مقالات رأي

هل يملك العلم الإدراكي الحل لمشكلة تأخر التعليم في العالم العربي؟

من المعروف أن مستوى تعليم الطلاب العرب متراجع عن باقي أنحاء العالم، ولكن هناك منهجاً جديداً قد يساعد في تغيير هذا الاتجاه. يتعلق هذا المنهج بعلم الأعصاب الإدراكي؛ حيث يميل الطلاب العرب إلى قراءة اللغة العربية ببطء شديد حتى يمكن “لذاكرتهم العاملة” أن تحتفظ بالمعلومات لفترة طويلة تكفي للتفكير فيها وقد يعطل ذلك التعليم المبكر. ولكن قد يكمن الحل في وسائل التعليم الجديدة.

في العالم العربي، كان التعليم دوماً صعب المنال. ولقد استثمرت الدول العربية كثيراً في السعي وراء الفرص التعليمية العالمية، إلا أن النتائج محبطة في النهاية. ويزيد الخطر في المجتمعات السكانية الفقيرة والريفية، ولكن ضعف مستوى التعليم يؤثر على كافة الدول. فالقضية أشبه باللغز الذي يحتاج إلى حل.

مقارنة بالطلاب في الكثير من الدول، يبدو أن متوسط مستوى الطلاب العرب يتراجع في مرحلة مبكرة. ولقد أظهرت الاختبارات الشفهية والتي طورتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في الأردن، واليمن، والمغرب، ومصر انتشار ظاهرة عدم القدرة على فهم النصوص المكتوبة، حتى بعد ثلاثة أو أربعة أعوام من الدراسة. وتظهر اختبارات المقارنة الدولية نتائج مقلقة عند مقارنتها مع الطلاب من نفس السن والمرحلة التعليمية على مستوى العالم. فلقد شاركت العديد من الدول في التقييمات التي أجرتها مراكز الدراسة مثل الاتجاهات في الدراسة العالمية للرياضيات والعلوم (TIMSS)، والدراسة الدولية حول التقدم في معرفة القراءة والكتابة PIRLS))، وبرنامج التقييم الدولي للطلاب PISA)). حقق كافة الطلاب من الصف الدراسي الرابع في كافة البلدان العربية المشاركة نتائج ضعيفة في مجالات القراءة، والرياضيات، والعلوم. وصُنف معظم الطلاب العرب في مهارة “القراءة للتعلم” في مستويات متدنية مقارنة بالمعايير الدولية.

تُرجع معظم المقالات والمدونات قضية التأخر في التعليم إلى نقص الحوافز الاقتصادية، والعوامل الاجتماعية، والملل من المدارس التقليدية، والثقافة الشفهية المفترضة للعالم العربي. فعلى الرغم من أهمية هذه القضايا، إلا أنها تعتبر عوامل خارجية. ولكن في الواقع يتراجع تعليم الطلاب بسبب عوامل تتعلق بعلم الأحياء البشري، وبصفة خاصة بسبب ضعف مستوى العمليات الخاصة بالذاكرة والإدراك والتي تمكن البشر من استيعاب المعلومات. وفيما يلي شرح أهمية ذلك بالنسبة للطلاب العرب.

القراءة والتحديات التي تواجه الذاكرة الانسانية

باعتبارنا مثقفين، فإننا لا نبذل أي مجهود ذهني واضح عندما نمسك بجريدة. إننا لا نلاحظ الحروف بالتحديد، ولكننا نقرأ النص ونفهم اللغة مباشرة، ثم نقضي معظم الوقت في التفكير في ما نقرأ. ولكن في الواقع نقضي ثوان معدودة في عالم موازي؛ حيث نستخدم ذاكرتنا الإجرائية، والتي تشمل معرفتنا بشكل الحروف وأصواتها، والمعاني، والتراكيب المناسبة وغير المناسبة. نحن لا نلحظ ذلك؛ حيث تعتبر الذاكرة الإجرائية سريعة وتعمل في إطار اللاوعي، ولا يمكننا رصد آثارها العصبية.

ينبغي أن يكون استرجاع قواعد القراءة واللغة لحظياً. ويجب أن توافق المعلومات “ذاكرتنا العاملة”، وهي الذاكرة التي تحوي أفكارنا الحالية ولكن مساحتها وزمنها محدود للغالية. ووفقاً لبعض التقديرات، يمكنها أن تحفظ حوالي سبعة بنود لمدة 12 دقيقة. ويجب فهم النص بصورة صحيحة خلال هذه الفترة الزمنية وإلا ستمحى الذاكرة العاملة. وسنفقد تسلسل أفكارنا ولن يمكننا الاستمرار في القراءة.

من الأسهل أن نتعلم اللغات التي تعبر عن الأصوات بالحروف. كما إننا نجيد الاحتفاظ بذاكرتنا التي تضم الأشكال البسيطة والمتوفرة في الطبيعة، فالنظام المرئي تم ضبطه للتعرف على هذه الأشكال من خلال تطورها. وعن طريق الممارسة، يربط المخ بين تسلسل العلامات ويحولها إلى أنماط أطول. ففي بداية مرحلة التعليم يقرأ المتعلم حرفاً بحرف، ولكن بعد عدة ساعات من الممارسة، ينشط جزء من المخ ويبدأ في التعرف على الحروف كما لو كانت وجوه. ويحدث ذلك بسرعة 45 إلى 60 كلمة في الدقيقة. وبعد ذلك، يمكننا القراءة بصورة تلقائية وبدون أية مجهود واستيعاب كم أكبر من النصوص.

النقط والدوائر وقواعد النحو تشكل معرفة الطلاب العرب

بينما يحتاج الشخص إلى حوالي ثلاث سنوات لإجادة الكتابة باللغة الإنجليزية، يمثل النص العربي المضبوط معظم الأصوات بشكل واضح، ومن ثم يمكن تعلمه بسهولة خلال 100 يوم من الدراسة. ولكن هناك تعقيدات أخرى في النص العربي تتعلق بتطوره من الأبجدية السامية الأولى. في الوقت الذي كانت الأوراق والأسطح المتاحة للكتابة نادرة، كانت المسافات محدودة والأحرف مكدسة. وتوضح النقوش على الأحجار القديمة أن بعض الحروف كان يصعب تمييزها، وبالتالي مع مرور الزمن أضيفت إليها النقط. وللتفريق بين الكلمات، تم تطوير أشكال مختلفة للحروف عند بداية الكلمة ونهايتها.

لم تظهر هذه مشكلة في أوائل التاريخ، لأن القراء لم يحتاجوا لقراءة أكثر من بضعة أسطر في كل مرة في رسائل أو نصوص دينية. وكان يمكنهم القراءة ببطء وفهم المعاني من خلال القراءة عدة مرات. ولكننا حالياً نحتاج إلى استيعاب عدد كبير من الصفحات كل يوم، ومن ثم ينبغي أن تتدفق المعلومات سريعاً إلى ذاكرتنا العاملة ليتم فهمها. ففي وقتنا هذا يجب على كل شخص أن يتعلم كيفية القراءة، وبالتالي يجب الاهتمام بتحسين النصوص من خلال الأشكال المرئية. وهذا يخلق مشكلات بالنسبة للدول التي تستخدم النصوص ذات التعقيدات المرئية، مثل أبجدية جنوب الهند أو شرق آسيا مثل خمير.

تؤكد الأبحاث أن مجموعة الخصائص المرئية التي تراكمت على مدار الزمان في النصوص العربية ترهق نظام المخ في محاولة لكشف الحروف. تقلل الحروف المتشابهة ذات الخطوط المتقطعة والنقاط من سرعة القراءة. وبينما لا يدرك القراء المهرة فرق السرعة، قد يؤثر ذلك على صغار الطلاب. ويظهر هذا التأثير في النطق عندما يوجد نقاط أعلى الأحرف وأسفلها، مثل “ينبغي”، أو سلسلة متتالية من الحروف المتشابهة، مثل “ينتشر” أو “ينتثر”. وتعتبر حركات الإعراب مفيدة للتعرف على الكلمات، ولكنها تشكل غطاء من الخطوط المتقطعة والتي تعطل من الاستيعاب المرئي. فمن الأسهل استيعاب الحروف دون تشكيل، ولكن على الطلاب أن يتعلموا أولاً توقع شكل الحروف المُشكلة. ويتطلب هذا سرعة واستجابة تلقائية، وتعرف فوري على الكلمات.

تعتبر العناصر المرئية للحروف مجرد بداية المشكلة، والعنصر الآخر هو فهم اللغة. فليس هناك من يتكلم اللغة العربية الفصحى في المنزل، يحتاج الطلاب إلى تعلم قواعد النحو والكلمات وتراكيب الجمل لأداء فروضهم المدرسية. وتشير الأبحاث إلى أن الطلاب يتعاملون مع اللغة العربية كما لو كانت لغة أجنبية، وتكمن صعوبة إتقانها في الاختلاف اللغوي الواضح بينها وبين اللكنة التي يتحدثون بها.

مبدئياً من المفترض أن يتمكن الطلاب في الفصل الدراسي الأول من تصريف الأفعال في المضارع والماضي والمؤنث والمذكر والمثنى والجمع. يجيد الطلاب في هذه المرحلة العمرية التعرف على الأشكال والأنماط، ومن ثم يمكن استخدام التعليم المنظم في هذا المجال. ولكن الحكومات والمتخصصين غير متيقنين من كيفية تدريس مهارات القراءة والكتابة الأساسية.

يدعو المتخصصون في العصر الحديث إلى تعلم اللغات الطبيعية من خلال النصوص الأصلية، من ثم تدرس البلدان العربية القراءة من خلال استخدام الكلمات الكاملة وتعليم اللغات من خلال الأحداث والمواقف الواقعية. وقد ينجح ذلك عند تعليم اللغة الإنجليزية بسبب سهولة وقلة قواعدها النحوية إلى حد ما، بل وقد تجدي هذه الطريقة أيضاً في المدارس العربية للطبقات الوسطى، ولكن تعدد أنماط اللغة العربية يفرض على الطلاب التعرف على قاعدة عريضة من الأحكام والقواعد المتعلقة بهذه الأنماط واختزانها في ذاكرتهم. وقد يتراجع في ذلك الطلاب من الأسر الفقيرة ذات المستويات التعليمية المحدودة. ومن ناحية أخرى، يعد تدريس قواعد النحو بالطرق التقليدية أيضاً غير مجد؛ حيث ينبغي أن يبدأ الطلاب في تعلم كم كبير من المصطلحات النحوية (على سبيل المثال تعريف مصطلح “إضافة”) والتي يكرهها الكثير منهم وقد تصرفهم عن تعلم اللغة.

ومن ثم لا يستمتع الكثير من الطلاب بقراءة اللغة العربية أو استخدامها؛ حيث يخلق الجهد والحمل الإدراكي دائرة مفرغة من الصعوبة وعدم الاستمتاع، ولذلك يرفض الطلاب ممارسة القراءة، وبالتالي تستمر المشكلة. ونتيجة لذلك تتراجع وتيرة عمليات الإدراك المرئي واللغوي الضرورية لاستيعاب كم كبير من النصوص؛ حيث تحتاج المعلومات إلى الوصول أولاً إلى الذاكرة العاملة ليتم دمجها في شبكات الذاكرة طويلة المدى. وبالتالي يبدو أن الطلاب لا يحصلون على الكثير من المعلومات من النصوص المكتوبة.

بصفة عامة، يجب أن يتعلم القراء العرب التعرف بشكل فوري وسليم على الحروف والكلمات وقراءة الجمل الكاملة وفهمها واتخاذ قرارات بناء على ما فهمومه.

من ناحية أخرى، يحتاج الأطفال الرومانيون أو الأرمن إلى تعلم مجموعة واحدة من الحروف لها شكل واحد ويتم ربطها بانتظام لتخرج كلمات. ويواجه الطلاب الذين يستخدمون النصوص العربية في كل من إيران، وباكستان، وأفغانستان نفس التحديات المرئية التي يواجهها الطلاب العرب، ولكنهم يحلون شفرة الكلمات بلغاتهم الخاصة. وربما يعد ذلك من أحد أسباب تفوق إيران على الدول العربية في تقييمات الــــ TIMSS وPIRLS.

حلول ممكنة:

يبذل الكثير من أولياء الأمور في البلدان العربية مجهوداً كبيراً مع أطفالهم لتخطي هذه العقبات. ولكن ماذا يحدث لنسبة الـ 50 في المئة المتأخرة؟ في ريف المغرب، هناك الكثير من الطلاب في الصف الدراسي الخامس يمكنهم بالكاد قراءة جمل مفهومة أو استيعاب ما يقرأوه من نصوص.

سيفتح استخدام العلوم الإدراكية الكثير من الإمكانيات غير المكتشفة. مبدئياً قد يمكن تحسين سرعة الطلاب العرب في القراءة والفهم لتضاهي إمكانيات الطلاب الدارسين للغات الأخرى ممن يواجهون صعوبات لغوية ومرئية أقل حتى يجيدوا القراءة. وقد يساهم تحسين حجم الطباعة أو الاستغناء عن بعض الحركات أو تعلم بعض الخصائص اللغوية التي يمكن التعرف عليها بسهولة في تخفيف الحمل عن الذاكرة العاملة. كما تعد تمارين الوعي المورفولوجي ودقة معاني الكلمات من العوامل المهمة. وهناك حاجة أيضاً لتجربة وسائل تعليم فعالة لقواعد اللغة العربية وفي مرحلة عمرية مبكرة، وذلك لتحسين القدرة على الاستيعاب. كما قد تؤدي الممارسة المنتظمة للعناصر الأقل أهمية التي يتم استيعابها بشكل أبطأ إلى زيادة سرعة القراءة والاستيعاب، مما قد يوفر للطلاب المزيد من الوقت لفهم محتوى النصوص.

ينبغي على المتخصصين في علوم الأعصاب الإدراكية المساهمة في اكتشاف الطريقة المثلى لزيادة سرعة استيعاب اللغة العربية. وتعد الكثير من الدول العربية قادرة ماديًا على إجراء مثل هذه الأبحاث في المدارس والمختبرات وقد تحقق مثل هذه الأبحاث بالفعل فارقاً كبيراً.

فلنتخيل شكل المجتمعات العربية إذا تمكنت الأغلبية العظمى من سكانها القراءة بسهولة ويسر وفهم كم كبير من النصوص بشكل فوري في حياتهم اليومية. إذا تمكن الأشخاص من ذوي الدخل المنخفض قراءة خمس صفحات بدلاً من ثلاث صفحات بشكل سهل ويسير، وأصبح لديهم المزيد من الوقت والمعرفة للتفكير في كافة الاعتبارات المختلفة، فقد يمكنهم حينذاك اتخاذ قرارات مختلفة. وقد يكتسبون مهارات أكثر. كما قد تحصل مختلف الفلسفات الدينية والسياسية على دعم أكبر. وقد يُحدث التأثير الجغرافي السياسي والاجتماعي لاستيعاب المعلومات بشكل أكثر كفاءة تداعيات كبيرة. وعلى أقل تقدير، سيتعرف طلاب المدارس في العالم العربي على إمكاناتهم الحقيقية.

 * يمكن الاطلاع على الاستشهادات المرجعية الخاصة بالأبحاث التي تم إيجازها في هذا المقال هنا.

* هيلين عباءجي: عالمة نفس يونانية تجيد التحدث بالعديد من اللغات. وقد تقاعدت من البنك الدولي بعد 27 عاماً من الخدمة وتعمل حالياً باحثة ضمن أعضاء هيئة تدريس جامعة تكساس في كلية أرلينغتون للتعليم. وتهتم هيلين بالأبحاث الجديدة في مجال العلوم الإدراكية وتسعى لجمع اكتشافات الأبحاث ذات الصلة لشرح الإمكانات المحتملة والنتائج المرتقبة من مختلف الاتجاهات. وقد ساعد عملها في وضع قضية إجادة القراءة في المراحل العمرية المبكرة على قائمة الأولويات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى