مقالات رأي

حقوق المرأة في تونس: مكاسب قليلة وتضحيات كبيرة

تشتهر تونس بكونها في طليعة الدول الداعمة لحقوق المرأة في العالم العربي. عندما سافرتُ إلى هناك في أيار/ مايو، انتابني الفضول لمعرفة كيف يمكن للباحثات والناشطات النسويات، في أعقاب سقوط نظام بن علي، إعادة النظر في إرث وتأثير “نسوية الدولة”، وكيف يمكن أن يتعاملوا مع الفجوة العميقة بين النسويات العلمانيات ومن يوصفن بأنهن “نسويات إسلاميات”.

قالت رجاء بن سلامة، أستاذة التحليل النفسي في جامعة منّوبة والمثقفة النسوية البارزة، “كانت نسوية بن علي من أعمال العنف التي لا تطاق.”

وكنت قد التقيتُ ببن سلامة في مكتبها في المكتبة الوطنية التونسية، حيث تشغل منصب إدارتها منذ العام 2015.

تقول بن سلامة إن بن علي كان يحاول تصوير نفسه على أنه “هو الذي يحرر النساء، بينما نعلم بأنه كان يسيء معاملة النساء من الإسلاميات واليساريات.”

وأشارت العديد من الباحثات النسويات اللاتي التقيتُ بهن إلى أن النظام السابق خلق فئتين من النساء: أولئك اللاتي أيدنه وتمتعن بحقوقهن، وأولئك اللاتي عارضنه.

قالت إبتهال عبد اللطيف، رئيسة لجنة المرأة في هيئة الحقيقة والكرامة التونسية، والتي تركز في عملها على انتهاكات حقوق الإنسان ضد المرأة، “قد تكون تونس (أفضل) دولة في العالم العربي من حيث حقوق المرأة. لكن لم تتمكن جميع النساء من الإستفادة من تلك الحقوق.” مشيرة إلى أن الشهادات التي جمعتها الهيئة كشفت أن النساء اللاتي لم ينظر إليهن على أنهن مواليات للنظام سياسياً قد واجهن قمعاً رهيباً.

بورقيبة وهو ينزع غطاء الرأس عن إحدى السيدات في تونس (ويكيميديا كومنز).

تعود سمعة تونس باعتبارها بلداً رائداً في مجال حقوق المرأة إلى أول رئيس للبلاد، الحبيب بورقيبة، الذي أصدر قانوناً جديداً للأحوال الشخصية عام 1956، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من الإستقلال. إذ قام بإلغاء تعدد الزوجات واستبدل الطلاق (الطلاق السريع غير الرسمي الذي لا يتوجب فيه على الزوج سوى قول “أنت طالق”) بالطلاق المدني الذي يمكن أن يبدأه الرجل أو المرأة. وفي ستينيات القرن الماضي، كانت الدولة تحمي حق المرأة في العمل والسفر وامتلاك أعمالها الخاصة، وشجعت بنشاط تنظيم الأسرة. ورفض بورقيبة الحجاب باعتباره “خرقة بغيضة” وتم تصويره وهو يزيل حجاب النساء على التلفزيون الوطني.

بالنسبة لبورقيبة، كان تعزيز حقوق المرأة جزء من مشروع عصري للتنمية ومكافحة الاستعمار. وكما كتبتُ في مكان آخر، يبقى إرث بورقيبة قضية مثيرة للانقسام للغاية في تونس حتى يومنا هذا. قالت بن سلامة إن إصلاح الرئيس لقانون الأحوال الشخصية “قلب المجتمع رأساً على عقب.” ففي حين أن العديد من الإسلاميين لا يزالون يحتقرونه، إلا أنه “مبجل من قبل النساء من جيل والدتي.”

اليوم، تلاحظ العديد من النسويات التقدم الحقيقي الذي أحرزته النساء في عهد بورقيبة، لكنهن يجادلن بأن نسوية الدولة التي أسس لها بقوة كانت لا تزال جزءً من “ثقافة النظام الأبوي السياسي“.

قالت هند أحمد زكي، الباحثة التي تعمل على إنهاء دراستها في جامعة واشنطن عن الحراك النسوي في تونس ومصر، “نعلم جيداً ما هو الخطأ في نسوية الدولة.” فبينما يؤكد النهج التنازلي التقدم الرسمي والقانوني، إلا إنه غالباً ما يتجاهل حقائق اجتماعية من قبيل العنف المنزلي وانعدام المساواة الاقتصادية، وعدم منحه مساحة كافية للجمعيات النسائية المستقلة، وكثيراً ما يستخدم حقوق المرأة كشكل من أشكال الدعاية الحكومية، وهي وسيلة لحرف الانتقاد الموجه لسجلها في حقوق الإنسان. وكان ذلك هو الحال في العديد من البلدان العربية، مثل مصر وسوريا.

تقول زكي، التي أجرت أبحاثاً ميدانياً واسعة النطاق في تونس في السنوات الأخيرة، إنه وعلى الرغم من كل هذه العيوب، إلا أن نسوية الدولة هناك كانت بمثابة “قوة مختلطة”. فبعد انتفاضة عام 2011، بدأت النسويات التونسيات “معركة الدفاع عن المكاسب التاريخية”، ولاسيما أثناء عملية كتابة الدستور، بحسب محمود. قالت “استخدمت تلك النساء إرث نسوية الدولة بشكل نشط للغاية للدفع نحو المزيد من الحقوق الرسمية.”

بمعنى آخر، لقد حافظن على “نسوية الدولة”.

بعد الانتفاضة، فاز حزب النهضة الإسلامي المعتدل المحظور سابقاً بأغلبية المقاعد في الجمعية التأسيسية للبلاد. لكن، وبعد نقاشات ساخنة، انتهى الدستور بعدم احتوائه على أية إشارة للشريعة الإسلامية، فضلاً عن تكريسه لمبدأ “المساواة” بدلاً من “التكامل” (وهو مصطلح اقترحه الإسلاميون) بين الرجال والنساء.

قالت بن سلامة “لم يحدث أي تراجع في حقوق المرأة،” مشيرة إلى أن تونس رفعت تحفظها على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (وهي اتفاقية الأمم المتحدة المعتمدة عام 1979 بشأن إنهاء التمييز ضد المرأة). كما تم اعتماد قانون انتخابي يهدف إلى تحقيق التكافؤ التام بين الرجال والنساء في الهيئات المنتخبة، والتي تطالب الأحزاب السياسية بأن يكون عدد المرشحات من النساء بقدر عدد المرشحين من الرجال. وصوت حزب النهضة على هذا القانون، ومن بين 34 في المئة من البرلمانيات في تونس اليوم، يمثل العدد الأكبر منهن الحزب الإسلامي.

كما حافظت تونس على قانون الأحوال الشخصية. ووفقاً لصوفي بسيس، المؤرخة التونسية، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وعندما اكتسبت الحركة الإسلامية زخماً، أصبح القانون “خطاً أحمر” يفصل “العصريين” عن “الرجعيين”. وكذلك حال ارتداء الحجاب الذي كان محظوراً في المدارس والجامعات والإدارات العامة عام 1981.

وتم تطبيق هذا الحظر بقوة بعد وصول بن علي إلى السلطة عام 1986 وشن حملة قمع ضد الإسلاميين. ودعم الرئيس حقوق المرأة الرسمية، لكنه طالبهن بالولاء السياسي في المقابل. وتم إرسال النساء من البرلمانيات والأكاديميات ورئيسات المؤسسات الحكومية إلى الخارج للدفاع عن النظام ضد الاتهامات بالاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان، كما كتبت صوفي بسيس.

في الوقت ذاته، واجهت الناشطات المستقلات اللواتي انتقدن النظام المضايقة والتشهير. فبحسب ما كشفت الشهادات الأخيرة التي جمعتها هيئة الحقيقة والكرامة في البلاد، تعرضت النساء المرتبطات بالحركة الإسلامية لإساءات مروعة، بما في ذلك الاغتصاب والتعذيب أثناء الاحتجاز والطلاق القسري.

كتبت بسيس “هل كان النظام التونسي “نسوياً” نتيجة للضرورة السياسية وإخفاء العجز الديمقراطي .. أو بسبب قناعة حداثوية؟ وهل يستحق حتى أن يُسمى نسوياً؟ لكن الأمر المؤكد هو أن النظام كان ماهراً في قدرته على استخدام النساء.”

كما أنه نجح في تقسيم النساء أيضاً. ففي ظل حكم بن علي، بحسب محمود، قد تتواجد النساء الإسلاميات والعلمانيات “في عالمين مختلفين أيضاً.” حيث انخرطت النساء اليساريات العلمانيات في “صراع سياسي مع الإسلاميين” ولم “يقمن بالكثير لتوثيق أو مساعدة النساء الإسلاميات فيما كنّ يواجهنه من ظروف.”

قالت عبد اللطيف “لقد كسرت الدكتاتورية العلاقات بين النساء.”

استمر الانقسام الفظيع بين العلمانيين والإسلاميين بعد الانتفاضة، وكثيراً ما كانت حقوق المرأة ولباس المرأة نقطة الانطلاق.

فبعد الإطاحة ببن علي، علق العلمانيون والإسلاميون في “معركة كانت قد حسمت بانتصارنا”، بحسب بن سلامة. ويصح ذلك بالنسبة لحرم الجامعات أيضاً. فقد شهد مكان عمل بن سلامة في جامعة منوبة مواجهات مطولة ومعركة قضائية بين العميد والطالبات اللاتي أردن ارتداء النقاب في الحرم الجامعي. في نهاية المطاف، حكمت المحكمة لصالح العميد وسياسة المؤسسة المتمثلة في مطالبة الطالبات بالكشف عن وجوههن.

قالت خديجة بن حسين، أستاذة الفلسفة وأمينة الجمعية التونسية للبحوث والتنمية، “الفتيات اللاتي يرتدين النقاب يقللن من قيمة أنفسهن. إنهن يعتبرن أنفسهن لا شيء أكثر من جسدٍ مغرٍ.”

مع ذلك، تقول نساء أخريات إنهن تعرضن للتمييز على مدى عقود لمجرد إرتدائهن للحجاب. ولكونها ناشطة محجبة، منعت عبد اللطيف من الحصول على شهادة عليا في عهد بن علي. بعد الانتفاضة، كتبت أطروحة دكتوراه عن النسوية الإسلامية، في جامعة الزيتونة الإسلامية التاريخية. وهي ترأس اليوم لجنة المرأة في هيئة الحقيقة والكرامة، التي عملت بجد لجمع شهادات النساء. وواجهت النساء اللواتي وقعن ضحية للعنف والتعذيب الحكومي العبء الإضافي للوصمة الاجتماعية، لأن أولئك اللاتي أدلين بشهادتهن علناً قمن بكسر أحد المحرمات التاريخية.

تعرّف عبد اللطيف النسوية الإسلامية على أنها “امرأة تدافع عن حقوقها كمواطنة، من وجهة نظر ذات مرجعية دينية بدلاً عن المرجعية العلمانية.”

قال عبد اللطيف “يعتقد الناس أن الإسلام ضد حقوق المرأة. المشكلة هي خليط من الدين والتقاليد. يفرغ علماء الدين الدين من معناه. فبعد سبعين عاماً من وفاة الرسول، كانت رسالته قد تشوهت بالفعل.”

وتعتبر هذه حجة أساسية لدى النسويات الإسلاميات، وهي أن: الإسلام بذاته ليس رجعياً، لكن قروناً من التفسيرات المعادية للمرأة من قبل علماء دين من الرجال هي التي حطت من رسالته. إذ تقول باحثات نسويات مثل الراحلة فاطمة المرنيسي وأسماء المرابط في مغرب وهتون الفاسي من المملكة العربية السعودية إن إعادة قراءة القرآن بتجرد عن التفسيرات التقليدية التي فرضت عليه، سيدعم حقوق المرأة.

لهذا النوع من الحجج تاريخ أطول ممّا قد يتصوره المرء. ففي تونس، اكتشفتُ الطاهر الحداد، وهو باحث من مطلع القرن العشرين تحدث ضد الحجاب وتعدد الزوجات ودعا لمساواة المرأة وتعليمها. انفصل الحداد، الذي تلقى تعليماً دينياً تقليدياً ودرس في جامعة الزيتونة الإسلامية التاريخية، عن المؤسسة الدينية في وقتها، حيث قال في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” إن القرآن كان يعتزم ادخال تغييرات تدريجية وينبغي أن يُعاد تفسيره في ضوء الظروف الاجتماعية والتاريخية الجديدة. تعرض الحداد لهجوم من قبل علماء الدين والمحافظين اجتماعياً وتوفي وحيداً في المنفى عن عُمر يناهز السادسة والثلاثين. وبعد عقدين من الزمن، يُعتقد أن أفكاره كانت من بين المصادر الرئيسية لإستلهام قانون الأحوال الشخصية التقدمي لبورقيبة.

تستشهد كل من بن سلامة وبن حسين باستحسان عمل الحداد، لكنهما ترفضان النسوية الإسلامية اليوم.

قالت بن سلامة “النسويات الإسلاميات في حالة إنكار. يجب أن تكون متلاعباً ومخادعاً لتقول بأن القرآن لا يقلل من قيمة المرأة.”

واجهت بن حسين الفرضية الأساسية للنسوية الإسلامية. قالت “لماذا يتوجب علينا العودة إلى النص الديني، لنقضي حياتنا في قراءة وإعادة قراءة هذا النص، والقيام بمدّه كالمطاط لمعرفة ما سيسمح لنا به؟”

إن استخدام القرآن كمرجع يعني “إضفاء الشمولية، على دستورنا، وعلى المعاهدات الدولية” والانخراط مع الأصوليين الذين يختزلون الدين للحديث عن “لا شيء فيما عدا أجساد النساء”.

من ناحية أخرى، تقول عبد اللطيف إن الخطابات النسوية المختلفة يمكن أن تكمل بعضها البعض “يمكنك الدفاع عن حقوق المرأة استناداً إلى الاتفاقيات الدولية والدين.” وأضافت عبد اللطيف “اذا ما رفضت طريقة لباس النساء ودينهن ومعتقداتهن – فسوف يقمن برفضك بدورهن، حتى لو كنت تريد الأفضل لهن لأنك تعاملهن بازدراء.”

كما أخبرتني عبد اللطيف بأن العديد من النسويات لم يتقبلنها “إنهن يعتقدن أن النساء المحجبات لا يمكن أن يكن ناشطات نسويات.” وأضافت أنها حضرت اجتماعات وورش عمل حول حقوق المرأة بعد الانتفاضة تعرضت فيها للشجب من قبل نسويات علمانيات باعتبارها عميلة إسلامية أو “إرهابية”.

لكنها قالت لي أيضاً إنها تمكنت من خلال الاجتماعات المنتظمة من بناء علاقات ودية مع عدد من النسويات العلمانيات تدريجياً.

وتتفق محمود على أن هناك رغبة أكبر في المشاركة اليوم. قالت “هناك بالتأكيد قدر كبير من عدم الثقة، لكن الناس أكثر استعداداً للاعتراف بأخطائهم.”

أما الجيل الأصغر من الناشطات النسويات التونسيات، اللاتي بلغن بعد الثورة، فيبدو أنهن أقل وضوحاً من ناحية الأحقاد التاريخية والتصنيفات “الإسلامية – العلمانية”، بحسب محمود.

إذ يركز نشاط هذه الشابات بشكل متزايد على الحق في الخصوصية والحياة الجنسية والسلامة الجسدية وانهاء وحشية الشرطة.

قالت محمود “إنهن لا يعتقدن أن الإسلام والإسلاميين هما المشكلة فحسب. إنهن يعتقدن أن المشكلة تكمن في الشرطة والمجتمع أيضاً.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى