الروابط العالمية للأطفال Global TIES for Children التابع لجامعة نيويورك، لتصميم خطط التطوير المهني للمساعدة في تحسين تدريس التفكير النقدي في المناطق المحرومة في لبنان.

تسعى المبادرة، المعروفة باسم مساواة أو Equal، إلى بناء شبكات تقوم بإشراك الباحثين والمعلمين والمنظمات غير الحكومية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفي أفريقيا جنوب الصحراء لمساعدة تلك البلدان على تحقيق الأهداف التعليمية العالمية المحددة في إطار الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. وكجزء ﻣن أﻧﺷطﺗﮭﺎ، ﺗوﻓر ھذه اﻟﺷﺑﮐﺎت ﻣﻧﺢ أساسية ﻟﻟﺑﺎﺣﺛﯾن اﻟﺗﻌﻟﯾﻣﯾﯾن ﻓﻲ ﮐﻼ اﻟﻣﻧطﻘﺗﯾن ﻟﻟقيام بمشاريع ذات ﺻﻟﺔ ﺑﺄھداف وﻣؤﺷرات هذا الهدف.

في مجال تصميم خطط التطوير المهني للمدرسين في لبنان، كنت حريصة على ضمان أن يكون التدريب مفيداً ومستداماً وفعالاً. كما كنتُ مصرّة على مساعدة المعلمين والإدارات المدرسية في خلق بيئة تعلم يمكنهم من خلالها مواصلة التعلم والتطوير لفترة طويلة بعد انتهاء منحة المساواة Equal.

يمثل التفكير النقدي والممارسة الانعكاسية طريقتين لتمكين الأفراد ومساعدتهم في توجيه عملية تعلمهم. وهناك مجموعة كبيرة من الأبحاث التي تربط التفكير النقدي بالتعلم مدى الحياة والمواطنة العالمية.

تشير الأبحاث إلى أن المعلمين بحاجة إلى المعرفة والمهارات حتى يتمكنوا من تعليم التفكير النقدي. وفي السياق اللبناني، هناك نقص في المواد المنشورة حول فعالية خطط التطوير المهني بشكل عام وتلك التي تهدف إلى تحسين تعليم التفكير النقدي بشكل خاص. وعلاوة على ذلك، تشير المراجعة الأدبية إلى وجود نقص في الأبحاث المرتبطة بخطط التطوير المهني مع التغييرات في تعلم المعلمين والطلاب.

في هذا السياق، يهدف بحثي إلى سد الفجوة في مبادرات التطوير المهني من خلال تطوير نموذج مستدام وفعال ومتجذر في تحسين التفكير النقدي لدى الطلاب. سيكون مستداماً بمعنى أن المجتمع التعليمي سيواصل تعليمه الراسخ وظيفياً في مجالات متجذرة في تحسين مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب، وفعالاً بمعنى أن تكون هناك آليات لرصد وتقييم تقدم تعلم الطلاب والمعلمين. ويهدف المشروع إلى تطوير نموذج يمكن توسيع نطاقه للوصول إلى المستوى الوطني.

ويتضمن المشروع الأهداف التالية:

– تحديد احتياجات التعلم للمدرسين فيما يتعلق بتنمية التفكير النقدي للطالب.

-تحليل العوامل التي تؤثر على الطريقة التي يتعلم بها ممارسو المهنة التدريس.

-قياس التغييرات في ممارسات المعلمين على مستوى الفصل الدراسي.

-قياس التغييرات في الممارسة الانعكاسية للمدرسين.

-قياس التغييرات في مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب.

-تطوير نموذج تطوير مهني يهدف إلى تحسين تدريس التفكير النقدي بحيث يكون مستداماً وقابلاً للتكيف مع الاحتياجات السياقية المختلفة.

لن يساعد تحقيق هذه الأهداف على تحسين تدريس التفكير النقدي فحسب، لكنه سيساعد أيضاً في تطوير الممارسة الانعكاسية لدى المعلمين، مما يجعل التعلم مستدامًا. في هذا السياق، يستخدم المشروع تدريس التفكير النقدي كوسيلة لتحسين الممارسة الانعكاسية للمعلمين.

وليكون فعالاً، يجب أن يكون التطوير المهني مستمراً واجتماعياً وبمثابة نشاط سياقي يعتمد في المقام الأول على مبادرات المعلمين ومتجذراً في تحسين تعلم الطلاب. عندما تنضم جويا جوردي الى حصص التطوير المهني الخاصة بنا، لن تجبر عينيها على البقاء مفتوحتين لأنها ستكون واثقة ومتحمسة بخصوص موضوع تَعلم بأنه مهم وذو صلة بممارستها.

الشغف هو المحرك للتعلم التحويلي الذي يؤدي إلى تحسين المدرسة!

*يارا هلال، دكتوراة ومحاضرة في قسم التربية في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة هيغازيان.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى