مقالات رأي

تناقضات التعليم العالي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

تمت ترجمة المقال عن النسخة الإنجليزية لخطاب ألقي في مؤتمر عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعنوان “التحولات في التعليم العالي: نحو تطوير الحوكمة وضمان جودة من أجل المنافسة والتعليم” والذي عُقد في الجزائر في الفترة من 30 أيار/مايو وحتى الثاني من حزيران/ يونيو. نُشر أولاً في مدونة التنمية المستقبلية ويتم نشره هنا بإذن من الكاتب.

تعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) مهد التعليم العالي، حيث تقع الجامعات الثلاثة الأقدم في العالم، والتي لا تزال تعمل، في إيران والمغرب ومصر. حيث تمنح جامعة القرويين في فاس درجات جامعية منذ عام 859 من الميلاد، فيما كانت مكتبة الإسكندرية القديمة، بالإضافة لكونها مستودعاً للكتب والمخطوطات، مركزاً للتعليم في عهد الأسرة البطلمية، حيث كان العلماء يسافرون إلى هناك من جميع أنحاء حوض البحر المتوسط وما وراءه. واكتشف علماء مثل إبن خلدون أساسيات علم الإقتصاد قبل أربعة قرون من آدم سميث وغيره. بإختصار، كل واحد منا، نحن الذين استفدنا من التعليم الجامعي، مدين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

مع ذلك، فإن جودة التعليم العالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بين أدنى المعدلات في العالم. حيث لا تتواجد سوى جامعتين أو ثلاث جامعات عربية في قائمة أفضل 500 جامعة في العالم (ولا توجد أي واحدة منها في قائمة أفضل 200 جامعة). يشكو أرباب العمل في المنطقة من كون خريجي الجامعات يفتقرون للمهارات اللازمة للعمل في السوق العالمية. فالعديد منهم غير مدربين في مجال العلوم والرياضيات والهندسة وغيرها من المواضيع التقنية حيث تتوافر الوظائف. وعلاوة على ذلك، يفتقر هؤلاء الخريجون “للمهارات الشخصية”، بما في ذلك الإبداع والعمل الجماعي، ويرجع السبب في ذلك جزئياً لكون تعليمهم يعتمد على الحفظ والتلقين. ففي مصر، وعلى الرغم من معدل البطالة الذي يتجاوز نسبة ال10 في المئة، فإن هناك ما يقرُب من 600,000 وظيفة شاغرة. وتبلغ نسبة العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حوالي 40 في المئة، وتعتبر مشاركة النساء في القوى العاملة، ومعظمهن أفضل تعليماً من الرجال، الأدنى في العالم. والأسوأ من ذلك كله قيام الجماعات المتطرفة التي تنتهج العنف بإستخدام الجامعات كواحدة من مصادر التجنيد.

كيف حدث هذا؟ كيف يمكن لذات المنطقة التي أوجدت التعليم العالي أن تمتلك نظاماً غير فعال للغاية ولدرجة أنه يساهم في خلق المشاكل التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدلاً من تخفيفها؟ وكيف يمكن تغيير هذا الوضع، لكي تعود الجامعات لتكون من بين الأفضل في العالم مرة أخرى؟

بإمكاننا البدء بالبحث عن الأسباب الكامنة وراء المشاكل الراهنة في المنطقة. ومن المؤكد بأن الأسباب التي أدت لإرتفاع معدل البطالة بين خريجي الجامعات متعددة وغالباً ما ترتبط بمناخ الإستثمار و(غياب) نمو القطاع الخاص. لكن هنالك ميزة ما تشترك بها جميع البلدان في المنطقة وهي أن غالبية خريجي الجامعات يحصلون على وظائف في القطاع العام، حيث كانت الدولة الموظِف الأول والأخير الذي يمكن اللجوء إليه.

ولهذه الخصوصية ” تأثير على جودة التعليم الجامعي:

1-  لم يكن موضوع التخصص مهماً بقدر كاف في القطاع العام، لذلك لم يختر الطلاب دراسة العلوم أو الهندسة، وإختاروا الموضوعات “الأسهل” نوعاً ما مثل الأدب والتاريخ.

2- لم يكن القطاع العام يطالب بالمهارات الشخصية.

3-  طبيعة المناهج الدراسية، التي تركز على الذاكرة وتكرار ما يقوله الأستاذ من دون إستجواب أو مناقشة، ربما كانت مقبولة بالنسبة للقطاع العام – لكنها لم تساعد القطاع الخاص، الذي يبحث عن عقول مبدعة بإمكانها إختراع تطبيق أوبر القادم على سبيل المثال. وقد جعلت هذه المناهج أيضاً من السهل على الجماعات المتطرفة تجنيد الطلاب.

ويتعلق السبب الثاني، الأكثر إثارة للجدل، بتسعيرة التعليم الجامعي. حيث توفر كل الجامعات تقريباً التعليم مجاناً، على أساس فكرة وجوب حصول الفقراء على فرصة التعليم العالي كوسيلة للتخلص من الفقر. لسوء الحظ، فإن النتيجة هي مجيء الغالبية العظمى من الطلاب في الجامعات من الفئات الأكثر غنى من السكان. ولا يقتصر هذا النمط على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فحسب، حيث يتواجد في قارتي آسيا وأفريقيا أيضاً. ولهذا السبب علاقة بالإقتصاد. فعندما تقدم شيئاً مجاناً، يكون هنالك فائض في الطلب. وتحدّ الجامعات من الطلب المتزايد عن طريق إشتراط إجتياز الطلاب لإمتحان القبول. ويتمكن الأغنياء من إرسال أولادهم إلى أفضل المدارس الثانوية لإعدادهم لإجتياز إمتحان القبول. ونتيجة لذلك، تمتلئ الجامعات بالطلاب من أغنى طبقات المجتمع. بعبارة أخرى، يمنح التعليم العالي المجاني أماكن كبيرة  بالنسبة لأولئك الذين يتمكنون من الوصول إليه، وغالباً ما يكون الأغنياء في وضع أفضل من الفقراء للإستيلاء على تلك الأماكن.

في الواقع، المشكلة أسوأ لأن التعليم المجاني يعطي حوافز ضعيفة لتحسين جودة التعليم الجامعي. وتكسب الجامعة القليل فقط لتستثمره في تطوير المناهج الدراسية (لأن عدداً أكبر من الطلاب لا يعني المزيد من العائدات). وفي الوقت نفسه، لا يطالب الطلاب بجودة أفضل بالقدر الذي كانوا سيقومون به في حال لو كانوا يدفعون مقابل التعليم وملزمين بإسترداد إستثماراتهم. وتعد تجربة جامعة تريبهوفان في النيبال مفيدة. فعندما بدأوا بفرض رسوم دراسية في معهد الهندسة التابع لهم، تطورت جودة التعليم بقدر كبير لدرجة أنهم بدأوا بإستقطاب الطلاب من جميع أنحاء جنوب آسيا. وعلاوة على ذلك، فقد إنتشرت الإصلاحات لتطال بقية مرافق قطاع التعليم العالي في البلاد.

من المؤكد بأن مجرد فرض الرسوم الدراسية على التعليم العالي لن يحل مشاكل الجامعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فمن ناحية، يجب أن يبقى الفقراء قادرين على تحمل تكاليف التعليم العالي، لكن ينبغي أن تعالج هذه المشكلة من خلال توفير منح دراسية على أساس إستطلاع الموارد المالية بدلاً من الإعانات المالية العابرة للحدود التي يمكن للأغنياء، كما لاحظنا، الإستفادة منها. ومن ناحية أخرى، من الواجب أن تتم إدارة الإنتقال لأن مثل هذه التحولات من المرجح أن تثير رد فعل سياسي. مع ذلك، يجب أن يكون المبدأ متمثلاً في ضرورة منح الجامعات حوافز للإستثمار في جودة التعليم العالي، ويجب أن يمتلك الطلاب الحافز للمطالبة بتعليم ذو جودة أعلى.

إذا ما تمكنا من تحقيق هذين التغييرين – أي التحول المتمثل بإبتعاد تركيز التعليم العالي عن وظائف القطاع العام ونظام التمويل الذي يؤيد تزامن الحوافز مع جودة التعليم – فسنكون قد قطعنا شوطاً كبيراً في طريق إستعادة عظمة التعليم العالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكما ذكرت في البداية، فإن العالم بأسره مدين لهذه المنطقة بفضل كبير لتأسيسها ورعايتها للتعليم الجامعي قبل ألف عام خلت. وقد حان الوقت لرد الجميل.

* شانتا ديفاراجان: كبير الإقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي. يمكنك متابعته على الحساب التالي Shanta_WB@.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى