مقالات رأي

جوليو ريغيني: ضحية سياسة الإنغلاق في مصر

لا أحد يعرف كيف تم قتل جوليو ريغيني، ولا الجهة التي تقف وراء ذلك. لكن، ومنذ اللحظة التي عُثر فيها على جثة طالب الدراسات العليا البالغ من العمر 28 عاماً مُلقاة على جانب الطريق في إحدى ضواحي القاهرة، والشبهات تحوم حول تورط الأجهزة الأمنية في مصر.

أفادت بعض التقارير بأن ريغيني، المختص في شؤون النقابات العمالية، قد تم إحتجازه في 25 كانون الثاني/ يناير، والمصادف للذكرى السنوية للثورة ضد الرئيس حسني مبارك، حيث أجرت الشرطة العديد من المداهمات، والإستجوابات، والإعتقالات. وإذا ما كان هذا صحيحاً، فمن المرجح أن يكون ريغيني، الذي كان يدرس في جامعة كامبريدج والمرتبط بالجامعة الأميركية في القاهرة، قد تعرض للهجوم بسبب أبحاثه في مجال النقابات العمالية المستقلة (الأمر الذي كان يكتب عنه أيضاً، بإسم مستعار، في الصحافة الإيطالية).

إذا ما كان ريغيني قد تعرض للإستجواب والتعذيب على يد أجهزة الأمن المصرية، فإن وفاته نتيجة لإفلات الشرطة من العقاب ونتيجة للسياسة المرتابة من الأجانب التي يتم التشجيع عليها من قبل السلطات هناك.

أصدرت جمعية دراسات الشرق الأوسط الآن تحذيراً أمنياً بخصوص الدراسة والبحث في مصر. “نحن نعتقد بأن هناك ما يدعو للقلق الجاد بشأن قدرة أي شخص على إجراء البحوث بأمان. وقلقنا يتعلق بشأن الباحثين غير المصريين الذين يذهبون إلى مصر، وزملاءنا المصريين على حد سواء؛ والطلاب المصريين وغير المصريين؛ وبشأن أولئك الذين كنا سنسعى للتعاون معهم أو إشراكهم في بحوثنا.”

وكما كتبت في السابق، فإن العمل في العديد من دول الشرق الأوسط قد أصبح محفوفاً بالمخاطر على نحو متزايد بالنسبة للباحثين الأجانب. حيث يساهم الصراع المفتوح والقمع السياسي الذي لا يمكن التنبؤ به في تحويل البلدان التي قضى العديد من الباحثين في شؤون الشرق الأوسط سنوات تكوينهم فيها إلى مناطق محظورة.

في الكثير من أنحاء العالم العربي، لا تزال المعرفة والبحوث تُعامل على أنها مسألة تتعلق بالأمن القومي، وأن أي طلب للحصول على المعلومات مشكوك فيه أصلا. حيث أن قائمة الموضوعات الحساسة طويلة وإعتباطية، وتشمل الدين، والجنس، والسياسة.

في السنوات الأخيرة، أثار النظام العسكري في مصر مناخاً كارهاً للأجانب بشكل كبير. يقول أنصار النظام إن الثورة ضد حسني مبارك قبل خمس سنوات كانت وإلى حد كبير مؤامرة غربية. حيث جرمت الحكومة منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية التي تتلقى تمويلاً أجنبياً – على الرغم من تلقيها مساعدات خارجية هي نفسها. فجميع الصحفيين والباحثين الأجانب “جواسيس” محتملين. وفي كل مأساة تعصف بالبلاد (من إسقاط الطائرة الروسية من قبل إرهابيين وحتى مقتل ريغيني) يجري ترويج نظريات المؤامرة ليعزون ذلك إلى عناصر أجنبية مجهولة عازمة على تقويض البلاد.

الوضع أكثر سوء بالنسبة للأكاديميين المحليين، الذين يواجهون قيوداً ثقيلة الوطأة على حرية التعبير والتنقل. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر، تم إعتقال إسماعيل الإسكندراني في مطار الغردقة لحظة دخوله إلى مصر. وقد تم تجديد إحتجازه من دون محاكمة منذ ذلك الحين. كان الإسكندراني باحثاً في المركز المصري للحقوق الإقتصادية والإجتماعية (ECESR) ومبادرة الإصلاح العربي (ARI) التي تتخذ من باريس مقراً لها، والمُتخصص في شؤون سيناء. يعتقد الكثيرون بأن سبب إعتقاله هو تصريحاته الناقدة التي أدلى بها في مؤتمر برلين بخصوص حملة مكافحة الإرهاب التي يشنها الجيش المصري في سيناء.

كما تفاجأ العديد من الباحثين المصريين الآخرين بأنهم ممنوعون من مغادرة البلاد. فمؤخرا فقط، تم إبلاغ خلود صابر، المدرسة المساعدة في جامعة القاهرة والتي تعمل أيضاً في مؤسسة حرية الفكر والتعبير، التي تغطي الحريات الأكاديمية، بوجوب تخليها عن إستكمال دراستها لنيل درجة الدكتوراه التي كانت تسعى للحصول عليها من جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا. (تم إلغاء هذا القرار بعد الإحتجاج عليه).

يواجه العلماء في مصر، البلد الذي يمتلك تاريخاً يزيد عن الألف عام كمركز للتعليم، والذي يعد واحداً من أكثر البلدان التي تمت دراستها في المنطقة، عزلة متزايدة.

ففي غضون الأيام القليلة الماضية، سمعت عن مؤتمر أكاديمي من المقرر إنعقاده الشهر المقبل في القاهرة، إلا أن المنظمين له يفكرون الآن في تغيير مكان إنعقاده، فضلاً عن مركز أبحاث قام بتحذير المساهمين فيه من أن العمل في مصر قد يكون خطيراً. هذا بغض النظر عن ذكر العديد من مؤسسات الفكر والرأي الدولية، والجامعات، والمؤسسات الثقافية التي تعرضت إما للمنع من العمل في البلاد أو أنها قررت عدم القيام بذلك بعد الآن.

مع ذلك، لا يبدو بأن السلطات ترى في ذلك تطوراً سلبياً. في الواقع، يبدو بأنهم عازمون على تحديد دخول المراقبين الناقدين من الأجانب من أي نوعٍ كان إلى مصر، وتحديد إتصال المثقفين المصريين بالعالم الخارجي على حد سواء. ولهذا، جاءت السياسة الصادمة بإجبار أساتذة الجامعات على دفع مبالغ مالية لقاء مغادرتهم البلاد، بدلاً من تشجيعهم لحضور المؤتمرات أو إتخاذ مهمات تدريس في الخارج.

لا يمكن الدفاع عن هذه الإنعزالية المنضوية على نتائج عكسية. وقد جذب مقتل ريغيني ذلك النوع من الإهتمام الدولي الذي يرغب المسؤولون في مصر في تفاديه. ففي إيطاليا، أطلق هذا الحادث العنان لنقاش حول العلاقات بين البلدين، وحول الطريقة التي قدم بها المسؤولون الإيطاليون المصالح الإقتصادية والتعاون الأمني على حقوق الإنسان.

في مقال كتبه في مجلة جدلية، الدورية الأكاديمية على الإنترنت، ركز عمر روبرت هاملتون، الناشط والكاتب ومخرج الأفلام، عن الأسئلة غير المريحة التي أثارتها أبحاث ريغيني ومقتله لكل من الحكومتين. من المهم، كما كتب “أن نضع في طليعة مناقشاتنا الكيفية التي تستفيد بها دول قوية إقتصادياً مثل إيطاليا من الحفاظ على الأنظمة الدكتاتورية في الدول التي تتعامل معها بهدف إستغلال أفضل للموارد الطبيعية والقوى العاملة. حيث ستحقق النخب التجارية المحلية والشركات الدولية أرباحاً فلكية بينما تقوم الأجهزة الأمنية بقمع المعارضة الداخلية. ولطالما شمل ذلك القمع تعذيب وقتل النشطاء العماليين. وقد تضمن ذلك اليوم جوليو.”

إن السؤال الأول الذي أثاره مقتل ريغيني يتعلق بواحد من حقوق الإنسان الأساسية. لكن السؤال الثانوي المهم يرتبط بعلاقة مصر بالعالم الخارجي وإنتاج المعرفة.

ليس من المستحيل بالنسبة للأنظمة الإستبدادية المنغلقة تثقيف مواطنيها. لكن بصفة عامة، تزدهر الأبحاث في المجتمعات المنفتحة، حيث يتمكن الأكاديميون من تشكيل شبكات دولية، وتبادل الأفكار، ومواكبة آخر التطورات في مجال عملهم والتعاون العابر للحدود. تعتبر مصر مركزية جداً بالنسبة لمستقبل الشرق الأوسط وبدرجة تفوق قيامها بعزل نفسها عن الإتصال الفكري مع الكثير من دول العالم على أمل الحد من الإنتقادات وإنتشار الأفكار التي يفترضون كونها تخريبية.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى