أخبار وتقارير

تونس: جراح تاريخية عصية على الاندمال

تونس – في أواخر آذار/ مارس، تقدم رجل مسن يرتدي الملابس التونسية التقليدية بتثاقل ليلتقط الميكروفون في قاعة مؤتمرات في ضواحي العاصمة تونس. كان الرجل قد جاء للتحدث عن الأحداث التي جرت في بلاده منذ أكثر من نصف قرن من الزمان. أثارت شهادته وشهادة الآخرين النقاش مجدداً حول إذا ما كان هناك حاجة لإعادة كتابة التاريخ الوطني للبلاد وسبل القيام بذلك ومن منوط بالمهمة.

كان الرجل يدلي بشهادته في إحدى جلسات هيئة الحقيقة والكرامة التونسية، والتي أنشئت في أعقاب الثورة والإطاحة بزين العابدين بن علي. تعتبر الهيئة، التي تعرف بالفرنسية باسم Instance Vérité et Dignité، جزءً من عملية العدالة الانتقالية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان منذ العام 1955 وتوثيقها.

تعاملت الهيئة مع أكثر من 60 ألف شهادة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وروى شهود في جلسات الهيئة قصصاً مروعة ومؤلمة عن التعذيب وإساءة المعاملة والتمييز. وكان دور وإرث الحبيب بورقيبة، الأب المبجل المؤسس لتونس، من أهم المواضيع المثيرة للجدل حتى الآن.

قال عادل المعيزي، رئيس لجنة حفظ الذاكرة الوطنية بهيئة الحقيقة والكرامة، في مقابلة له، “نحن بحاجة لإعادة كتابة، أو بالأحرى كتابة تاريخ الانتهاكات والضحايا والمهمشين للمرة الأولى، وهو تاريخ بقي خفياً. نحن بحاجة لكتابة هذا التاريخ ومن ثم القيام بتدريسه للأجيال القادمة.”

لكن الدعوة التي وجهها المعيزي وسهام بن سدرين، رئيسة الهيئة، إلى المؤرخين التونسيين لإعادة كتابة تاريخ البلاد على أساس البيانات والشهادات التي جمعتها الهيئة، أثارت سخط المؤرخين، الذين شعروا بأن مهنيتهم وصلاحياتهم كخبراء تخضع للمساءلة. حيث قالوا إنهم، وعلى الرغم من الضغط الحكومي، قد بذلوا قصارى جهدهم للحفاظ على رواية صادقة للأحداث الأخيرة في التاريخ التونسي.

قال مصطفى التليلي، رئيس قسم التاريخ في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في تونس، “لقد هاجمت بن سدرين شرف المؤرخين“. وأعد التليلي عريضة وقعها أكثر من مئة من زملائه تصف تصريحات الرئيسة بأنها “محاولة لإهانة المؤرخين التونسيين وإلقاء اللوم عليهم لافتقارهم للكفاءة والحماس أو حتى الإهمال والجبن الفكري.”

حارب عمر الصّيد، 84 عاماً، الشاهد في جلسة آذار/ مارس، من أجل الاستقلال التونسي ضد الفرنسيين، لكنه كان مؤيداً لصالح بن يوسف، رفيق بورقيبة. في عام 1955، اختلف بن صالح وبورقيبة حول رغباتهما حول قبول اتفاق الحكم الذاتي الذي قدمه الفرنسيون (دعا بن يوسف إلى استمرار المقاومة المسلحة إلى أن يتحقق الاستقلال التام).فهزم اتباع بن يوسف وتم اضطهادهم وحكم على بن يوسف بالإعدام وتم اغتياله في ألمانيا عام 1961.

قال الصّيد للجمهور إنه عانى طوال حياته من معاملته على أنه “خائن” عوضاً عن كونه مقاتلاً من أجل الحرية.

حكم بورقيبة تونس في الفترة بين  عام 1957 و1987، عندما أجبره بن علي، رئيس وزرائه آنذاك، على التقاعد واستولى على السلطة. ولكونه مؤيداً قوياً للعلمانية وحقوق المرأة، كان لبورقيبة دوراً كبيراً في تشكيل الدولة التونسية الحديثة والمشهد السياسي. لكنه لم يعتقد أن التونسيين مستعدين للديمقراطية، ففي العام 1975 نصب نفسه رئيساً مدى الحياة، قائلاً إن ذلك “إجلال لرجل اقترن اسمه بتونس، وستترك ولايتي على رأس هذا البلد علامة تمحيها القرون القادمة. شجع بورقيبة الإذعان المطلق لمن في السلطة، واعتبر أي معارضة أو انتقاد لقيادته تهديداً للبلاد.

واستمعت جلسات أخرى للهيئة لشهادات من نقابيين وناشطين من طلاب يساريين وإسلاميين ممّن تعرضوا للتعذيب والسجن خلال السنوات الثلاثين التي قضاها في السلطة.

تعتبر هذه الحقائق عن عهد بورقيبة من الأمور المُسلّم بها، وكذلك صحة الشهادات التي قدمت إلى الهيئة. لكن ما يبدو مثيراً للسخط لمؤرخين مثل التليلي هو الافتراض أنه والآخرين قد تجنبوا الحقيقة.

تقول العريضة التي قدمها التليلي إنه “في السنوات الستين الماضية لم تصدر أية أوامر أو تعليمات لكتابة التاريخ أو تدريسه في الجامعات التونسية بطريقة معينة، أو التركيز على شخصية بعينها أو فترة معينة.”

ففي الجامعات التونسية، بحسب التليلي، “كان هناك ضغط من جانب النظام، كرغبة في السيطرة. لكن، كانت هناك مقاومة أيضاً، وكان هناك استقلال مؤسسي. وكان هناك مؤرخون منخرطين في النضال من أجل الديمقراطية.”

يقول التليلي إن المؤرخين في مؤسسات مثل المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية بجامعة منوبة (والذي أطلق عليه مؤخراً اسم المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر) ومؤسسة التميمي قد بدأوا بالفعل، وقبل سنوات، في جمع شهادات مماثلة.

رغم ذلك، أشار الباحث في العلوم السياسية العربي شويخة عام 2010 في كتاباته إلى مدى صعوبة وجدلية فتح نقاش عام حول الانتهاكات في عصر بورقيبة. لم يمانع بن علي انتقادات سلفه، لكنه استخدم ذات جهاز الشرطة القمعي، وكان غير راغبٍ في السماح بحرية التعبير.

كتب شويخة “تصر السلطة السياسية الاستبدادية على احتكار كل التجارب السياسية السابقة والسيطرة على آثارها، لتفرض رؤيتها للمصالحة مع الماضي.”  ففي تونس في عهد بن علي، “يصبح كل نشاط عام  ‘لعبة للسلطة’، ليشمل ذلك بوضوح النقاش على الذاكرة الوطنية والتجارب السابقة.”

ولا يزال ذلك النقاش مستمراً إلى اليوم. فكثيراً ما تُتهم هيئة الحقيقة والكرامة الهيئة بالانحياز والتسييس و“نبش الجثث” و“تصفية الحسابات“. ويبدو أن هذه الاتهامات تفترض أن الروايات السابقة لتاريخ تونس الحديث كانت قد كتبت خارج سياقات سياسية معينة.

يجري تشكيل النقاش حول مهمة هيئة الحقيقة والكرامة والتاريخ الوطني للبلاد من خلال الصراعات السياسية الحالية: بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين أولئك الذين يعتقدون أن الثورة قد توقفت دون أن تقود إلى تغيير حقيقي، وأولئك الذين يرغبون في طي صفحة الثورة والتركيز على العودة إلى الأمن والوضع الراهن. وقد أنشئت الهيئة أولُ حكومة بعد الثورة، التي ترأسها حزب النهضة الإسلامي. ولا يبدو أنها تحظى بتأييد الرئيس الباجي قائد السبسي، وهو رجل دولة بارز خدم في حكومتي بورقيبة وبن علي، وانتخب عام 2014 في رد فعل عنيف ضد الإسلاميين و“الفوضى” الثورية.

ومن المؤسف انغماس الهيئة في هذا الجدل، لأنها تجربة فريدة من نوعها في العالم العربي، تبدو ضرورية في كثير من البلدان الأخرى حيث لا توجد مساءلة عن الحروب الأهلية والقمع السلطوي.

فالبلد العربي الوحيد الآخر الذي كانت له تجربة مماثلة هو المغرب، الذي شكل هيئة الإنصاف والمصالحة في عامي 2004و2005. وقد جمعت هذه الهيئة شهادات وتعهدت بتعويضات لضحايا “سنوات الرصاص“، وهي فترة القمع القاسي في ظل الملك السابق الحسن الثاني. لكنها لم تتابع خطوات العمل للمرحلة التي وصلت إليها الهيئة التونسية، فقد تجنبت تسمية الجناة أو متابعة أي إجراء قانوني ضدهم.

بُثت جلسات الاستماع العامة للهيئة على التلفزيون الوطني، وبعضها متوفر على موقع يوتيوب، وتحظى بمشاهدة وتعليقات على نطاق واسع. غير أن المنتقدين لها يقولون إن وضع البلد “هش” للغاية، لا يسمح بالانخراط في محاسبة ونقد الماضي، وأنه بحاجة إلى قادة ونماذج قوية مثل بورقيبة، ومن الخطير والمقلق أن إضعاف مكانتهم.

ويرى آخرون أن طي صفحة ما حدث في عهد بورقيبة قد يجعلنا أكثر عرضة لانقسامات حادة مستقبلاً. قال المعيزي إنه أدرك بعد جلسة بورقيبة أن “الجرح لم يلتئم بعد، لأنه لم يُعالج بشكل صحيح. لكن من الضروري ومن أجل تحقيق إصلاح قانوني وسياسي وثقافي جعل هذا التاريخ جزءً من وعينا الجمعي للتأكد من أنه لن يحدث مرة أخرى.”

وتؤكد حياة الورتاني، المفوضة الأخرى، أن هناك فرقاً بين الذاكرة والتاريخ، وأن أدوار عملية العدالة الانتقالية والمؤرخين يمكن أن تكون مكملة لبعضها البعض بدلاً من الخصام.

قالت الورتاني “لا تزعم هيئة الحقيقة والكرامة أنها تعيد كتابة التاريخ، نريد أن نتحدث عن الضحايا لاكتشاف الحقيقة.” لكن لهذه الحقيقة “ألف وجه“. وأضافت أن الأمر يعود للمؤرخين والباحثين للاستفادة من المواد التي جمعتها الهيئة.

يجب أن تكون محفوظات الهيئة – التي تشمل وثائق حكومية، وسجلات العملية الخاصة بالهيئة، وعشرات الآلاف من التسجيلات الصوتية والمرئية لشهادات الضحايا – مصدراً قيماً. وعندما تنهي الهيئة مهتمها في العام المقبل، من المرجح أن تحفظ جميع هذه المواد في الأرشيف الوطني التونسي.

كانت الهيئة تأمل في أن تُمنح مقراً دائما في المدينة – وكان اختيارها الأول سجناً تاريخياً مغلقاً – لتنشئ فيه مكتبة دائمة ومؤسسة مفتوحة للجمهور. لكن الحكومة الحالية لم تدعم الفكرة ولم تخصص أموالاً لمثل هذا المشروع.

بالرغم من ذلك، قال المعيزي إنه لا يزال متفائلاً بشأن الأثر النهائي للهيئة “نحن نعلم أن عملنا تاريخي. وفي المستقبل، قد يستفيد الناس من عمل هيئة الحقيقة والكرامة.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى