مقالات رأي

سوريا بأصوات أهلها الحقيقيين

ملاحظة المحررين: يأتي استعراض هذا الكتاب ضمن سلسلة من المقالات التي تكرسها الفنار للإعلام للكتب التي تم تأليفها من قبل لاجئين أو تتحدث عنهم.

لست من المهتمين بقراءة أي محاولات لتدوين ما حدث أو يحدث في سوريا مؤخراً.

لكوني سورية، شهدت بداية الثورة وتطوراتها وانعكاساتها داخل وخارج سوريا، أعتقد – أولاً- أنه مازال من المبكر العمل على تأريخ ما يحدث. ثانياً، أحبطتني الكثير من الروايات والكتب التي حاولت تصوير ما يجري فانجرفت وراء وجهة نظر لطرف على حساب أخر أو انغمست في مديح وربما تأليه فصيل أو فرد. ولأنني صحافية، فأنا أؤمن أن تدوين التاريخ لن يكون واقعياً وصادقاً إلا إذا كان مكتوباً بيد من شارك في صناعة هذا التاريخ. لذلك، وعلى سبيل المثال، لم أكترث يوماً بالكتب الكثيرة التي تحدثت عن حرب تشرين 1973 لأنني أتبنى دائماً رواية والدي الذي شارك فيها كمقاتل.

لذلك عندما وصلتني نسخة من كتاب ويندي بيرلمان “عندما عبرنا الجسر وكنا نرتجف، أصوات من سوريا”، كنت قلقة بعض الشئ.

تعمل المؤلفة كأستاذة في جامعة نورث وسترن، في شيكاغو. وقد كتبت سابقاً كتابين عن الحراك الفلسطيني. تبدو حياتها المهنية غنية بالمقالات حول الشرق الأوسط، خاصة وأنها تتحدث العربية وقضت الكثير من الوقت في المنطقة مما زاد من اهتمامي بمطالعة كتابها الجديد.

توقفت مطولاً أمام إهداء كتابها “لأولئك الذين لم يعيشوا لاستكمال قصصهم.”

بحسب أخر إحصاء أعلنته الأمم المتحدة في أب/ أغسطس 2013، فإن عدد القتلى في سوريا كان 191,000 شخص. حينها أعلنت المنظمة الدولية أنها  لم تعد قادرة على عمل حصر دقيق عن عدد القتلى، وأنه بسبب الشكوك المثارة حول دقة المعلومات المعلنة، فلن تعلن الأمم المتحدة أرقاماً جديدة. لا يبدو اعتبار الضحايا كأرقام أمراً إنسانياً، لكن التوقف عن إحصائهم يبدو أشد قسوة للكثيرين -وأنا منهم- وكأنهم لم يكونوا موجودين يوماً على هذه الأرض ولا فرصة أبداً لمعاقبة قاتلهم.

لامس إهداء الكتاب قلبي وذكرني بالعديد من الأصدقاء الذين فقدتهم خلال السنوات الماضية. قضيت الكثير من الوقت في التفكير فيما كان من الممكن أن يفعلوه اليوم لو كانوا على قيد الحياة.

في ذلك اليوم، لم أقرأ أي جملة أخرى من الكتاب.

في اليوم التالي، أمسكت الكتاب مجدداً وأنا مصممة على قراءة أكبر جزء منه. تجاوزت صفحة الإهداء سريعاً وتوقفت للحظات أمام خريطة سوريا وموقعها الجغرافي ضمن بلاد الشام ثم انتقلت لتصفح سريع لسير 86 شخصية سورية قابلتها المؤلفة بهدف كتابة كتابها منذ عام 2012 بصورة شخصية أو من خلال مقابلات جماعية في الأردن وتركيا ولبنان والإمارات العربية المتحدة والدنمارك والسويد وألمانيا والولايات المتحدة أو محادثات عبر الإنترنت استمرت لأيام.

تتنوع أصول الشخصيات لتشمل غالبية المحافظات والمدن السورية، وتشمل رجالاً ونساءً من أعمار مختلفة وأديان وطوائف متعددة. لم تذكر الكاتبة أسماء شخصياتها كاملة، بل اكتفت بالاسم الأول والمهنة والمكان والتاريخ الذي التقته فيه.

ويندي بيرلمان مؤلفة الكتاب والأستاذة الجامعية.

قسمت بيرلمان كتابها إلى ثمانية فصول عنونتها بـ: الاستبداد، وخيبة الأمل، والثورة، والقمع، والعسكرة، والحرب، والسفر، وتأملات. تتدرج الفصول – كما يبدو من عنوانيها- وفق تسلسل زمني يعكس واقع الأحداث في سوريا خلال فترة حكم حافظ الأسد ومن ثم ابنه بشار وبداية الثورة وما أل إليه الوضع بعد أكثر من ستة أعوام. خلال هذه الفصول، لم تتبن الكاتبة رواية الأحداث بصوتها أو حتى من خلالها بل فضلت منح الشخصيات السورية التي التقتها مطلق الحرية – والتي خرجوا بثورتهم من أجلها – ليرووا هم حكايات عاشوها أو عاشها من حولهم خلال كل فترة زمنية.

احتلت بعض القصص صفحتين أو ثلاثة، بينما اقتصر البعض على أسطر قليلة أو نصف صفحة لا أكثر. يأتي هذا الاختلاف ليعكس “التنوع الغني والمعبر للشخصيات السورية،” على حد وصف بيرلمان. كما يمكنني الجزم أن جميع القصص حملت غنى إنساني حقيقي ونكهة سورية خالصة سواء بالتفاصيل الحياتية أو المفردات المستخدمة أو حتى الرموز التي طالما اشتهر السوريين باستخدامها في كلامهم لتجنب الحديث المباشر في السياسة.

بعض الحكايات كانت لطلاب جامعيين انقطعوا اليوم عن دراستهم بسبب لجوئهم لدول أخرى بعد اعتقال سابق أو خوفاً من اعتقال قادم. كما كان من بين الشخصيات أساتذة جامعيين ومدرسين. وعلى الرغم من أن حكايتهم لم تحمل جديداً لما أعرفه مسبقاً – نتيجة عملي في تغطية قضايا تعليم اللاجئين- عن صعوبة أوضاعهم المعيشية وضياع أحلامهم الأكاديمية في دول اللجوء، إلا أنها رسمت أمامي صورة قاتمة عن ضياع ثروة بلادي الحقيقية الكامنة في شبابها وضياع أحلامهم في ثورة سلمية ووطن حر ومستقبل أفضل.

قالت بشرى، وهي أم سورية من ريف دمشق تعيش حالياً في منطقة مرج في لبنان، “اليوم، لايفكر الأطفال بالدراسة كوسيلة للحصول على فرصة عمل لاحقاً. ولكنهم يفكرون بالحصول على فرصة عمل تمكنهم من الذهاب إلى المدرسة يوما ما.”

يمتلئ الفصل الأخير من الكتاب برؤى تحمل تصميماً أكثر وضوحاً لدى الكثير من الشخصيات التي انخرطت بالثورة على عجل ودون تخطيط مسبق. لكن مسار الأحداث المؤلم دفعها اليوم لتكون أكثر نضجاً وثقة بفعل الثورة كفعل دائم ومستمر ولو من على بعد ألاف الأميال عن سوريا.

قال سامي، شاب جامعي من دمشق يعيش اليوم في بيروت “علينا أن نتحمل المسؤولية لتطوير أنفسنا. إذا غيرنا النظام، لكن لم نغير ثقافتنا الأوسع، فإن النظام سيعود لكن بأشخاص أخرين.”

تنهي الكاتبة كتابها بشكر جميع الشخصيات التي التقتها على ثقتها وقبولها مشاركة قصصها معها. وأنا بدوري أرغب بشكر الكاتبة على كرمها وإعطائها كامل مساحة كتابها لسوريين ليسردوا حكايتهم مباشرة دون وسيط ويشرحوا أفكارهم وأحلامهم وانكساراتهم وأخطائهم دون مواربة أو تورية. كما أنني بالتأكيد أنصح كل المهتمين بالتعرف على ما جرى ويجري في بلادي بقراءة الكتاب، فالتاريخ الحقيقي لن يكون إلا بأصوات أصحابه.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى