مقالات رأي

دعوة لزيادة جهود حماية الحرية الأكاديمية في مصر

قبل عام تقريباً عثرت السلطات المصرية على جوليو ريجيني، طالب الدكتواره الإيطالي الذي كان في مصر في مهمة بحثية، مقتولاً بعد اختفاءه في ظروف غير معروفة حتى اليوم. مؤخراً، عرض التلفزيون المصري شريطاً مصوراً يُظهر ريجيني يتحدث مع نقيب الباعة الجائلين الذي قام بتسجيل الحديث دون إعلام ريجيني وبالتعاون مع الشرطة المصرية. وعلى الرغم من أن بث التسجيل بعد عام جاء غالباً بهدف التأكيد على الاتهامات الحكومية لريجيني بالتجسس، إلا أنه أثار مجدداً في داخلي أهمية تقييم جهود حماية الحرية الأكاديمية في مصر.

لازلت أذكر النقاش الذي دار في أذار/مارس العام الماضي خلال احتفالية مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات، مجموعة رائدة في مجال الدفاع عن الحقوق والحريات في المجتمع الأكاديمي، والذي ركز على أهمية العمل الجماعي في قضايا الحرية الأكاديمية خاصة بعد نجاح الضغوط الجماعية في منح خلود صابر، مدرسة مساعدة في كلية الآداب في جامعة القاهرة، موافقة سفر للالتحاق في منحة دراسية في جامعة لوفان الكاثوليكية ببلجيكا رغم اعتراض الجهات الأمنية.

لاحقاً، عقد طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة جلسة حول الحرية الأكاديمية تطرقوا فيها لموضوعات كثيرة ترتبط بالعمل الأكاديمي والبحث وحماية الطلاب أثناء إجراء الأبحاث، وبالطبع كان ما حدث لجوليو ريجيني حاضراً في أذهان جميع الحاضرين. وانتهت الجلسة بتأكيد الطلاب على المضي قدماً في عقد لقاءات مشابهة لضمان استمرار النقاش والعمل المشترك. كما انتهت نقاشات مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات بالاتفاق على إعادة الاجتماع الشهري للمجموعة، وعقد ورش عمل وإصدار تقارير تتعلق بحالة الحرية الأكاديمية في مصر.

مع الأسف، لم تنجح الحماسة في استكمال عقد جلسات مماثلة، خاصة وأن الشهور التالية من العام الماضي حملت سلسلة من الانتهاكات لحرية واستقلالية جامعات حكومية وخاصة وجامعة الأزهر والتي رصدتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير في تقرير مفصل كما واكبت الفنار للإعلام العديد منها في تقارير متعددة. مع ذلك، لم تشهد الجامعات المصرية أي تحركات منظمة ولا أصوات ناقدة لما يحدث من هجمة متسارعة على حرية أعضاء هيئة التدريس والباحثين في التدريس والنشر والبحث والتعلم.

من جهة أخرى، تشهد الجامعات المصرية حالة واضحة من تصاعد الرقابة الذاتية. إذ شاهدت بعيني كيف يخشى أساتذة في العلوم السياسية والاجتماعية من  الرد على أسئلة طلابهم خوفاً من أن يتم تفسير أجوبتهم بأنهم “غير راضين” عن سياسات السلطة الحالية. كما انتقد وزير التعليم العالي امتحان لمادة بكلية الحقوق بجامعة القاهرة تناول مدى قانونية بيان عزل الرئيس السابق مرسي. بينما اتهمت جامعة الأزهر أحد الأساتذة بالإلحاد، في ممارسة تعود للعصور الوسطى.

ورغم تعدد وقائع انتهاك الحرية الأكاديمية خلال الأشهر الماضية، لم نقرأ بياناً لحركة أو مجموعة من الأساتذة يدين ما يحدث، بل أنه من الممكن أن تلتقي بأحدهم دون ترتيب ليخبرك عن مجموعة من الانتهاكات سمع عنها أو تعرض لها، دون قدرة على رصد ذلك وإعلانه للرأي العام ومنظمات المجتمع المدني، وحتى على مستوى أوضاع الباحثين الأجانب قد يظن البعض أن حوادث احتجاز الباحثين كانت آخرها ما تعرض له جوليو ريجيني، وفق الشكوك المثارة حول علاقة أجهزة الأمن بالحادثة، لكن الواقع الذي لا يرغب المجتمع الأكاديمي في الحديث عنه يشير إلى نتيجة أخرى.

لذلك أعتقد أنه من الضروري التفكير في أسباب تشتت جهود الدفاع عن الحرية الأكاديمية في مصر، والتي يمكن تلخيصها كما يلي:

https://www.bue.edu.eg/

أولا: الحرية الأكاديمية وترتيب الأولويات: في الفترة التي سبقت الانتفاضة الشعبية في كانون الثاني/ يناير 2011، عملت الحركات الجامعية على قضايا استقلال الجامعة وتحديداً مواجهة وجود الحرس الجامعي، والقضايا المرتبطة بالحريات السياسية مثل التظاهر والانتخابات الطلابية وغيرها. بحيث تشكل وعي أساتذة الجامعة والطلاب الناشطين في هذا الإطار وامتد ذلك إلى سنوات ما بعد الانتفاضة. لكن الخطاب المدافع عن الحرية الأكاديمية كان ضعيفاً دائماً بسبب تركز اهتمام أساتذة الجامعات على تحسين أوضاعهم المعيشية (زيادة الأجور) وممارسة حقهم الذي اكتسبوه في انتخاب القيادات الجامعية، بينما انشغل الطلاب بشكل كبير بالقضايا السياسية في ظل الاستقطاب بين الطلاب العلمانيين والإسلاميين.

ثانيا: القدرة التنظيمية للحركات الجامعية: لا شك أن الحركات الجامعية على مستوى الأساتذة والطلاب امتلكت قدرات جيدة على التنظيم في الفترة التي تلت الانتفاضة وما قبلها، وكانت هناك مظاهر عديدة للتنسيق، ساعدها بالطبع الحماس الشديد للديمقراطية ودعم حقوق الإنسان داخل المجتمع الأكاديمي. هذه القدرة تأثرت بشدة في السنوات الثلاثة الماضية إلى درجة التلاشي نتيجة إحباط الكثير من الناشطين داخل الجامعات، وانصرف كثير من أعضاء هيئة التدريس إلى الاهتمام بالعمل اليومي، وتقلص القدرة على التحرك للتأثير على إدارات الجامعات.

أزعم أن حالة الصمت الذي نشهده مؤخراً تشجع إدارات الجامعات على المضي قدماً في سياستها الخانقة للحرية الأكاديمية مما يتسبب في تراجع قيمة الأبحاث والعمل الأكاديمي الذي يجرى فى الجامعات المصرية، ويزيد الفجوة بين الجامعات في مصر وخارجها نظراً للتضييق الذي يتعرض له الباحثون الأجانب، خاصة مع تخوف العديد من المؤسسات البحثية من العمل في مصر، واتجاه بعضها لإنهاء العمل في مصر  كما ينعكس استمرار الانتهاكات دون أدنى محاولة لصدها بصورة سلبية على دور الجامعات المصرية كمكان أساسي داعم للبحث والتفكير ويتسبب في خسارة كفاءات بصورة أكبر بكثير مما شهدناه في عهد الرئيس مبارك.

لذلك أدعو مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام إلى الاستمرار في الاهتمام في كشف الانتهاكات التي تحدث في الجامعات. كما يتوجب على الناشطين من أساتذة الجامعات والطلاب الاتفاق على آلية لمتابعة هذه الانتهاكات ومحاولة تفعيل وسائل للتعبير عن موقفهم بصورة واضحة مما يجري مع أهمية التشاور مع مقدمي الدعم القانوني، بالإضافة إلى ضرورة إعادة النقاشات للواجهة مرة أخرى لضمان استمرارية دعم ضحايا انتهاكات الحرية الأكاديمية.

لا تبدو دعوتي بجديدة، لكنني لا أمل من تكرارها إيماناً بحق ريجيني وغيره من الباحثين المصريين والأجانب في البحث والتقصي وحرصاً على مستقبل أفضل للجامعات المصرية.

*محمد عبد السلام، باحث ومدير ملف الحرية الأكاديمية بمؤسسة حرية الفكر والتعبير بالقاهرة.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى