مقالات رأي

“معركة” معمارية سورية لإعادة بناء وطن

“هنالك انسجام لا مفر منه بين الهندسة المعمارية لمكان ما وطبيعة المجتمع القاطن هناك. بإمكان هندستنا المعمارية أن تقصّ علينا حكاية ما نحن عليه.”

هذا ما كتبته مروة الصابوني، المهندسة المعمارية الشابة من حمص، في كتابها الذي نشر مؤخراً بعنوان “المعركة من أجل وطن: مذكرات مهندسة معمارية سورية” والصادر عن دار التايمز وهدسون، 2016).

في كتابها وفي حديث لها لمؤتمر تيد TED الذي يشاهد عبر الإنترنت على نطاق واسع، تقول الصابوني إن العمارة “قد لعبت دوراً حيوياً في خلق وتوجيه وتصعيد الصراعات” في بلادها. وكدليل على ذلك، تقدم الصابوني دراسة تدعو للتأمل عن مسقط رأسها المدمر. يُشار إلى حمص، الواقعة بعيداً على مفترق الطرق في غرب سوريا، على اعتبارها “عاصمة الثورة” أحياناً. وقد حاصرت القوات الحكومية المدينة لمدة عامين، معرضة إياها للقصف اليومي تقريباً، لاستعادة السيطرة عليها مرة أخرى من قوات المعارضة.

طوال سنوات عدة، كانت الصابوني، الأم لطفلين أيضاً، محاصرة في شقة عائلتها بفعل القصف المستمر وأعمال العنف الأخرى في مدينتها. واجهت الصابوني بشجاعة الشوارع التي ينعدم فيها القانون، والقناصة، والحواجز للوصول إلى الجامعة حيث كانت تدرس كطالبة. لقد شاهدت الموت، ورأت الجيران يتم إخراجهم من تحت أنقاض منازلهم.

لكن الصابوني أظهرت تفانياً استثنائياً في متابعة دراستها، وهي تفكر بعمق في كيفية تقديم مساهمة إيجابية لبلدها الجريح. وكان الدافع الذي شجعها على تأليف كتابها مراسلة قامت بها مع الفيلسوف الإنجليزي روجر سكروتون، الذي اتصلت به أثناء قراءتها لكتابه “جماليات العمارة”. فقام بكتابة تقديم لكتابها الجديد.

كان القتال في حمص، ثالث أكبر مدينة في سوريا، شرساً وألحق أضراراً بالمعالم التاريخية ومسح أحياءً بأكملها من على الخريطة. لكن المدن السورية، وقبل الحرب الحالية بوقت طويل، بحسب الصابوني، كانت قد تعرضت للتخريب، على يد القوى الاستعمارية في البداية وعلى يد السلطات المحلية الفاسدة وغير الكفؤة بعد ذلك.

تشعر الصابوني بالحزن لخسارة الهوية والتماسك الاجتماعي والتي تعزوها بشكل جزئي إلى “الانفصال الصارخ بين تراث الماضي الغني والحداثة الفارغة التي يتم استيرادها الآن.”

غلاف كتاب مروة الصابوني “المعركة من أجل وطن: مذكرات مهندسة معمارية سورية” والصادر عن دار التايمز وهدسون، 2016).

تكتب الصابوني بمحبة عن المدينة القديمة في حمص، والتي تقول إنها امتازت “بالاستخدامات المختلطة، والأصول المختلطة، والأديان المختلطة – وأن عادة خلط كل ذلك كان من المفترض الحفاظ عليها ولكنها الآن قد فقدت للأسف.” كما كتبت بأن مدن سوريا التاريخية “كانت مدناً سخية. وأنها كانت تقدم مجاناً نوافير مياه الشرب في الشوارع، ومقاعد للجلوس، وبرودة ظلال الأشجار.. وقد كان هذا السخاء نموذجاً يتبعه السكان، لقد كانت الرحم الذي ولدت منه قيم أخلاقية مشتركة.”

قام الفرنسيون، الذين احتلوا سوريا في الفترة من 1921 وحتى 1946، بتفجير أجزاء من البلدة القديمة لتحل محلها شوارع متعرجة مزودة بشبكات كهربائية حديثة.

أشارت الصابوني إلى أن “المشكلة مع أية عمارة استعمارية لا تكمن في أنها تحمل معها ثقافة أجنبية. ففي النهاية، ما السبب في أن يكون لدى الناس مشكلة مع التطوير والتنمية؟ لكن المشكلة هي أنها دائماً ما تتجاهل بشكل متعمد وجود سكان البلاد. لم يُسمح للمدن القديمة في ظل الاحتلال التكيف من تلقاء أنفسها وبشكل تدريجي لمتطلبات الحياة العصرية.”

كما واصلت الحكومات الوطنية التي أعقبت انسحاب القوى الاستعمارية السير على ذات المسار.

وعن هذا كتبت الصابوني، “لقد تم استبدال القصور والحمامات وغيرها من مبان ذات معان تاريخية وجمالية باستمرار بكتل ميتة من الخرسانة.” لا تضم حمص الحديثة “حدائق عامة فاعلة، ولا مراكز ثقافية مفتوحة للجمهور بطريقة منهجية أو منظمة، ولا حدائق للحيوانات، ولا مدن للملاهي.”

وعند قدوم موجات من القادمين الجدد من المناطق غير الحضرية إلى المدينة – التركمان أو العلويين، الفلاحين أو البدو – فإنهم استوطنوا في أحياء منفصلة وعشوائية في كثير من الأحيان، ولم يندمجوا بشكل صحيح على الإطلاق.

تقول الصابوني إن “العزل الحضري قد تحول إلى صراع طائفي.” وفي دمشق “انتقمت الأحياء الفقيرة المحيطة بالعاصمة من سكان المدينة ‘المدللين’.”

تعتقد المهندسة المعمارية الشابة بأن حججها حول الآثار الضارة لسياسات الهوية والعزل الحضري لا تنطبق على بقية أجزاء المنطقة فحسب بل على العواصم الغربية أيضاً.

إن كتاب “المعركة من أجل وطن” أنشودة شكر مؤثرة لمسقط رأس متصدع تكبد خسائر لا تحصى. كما أنه أيضاً بمثابة نقد حاد للطريقة التي يتم فيها تدريس العمارة وممارستها في المنطقة.

وعلى الرغم من أنها تكتب الآن ببلاغة عن معنى وقيمة المركز التاريخي لمدينتها، فإن الصابوني تعترف بأنها وفي زياراتها الأولى للحي، اعتقدت بأنه “متواضع وغير منظم”. لكنها أضافت “اليوم أنا أعرف بأننا لم نكن نقدر أهميته لأننا لم نفهمه. ولم نكن نفهمه لأنه لم يوجد أحد ما ليعلمنا بطريقة مختلفة.”

في كلية العمارة، تقول الصابوني إن أساتذتها قد قدموا لهم الطرز المعمارية من مختلف العصور ومن شتى أنحاء العالم من دون سياق أو تحليل، من خلال “صور منفصلة تماماً عن واقعنا الخاص”، فامتلك الطلاب “حرية وهمية” للإبداع، لكن على أرض الواقع، كانت تتم مكافأتهم على نسخ نماذج قائمة مع إجراء بعض التعديلات في الصيغ.

سكان حمص يدخلون إلى المدينة بعد وقف إطلاق النار. الصورة: غسان النجار.

وبعد تركها للجامعة فقط، اكتشفت المهندسة المعمارية بأن “كل ما كنت أصممه وأحلم به كان مجرد مضيعة للوقت.” لأن المسؤولين الحكوميين يحكمون السيطرة على جميع القرارات المتعلقة بالتخطيط العمراني والبناء، ويتقاسمون العقود مع رجال الأعمال المتنفذين. وكان أفضل ما يمكن لمهندسة معمارية شابة أن تتوقعه الحصول على وظيفة في القطاع الخاص.

كتبت الصابوني “وكما لو أنه لن يكون لدينا عمل وظيفة نقوم به باستثناء التوقيع على ورقة بين الحين والآخر، وشرب الشاي والقهوة في انتظار مغادرة المدير، لنتسلل خارجاً بعد ذلك.”

تركت الصابوني تلك الوظيفة التي لا تنجز شيئاً بعد أقل من عام، وبدأت عملها الخاص مع زوجها (وقد تدمر مكتبهما بفعل القصف)، بالإضافة إلى سعيها للحصول على شهادة الدكتوراه. ركزت أطروحتها على “البحث عن الهوية” وهو ما تقول إنه قد هيمن على الدراسات المعمارية والنقاشات في المنطقة.

في أحد فصول كتابها، تحاول الصابوني تعريف “العمارة الإسلامية” بوضوح. ففي الكثير من العمارة المعاصرة، تجد الصابوني بأن مجموعة من العناصر غير الأصيلة يتم ربطها بالمباني بشكلٍ عشوائي لمنحها مظهراً “إسلامياً” خادعاً. لكن الشعور بالهوية، كما تقول، لا يمكن العثور عليه في خصائص معمارية بعينها وإنما “كناتج ثانوي لتصميم هادف وجميل يتوافق مع روح المكان.”

ولتحقيق ذلك، تكتب الصابوني بأن هنالك حاجة “لتحويل مدارس العمارة الخاصة بنا إلى اتجاه جديد، لكي نقوم بدراسة الأشياء الصغيرة، الأشياء الحقيقية، الأشياء التي يتصل الناس بها في حياتهم اليومية، مثل المواد المستخدمة في البناء، والتفاعل بين الضوء والظل، والإحساس بالتفاصيل، والسؤال عن “السبب”، والذي يعتبر الأسمنت الحقيقي الذي يربط أجزاء المبنى.”

حاولت الصابوني القيام بذلك. وقد أتمت الآن سنتها الأولى في تدريس العمارة في جامعة خاصة. وفي محادثة أجرتها معها الفنار للإعلام عبر سكايب، قالت إنها تركز على مساعدة الطلاب على البدء بعمليتهم الإبداعية وتطوير أدواتهم النقدية مع “ابقاء أعينهم على الواقع”.

وفي الفصل الدراسي، قالت الصابوني، “نحاول تذكير أنفسنا على الدوام بهذا السؤال: ما هو المهم؟ ما  الذي نبحث عنه في هذا العمل؟ ونكون في حالة حوار مستمر، ومناقشة مستمرة عند العمل على أحد المشاريع. هذه المناقشات هي التجربة التعليمية الحقيقية، بالنسبة لي وبالنسبة لهم.”

كما قالت الصابوني أيضاً إنها تحب أن ترى كتابها محفزاً لمناقشة جماهيرية حول إعادة إعمار سوريا وحمص. حيث قالت، “نحن بحاجة لفتح هذا النقاش، وبحاجة لأن تحدث مثل هذه المناقشة.”

تبدو الصابوني في كتابها أحياناً وكأنها تعقد أملاً صغيراً بأن في إمكانها إحداث فرق ما. حيث كتبت “أنا أسأل نفسي: كيف يمكن للعمارة أن تغلق الجروح؟ لا أعتقد بأن لديها فرصة ما، وهو ما يتركنا نشاهد ببساطة اندمال الجروح من تلقاء نفسها، محولة المدينة إلى كتلة من الندوب.”

وفي مواضع أخرى تبدو أكثر تفاؤلاً، حين تكتب بأن “وضع أجزاء سوريا معاً من جديد هو ما أحاول القيام به في مخيلتي.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى