أخبار وتقارير

أطباء لبنان الجدد يدرسون اللغة الفينيقية

في الفصل الخريفي من العام الدراسي الحالي، قدمت كلية الطب في جامعة القديس يوسف في بيروت دورة في موضوع لا يرتبط بدراسة الطب في العادة: مقدمة عن اللغة الفينيقية المكتوبة، وهي لغة سامية قديمة من منطقة كانت تضم لبنان الحديث في الماضي.

قال مارون خريش، الأستاذ الذي يدرس مساق اللغة الفينيقية، “حقق الفصل الدراسي الأول نجاحاً حقيقياً، وقد فتح باب التسجيل للفصل الدراسي الربيعي.” وأشار إلى أن 35 شخصاً قد سجّلوا في الفصل الدراسي الأول، بما في ذلك طلاب طب وأساتذة وخريجين.

وكان تقديم المساق مبادرة شخصية من رولان طنب، عميد كلية الطب وهو رجل ذو اهتمامات واسعة: فهو متخصص في الأمراض الجلدية، لكنه يحمل درجة الدكتوراه في الفلسفة والأخلاق، فضلاً عن دراسته للاهوت واللغات القديمة.

قال طنب في مقابلة مع صحيفة “لوريان لو جور” الناطقة بالفرنسية إن “الطبيب ليس عالماً فقط. ومن الواضح طبعاً أن كونك طبيب جيد لا يحتاج إلى معرفة اللغة الفينيقية. … لكننا هنا لإعداد مواطنين وليس أطباء فحسب.”

وتقدم الكلية أيضاً مساقات اختيارية في مواضيع مثل المسرح والسينما واللغات الأجنبية، لإعطاء طلاب الطب تعليماً إنسانياً مستقلاً.

لا يعتبر مساق اللغة الفينيقية القديمة مجرد نظرة علمية في موضوع متخصص في التاريخ القديم لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، ففي منطقة هيمن عليها اليونانيون والرومان، لعب الفينيقيون دوراً صغيراً نسبياً. إلا أن تاريخ وثقافة الفينيقيين كان لهما أهمية خاصة في تشكيل الهوية اللبنانية، التي تحولت وتطورت على مر السنين، بدءً من أواخر العهد العثماني مروراً بتأسيس الدولة اللبنانية الحديثة وحتى وقتنا الحاضر.

عملة لبنان من فئة 1000 ليرة

تعتبر عملة لبنان من فئة 1000 ليرة (والتي تبلغ قيمتها حوالي 0.66 دولار أميركي) مثالاً جيداً على الأهمية التي يمتلكها الفينيقيون في التصور الوطني الرسمي. حيث يظهر التصميم على الجانب العربي من العملة أربعة أبجديات مرتبة في أربعة أسطر، من الأعلى إلى الأسفل. وتشمل هذه الأبجديات: الفينيقية القديمة والآرامية/ الفينيقية المبكرة والنبطية والعربية. وتشير الرسالة هنا إلى وجود خط متواصل للحضارة من اللغة الفينيقية القديمة وحتى العربية المعاصرة.

https://www.bue.edu.eg/

قال مارون خريش “لدينا حروف فينيقية على عملتنا، لكن أحداً لا يعرف كيف يقرأها. لماذا لا نحاول فهمها؟ يمكننا على الأقل تعلم الأساسيات.”

يقدم المساق للمشاركين مقدمة في قراءة الكتابة الفينيقية، ونظرة على الأمثلة الباقية من اللغة الفينيقية على مدى ألف عام من القرن الثالث عشر إلى القرن الثالث قبل الميلاد.

وصلت اللغة الفينيقية المكتوبة إلينا من خلال مجموعة من حوالي 10,000 نقش على الحجر، ولاسيما على المقابر والهياكل الدينية الموجودة في جميع أنحاء منطقة البحر الأبيض المتوسط، من لبنان إلى تونس والعديد من الأماكن فيما بينهما. لكن لم يصلنا شيء من الأدب الفينيقي، وهذا أحد الاسباب المرتبطة بالغموض الدائم حول هوية الفينيقيين الحقيقية.

رفض المزاعم الزائفة

أدت الندرة النسبية للمعلومات عن الفينيقيين إلى أن يُنظر إليهم على أنهم صفحة فارغة يمكن رسم صورة خيالية عنها. يقول خريش إن أحد أهداف مساقه هو تبديد الأفكار الشعبية عن الفينيقيين والتي لا أساس لها من الصحة.

ففي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، على سبيل المثال، ادعت الجماعات المارونية المسيحية بأن الموارنة ينحدرون من الفينيقيين القدماء، واستخدموا هذه الحجة لتمييز أنفسهم كمجموعة عرقية عن بقية اللبنانيين. يرى خريش بأن إصلاح هذه الفكرة جزء من هدف هذا المساق في جامعة القديس يوسف.

قال “نريد أن نقول للجميع بأنه ليس من الضروري أن يكون المسيحيين فينيقيون وأن المسلمين ليسوا بالضرورة عرباً. الفينيقيون إرث نمتلكه هنا في لبنان ويجب أن نحافظ عليه ونعززه بغض النظر عن الفصيل الطائفي أو الديني.”

غلاف كتاب جوزفين كوين

في الوقت ذاته، يقول كتاب جديد لجوزفين كوين، الأستاذة المشاركة في التاريخ القديم في جامعة أكسفورد، إنه ليس في الإمكان النظر إلى الفينيقيين على أنهم مجموعة وطنية أو عرقية متماسكة. حيث كتبت كوين بأن الفينيقي قد عرّف نفسه بأنه ينتمي إلى بلدة ما، مثل صيدا أو صور، وليس بصفته مواطناً ينتمي لأمة باسم الفينيقيين.

يقول كتاب كوين “بحثاً عن الفينيقيين” إن مصطلح “الفينيقيين” في تاريخ منطقة البحر الأبيض المتوسط القديم، ويشير إلى فئة من الناس يشتركون ببعض الأنشطة المعروفة أكثر من كونه إشارة إلى مجموعة عرقية واحدة. ففي قصائد هوميروس، على سبيل المثال، يُسمى كل التجار باسم “الفينيقيين”.

كتبت كوين “يقال القليل جدا عن الفينيقيين بصفتهم مجموعة قائمة بذاتها من قبل أي مؤلف يوناني في الفترات القديمة أو الكلاسيكية، بخلاف ذلك، فإنهم، وكما وصفهم هوميروس، “مشهورون بسفنهم”. في أقدم استخدام للكلمة، كان [الفينيقيون] مجرد مصطلح غامض لوصف البحارة المشرقيين الذين تحدثوا لغة متميزة.”

أياً كانت هوية الفينيقيين، فقد أنشأ هؤلاء البحارة مستعمرة قرطاج على ساحل تونس الحالية، وهي مستوطنة نمت وفرضت هويتها الخاصة في العالم القديم.

يقول خريش إن الطلاب في مساقه غالبا ما يطرحون هذا السؤال، “هل ابتكر الفينيقيون الأبجدية؟”

ويجيب “لم يخترع الفينيقيون الأبجدية. فقد كان تطوير الأبجدية عملية استمرت لمئات السنين. ما فعله الفينيقيون هو تثبيت الأبجدية”. حيث أوجدوا اتفاقاً حول الكتابة من اليمين إلى اليسار، وقاموا بتوحيد شكل ووظيفة الحروف.

أما بالنسبة لمستقبل الدراسات الفينيقية، يقول خريش إن الميدان سيستفيد من العمل الآثاري المتجدد. ليست هناك تنقيبات أثرية كبيرة في لبنان أو خارجه مكرسة للبحث عن البقايا الفينيقية، فيما تواجه الحفريات الموجودة مشكلة كون الطبقات التي قد تضم بقايا فينيقية كبيرة مضطربة أو لم تدرس بعد.

حصل خريش على درجة الدكتوراه من المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس Ecole Pratique des Hautes Etudes؛ وكانت أطروحته عن تاريخ صور من القرن الثاني عشر إلى القرن السادس قبل الميلاد. ولكونه متخصص في التاريخ القديم للبنان ويعمل في مجال التدريس في لبنان، يصف خريش نفسه بأنه “بمثابة فرد من الأنواع المهددة بالانقراض”.

وبينما حظي مساق اللغة الفينيقية في جامعة القديس يوسف بحضور جيد ونال الشهرة، يشير خريش إلى تراجع الاهتمام بدراسة التاريخ القديم في الجامعة اللبنانية، وهي الجامعة الأخرى التي يُدرس فيها. إذ أن عدداً قليلاً من الطلاب يتخرجون من قسم التاريخ القديم كل عام. قال “نحن نفتقر إلى الاهتمام بالثقافة والعلوم الإنسانية في العالم العربي.”

Countries

تعليق واحد

  1. السلام عليكم
    معكم د حمد الغيلاني
    من صور العمانية
    تحية لكم جميعا اهل لبنان الحبيبة

    اريد اتواصل مع د. خريش
    حول اللغة الفينيقية وكيفية تعلمها

    خالص الشكر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى