نصائح ومصادر

العلوم الإجتماعية في العالم العربي شحيحة رغم الحاجة إليها

تبقى العلوم الإجتماعية مهمشة في العالم العربي، في الوقت الذي لا يمكن أن تكون فيه حاجة البلدان في هذه المنطقة لإلقاء نظرة جادة على أنفسها أكبر مما هي عليه الآن.

يركز تقرير جديد عن العلوم الإجتماعية في العالم العربي الكثير من الإهتمام اللازم على هذا المجال الذي غالباً ما يتم إغفاله، فضلاً عن المساهمة التي يمكن أن يقدمها في مجال السياسة العامة. تكرس الحكومات ووزارات التعليم هنا العديد من الخطب والميزانيات الضخمة بهدف خلق “إقتصاديات المعرفة”، ولكن هذا عادة ما يأخذ شكل دعم العلوم والتكنولوجيا، فيما تحظى العلوم الإجتماعية، والتي غالبا ما تنتج معرفة مفيدة تتعلق بالجوانب المظلمة في المجتمعات، بالقليل من الإهتمام.

العلوم الإجتماعية في العالم العربي: أشكال الحضور، تقرير صدر عن المجلس العربي للعلوم الإجتماعية، وهي منظمة غير ربحية تأسست عام 2008، وتكرس عملها لتعزيز واقع بحوث العلوم الإجتماعية في المنطقة، من خلال تقديم منح بحثية بشكل رئيسي. نشرت الفنار للإعلام تقريراً عن النتائج الأولية للتقرير في عام 2015، والنسخة النهائية متوفرة الآن للطلب عبر شبكة الإنترنت.

يشدد كاتب التقرير، محمد بامية، أستاذ علم الإجتماع في جامعة بيتسبرغ في الولايات المتحدة، على الحاجة الملحة للفهم العلمي للواقع في أوقات التغيير الإجتماعي الجذري. مع ذلك، فقد وجد التقرير بأن ما يزيد عن الـ50 في المئة من الجامعات في المنطقة لا تمتلك برامج دراسية في العلوم الإجتماعية.

وفقاً لبامية، فإن بعض التحديات التي يواجهها علماء الإجتماع تتضمن التفكك المؤسساتي، وعدم تشجيع الأنشطة البحثية، والقيود السياسية المفروضة على ذلك، وضعف المجتمع الفكري الأكاديمي العربي، والجمود البيروقراطي للجامعات العربية.” كما أن طلاب العلوم الإجتماعية اليوم يجهلون إلى حد كبير عمل الرواد في هذا المجال في بلدانهم. في الواقع، وجد التقرير بأن العلوم الإجتماعية مشتتة للغاية بين مختلف الأجيال، واللغات، والبلدان.

 من الممكن عزو جزء من هذا للتوسع الكبير في التعليم العالي في العالم العربي. فكما يشير التقرير، تم إنشاء 97 في المئة من الجامعات العربية بعد العام 1950، ولم تكن 70 في المئة من الجامعات المفتوحة اليوم موجودة قبل عام 1991. تزخر المنطقة اليوم “بجيل جديد من المؤسسات التي لا تزال في مرحلة إكتشاف بعضها البعض.”

دعونا نأمل في أن يقوموا بذلك، لأن إنشاء شبكات مهنية قوية، وتضاعُف التبادل والتعاون، والإنفتاح على المنح الدراسية العالمية هي المفتاح لإجراء بحوث مبتكرة. وفي الوقت ذاته، فإن بعض التطورات الأكثر ديناميكية في هذا المجال قد حصلت خارج الجامعات. هنالك 436 مركزاً بحثيا يعمل في العالم العربي، وهي زيادة بمقدار عشرة أضعاف ما كانت عليه في السنوات الـ35 الماضية، وتنشر المراكز المستقلة (غير الجامعية) أكثر من نصف المجلات العلمية في المنطقة. وتعد منظمات المجتمع المدني، في الوقت نفسه، الجهة التي تكلف الباحثين بإجراء الكثير من البحوث في العلوم الإجتماعية التطبيقية والجهة الرئيسية التي تقوم بتوظيف خريجي العلوم الإجتماعية.

كما شمل التقرير أيضاً مسحاً لـ244 مجلة دورية ترتبط إرتباطاً مباشرا بالعلوم الإجتماعية في عام 2014 (مقابل وجود تسعة دوريات فقط عام 1961). وقد وجد المسح بأن مواضيع البحث الأكثر شيوعاً في السنوات الأخيرة هي: الربيع العربي، والديمقراطية، والمواطنة والمجتمع المدني، وقضايا المرأة، وقضايا الشباب، والتحضر، والتنمية، والإسلام، والتكنولوجيات الحديثة.

وشملت النتائج الأخرى الإحصائية التي تفيد بأن 6 في المئة فقط من المواد عبارة عن بحوث مشتركة (في حين أن المتوسط العالمي لذلك يبلغ حوالي 50 في المئة)، وأن ما لا يزيد عن نصف المقالات قد حددت تقنيات ومنهجيات البحث المتبعة. في الواقع، وجد التقرير أن في بحوث العلوم الإجتماعية المنشورة “ضعفاً نسبياً في المنهجيات المتعلقة بالعمل الميداني، من قبيل الملاحظات والمقابلات، والمقارنات ودراسات الحالة.”

وفي إستطلاع يتعلق بوسائل الإعلام، وجد التقرير بأن ما نسبته 3.3 في المئة فقط من الصحف تحتوي على مواد تتعلق بالعلوم الإجتماعية وأن هناك عرض قليل جداُ، عبر جميع وسائل الإعلام، لمواد العلوم الإجتماعية، فضلاً عن إستخدام المقاربات التحليلية الخاصة بها.

لطالما كان يُنظر للعلوم الإجتماعية على أنها ذات قيمة فقط عندما تساهم في التحديث والتنمية – وبالتالي هيمنت أقسام الإقتصاد – وتعرضت أقسام التاريخ الإجتماعي والأنثروبولوجيا لمزيد من التهميش. وعلاوة على ذلك، فإنه يتم النظر للأنثروبولوجيا بعين الريبة بسبب إرتباطه بالإستعمار. وفي بلدان مثل المملكة العربية السعودية والمغرب، غالباً ما تعتبر السلطات أقسام علم الإجتماع كبؤر محتملة للإشتراكية والماركسية.

وخلص التقرير إلى أن العلوم الإجتماعية “لا تزدهر ببساطة بفضل الثروة الوطنية، بل بفضل الإهتمام العام والحرية النسبية لإجراء البحوث.” وهذا أمر مشجع، لأنه يشير كما لو أن بإمكان إستثمارات صغيرة أن تكون ذات تأثير كبير.

يمكن أن يكون الإستثمار في مجال العلوم الإجتماعية ذو “تكلفة منخفضة جداً”، بحسب سيتيني شامي، المديرة العامة لمجلس البحوث الإجتماعية. لكنها تشدد على أن “العلوم الإجتماعية الجيدة مسألة صعبة بشكل لا يصدق.”

قالت شامي موضحة “يُمكن الكثير من التعليم الجيد في العلوم الإجتماعية الناس من تأطير ما ندرسه وجعله ذو مغزى. لا يمكنك أن تكتفي بأخذ النظرية التي ظهرت في أحد الأماكن وفي أحد الأوقات فحسب، لتقوم بدراسة السياق الخاص بك على ضوء تلك النظرية.” وأضافت بأن “هذا هو السبب الذي يجعل القيام ببحوثٍ في العلوم الإجتماعية أصعب بكثير من البحث العلمي.” لذا يتوجب أن يتم تعليم الطلاب، بحسب شامي “كيفية إستجواب المفاهيم والتفكير فيها كما لو كانت فرضيات عمل، بدلاً عن كونها قواعد ومبادئ علمية. لكن الجامعات في المنطقة تقوم بعمل سيء حقاً فيما يخص تدريس مناهج البحث.”

إن كل المواضيع التي تهم علماء الإجتماع تقريباً مثيرة للجدل. قالت شامي “إن قضايا الإثنيات، والهوية والعرق إشكالية للغاية في كل بلد من بلدان المنطقة – وتعد تقريباً من المحرمات. وأي شيء يتعلق بالمشاركة السياسية والحكم أمر شائك على الدوام، فضلاً عن قضايا السياسة الخارجية، والجنس والدين … تقريباً كل شيء تعمل عليه سيكون إشكالياً.”

لذا فإن من المغري، ومن غير المألوف، أن تكرر ببساطة “السياسات والأيديولوجيات الحاكمة”، كما يشير التقرير، بدلاً عن الإنخراط في نقد الإفتراضات التي تقوم عليها. ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تركز 19 في المئة من الأوراق البحثية البالغ عددها 1037 من عام 1970 وحتى العام 2013 على “الجريمة، والإنحراف، والإنضباط الإجتماعي”، فيما تناول بحثان فقط الصراع الإجتماعي وبحثت ورقة بحثية واحدة في موضوع توظيف الأجانب – وهي إحدى الظواهر الإجتماعية الأكثر أهمية في تاريخ البلاد الحديث. وكما جاء في التقرير “لا يوجد سبب وجيه لهذه المعدلات العالية من الدراسات المتعلقة بعلم الجريمة في مجتمع يتمتع بمعدل جريمة منخفض نسبياً.”

بسبب ردة الفعل التي من الممكن أن يواجهونها، فإن كثيراً من علماء الإجتماع “يلجأون إلى العلموية والتشويش من خلال إستخدام الكثير من المصطلحات والأرقام، بدلاً عن النظر للعلوم الإجتماعية كوسيلة لإقامة حوار مع المجتمع” بحسب شامي. ولهذا السبب، فبالإضافة لإقامة روابط مع صناع السياسات والمجتمع المدني، فمن المهم أيضا خلق “مساحات مهنية ومؤتمرات أكاديمية آمنة، حيث يمكنك التحدث كأكاديمي.”

وفي الوقت الذي تمر فيه المنطقة بتحولات موجعة وعنيفة – حيث تتعرض فيه كل نظمها السياسية، وعقائدها الدينية، وإفتراضاتها الثقافية للإهتزاز – فإن الأمر أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى للإعتراف بمساهمة الرؤى العلمية الأصيلة والموضوعية في التغييرات التي تجري. بإمكان العلوم الإجتماعية أن تعمل كمرآة، ولكن المجتمعات بحاجة لأن ترغب في أن تمعن النظر إليها.

ملاحظة المحرر: عملت الكاتبة كمستشارة للمجلس العربي للعلوم الإجتماعية.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى