مقالات رأي

في معالم اختلاف الأنظمة التعليمية

أتمّ هذه الأيام عامي التّاسع في مؤسسات التعليم العالي. أمضيتها في الحصول على درجة بكالوريوس ودرجتي ماجستير والآن أعمل للحصول على شهادة الدكتوراه. وبحكم تجربتي في الدراسة في جامعات مختلفة في دول متعددة، أعتقد أنني أمتلك صورة واضحة لحد ما عن مجموعة متنوعة من الأنظمة التعليمية وتأثيراتها على المهارات التي يكتسبها الطلاب.

فدراستي بداية في جامعة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، مروراً  بالجامعة الأميركية في القاهرة، ومؤخراً في  جامعة سيدني في أستراليا، سمحت لي باختبار العملية التعليمية والبحثية في سياقات مختلفة أحدها كان عربياً يعتمد بصورة كبيرة على التلقين، وآخر كان يستوحي استراتيجياته وممارساته من النظام الأميركي في التعليم والتوجيه، وآخر بريطاني يركز على سرعة الإنجاز وجاهزية الطالب قبل دخوله الدرجة العلمية.

لعل أكبر الفروق بين الأنظمة الثلاثة هو مدى تدخل كل منها في العملية التعليمية ووتيرة تقدم الطالب. في السياق العربي كان المتوقع من الطالب في غالب الوقت أن يلمّ بالمادة المقررة، أن يشتري الكتب، يحفظ ما ينبغي حفظه ثم يقدمه في نهاية الفصل الدراسي. وعلي أن أعترف بأن كثيراً من الأساتذة كانوا ناقمين على هذه العادة، ولكن لسان حالهم يقول: الطلاب لا يريدون أن يبذلوا الجهد، هذا ما يناسبهم. بالتأكيد كان هناك استثناءات، بعض الأساتذة لا سيما من يدرس مواداً بها قدر من التفكير النقدي أو الإبداعي يتصيدون الطلاب الذين يتوسمون فيهم شيئاً من الهمة ويوكلون إليهم مهام مختلفة عن بقية الزملاء، فقد صادفني عدد من الأساتذة الكبار الذين دفعوني دفعاً إلى طرح الأسئلة والتجول بين الكتب ورفض الإجابات النموذجية. لكن مشكلة هذا النظام أنه مازال يدور في مجال الأستاذ، فغالباً ما يحدد هو للطالب طريقة التفكير والاهتمامات ولا يترك مجالاً لحرية البحث والاكتشاف، نظراً لتسلط أصحاب الدرجة العلمية الأعلى.

لاحقاً، انتقلت إلى الجامعة الأميركية حيث تخصصت في تعليم العربية للناطقين بغيرها وهو تخصص لساني تطبيقي، ليس كسابقه الأدبي والنظري. كان التغيير الجذري في لغة التدريس التي لم أكن قد استخدمتها سابقاً إلا لفترة قصيرة جداً. تحويل لغتك الأكاديمية من لغتك الأم إلى لغة ثانية ربما يكون من أكثر العقبات التي تخيف الطلاب العرب عند التوجه للدراسة في الخارج. في الأسابيع الأولى أصبت ببعض الهلع الذي نتج عن مصارحة النفس بالتحديات الجديدة، عدم القدرة على قراءة المادة المطلوبة بكفاءة وسرعة، والعودة تكراراً إلى المعاجم والقواميس، ثم محاولة اكتساب استراتيجيات الكتابة الأكاديمية باللغة الجديدة، كلها أمور أصابتني بشيء من الإحباط. استغرقت بعض الوقت للتأقلم مع السياق الجديد، لكنني في النهاية تمكنت من حل اللغز وإعادة برمجة دماغي وسلوكي حتى وصلت للنتائج المطلوبة وأنهيت تلك المرحلة. من إيجابيات ذلك أنني تعلمت أساليب الكتابة الأكاديمية المحكمة، التي تركز على الوضوح والمباشرة، ولكنني في نفس الوقت استفدت من خلفيتي الأدبية حتى أضفي على الكتابة الأكاديمية شيئاً من المتعة وسهولة الوصول للقارئ.

اليوم، أعمل على إنهاء عامين من التحضير للحصول على شهادة الدكتوراه تخللهما عمل كمساعدة تدريس وتغيير لموضوع البحث والكثير من الشك والتخبط وإعادة التفكير وبناء الثقة في النفس. كما الحال في كل مرة ننتقل فيها من سياق إلى آخر، نفاجأ، تأخذنا رهبة الرحلة الجديدة، نحس بالضعف، وربما الفشل في البداية، تصيبنا متلازمة المتطفلين أو imposter syndrome ، لسبب أو لآخر لا نجد في أنفسنا ما يؤهلنا لنكون جزءاً من مجتمع أكاديمي يبدو أنه يعرف أكثر مما نعرف، ويقيمنا وفق معايير لا نستوفيها.

لكن الفارق بين من ينجح ومن ينسحب في منتصف الطريق هو في عدم التوقف عن المحاولة. علينا دائماً أن نحاول، لقد وصلنا إلى هنا فلنعطِ الأمر فرصة، على أية حال إن كنا فعلاً غير مؤهلين سيظهر ذلك عاجلاً أو آجلاً.

مع ذلك، تبقى مشكلة هذا النظام التعليمي في تخليه شبه الكامل عن الطالب وتركه للبحث والعمل وحده مع القليل من التوجيه من المشرف، فالطالب عليه أن يتحصل على كل المهارات والخبرات العلمية والتخصصية لوحده، وأن يبحث عن المساقات التي يمكن أن يستفيد منها ويسعى وراء التجارب التي يعتقد أنها ستثري مشروعه. هذه العملية تترك كثيراً من الباحثين متخبطين في تحديد مجال البحث الذي يرغبون فيه حتى أنك تجد طلاب وصلوا للعام الثالث في التحضير للدكتوراه ومازالوا يعملون على خطة البحث المبدئية.

إن كان عليّ أن أفاضل بين هذه التجارب الثلاث، فسأختار تجربتي في الجامعة الأميركية كأفضل تجربة أكاديمية حتى الآن. يرجع ذلك إلى كوننا في تلك المرحلة تلقينا ما يكفي من التوجيه والإرشاد والتقويم والتدريب الذي يؤهل الطالب لأداء واجبه البحثي والدراسي وهو متحصل على أساسيات أداء تلك المهام. على الرغم من أنني درست مساقات مثل: تقنيات البحث، وأصول التوثيق في جامعة الشارقة، إلا أن هذه المساقات كانت نظرية بصورة كبيرة، محدودة الأفق، لا تطبيق فيها ولا مراعاة لاختلاف التخصصات. بينما في الجامعة الأميركية اعتمد التدريب على التطبيق العملي المباشر، وتسنت لنا الفرصة لنحصل على ملاحظات خاصة بصورة فردية تبعاً لنوع البحث وطبيعة المادة العلمية، لا مجرد ملاحظات عامة. في نفس الوقت – على الأقل ما أحسست به- هناك فرصة للإبداع حتى في مجال كاللسانيات التطبيقية، خصوصاً عند اختيار مواضيع الدراسة وطريقة العرض.

أخيراً، أعتقد أنني كنت محظوظة باختبار أنظمة تعليمية مختلفة في مؤسسات وبيئات تعليمية متنوعة، فقد منحتني فرصة لمعرفة طرق بحث ودراسة بتقنيات متعددة، وأيضاً اختيار ما يناسبني ويتوافق مع اهتماماتي وقدراتي. للأسف في عالمنا العربي قلما تتوافر هذه الفرصة إلا في حال وجود فروع لجامعات غربية، أو جامعات محلية تتبع سياسات أكاديمية غربية. والسبب يرجع إلى أن النظام التعليمي في غالبية الدول العربية متوقف عن التحديث منذ زمن، أجيال تورث أجيالاً دون إعادة نظر أو محاولة للتطوير. بالنسبة لي ربما ليس هناك نظام أكاديمي مثالي فلكل منها إيجابياته وسلبياته، ولكن ما هو ضروري لأي مؤسسة تعليمية هو توفير بيئة تحكمها المهارة والأداء وليس رغبات الأساتذة وتفضيلاتهم، بيئة يسمح فيها للطالب بأن يستكشف طرق ومواضيع بحثية مختلفة بحرية بعيداً عن سيطرة الأستاذ ولكن تحت إشرافه.

أحلام مصطفى مُدوَّنة وطالبة فلسطينية تحضّر لدرجة الدكتوراه بجامعة سيدني الأسترالية في مجال اللغة العربية وثقافاتها. يركز عملها البحثي على كتابات الذاكرة والفاجعة في السياق مابعد الاستعماري. مهتمة بأبحاث الهوية الجمعية في إطار نظريات علم النفس الجمعي وعلم الاجتماع والدراسات الثقافية.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى