مقالات رأي

عندما تنتهي أحلام الطلاب السوريين بسبب ورقة

ماذا يمكن أن تضع في حقيبتك وأنت تستعد لمغادرة بلادك؟ أموال، بعض المجوهرات، ملابس شتوية وأخرى صيفية، صور عائلية وربما لعبة من زمن الطفولة. بالطبع لن تنسى وثائقك الشخصية، ولن تحتاج لمن يذكرك باصطحاب شهاداتك الدراسية الموثقة وربما المترجمة أيضاً مع شهادات الخبرة التي جمعتها خلال مسيرتك المهنية. ربما ستصر على إيجاد متسع في حقيبتك أيضا لبعض من شهاداتك المدرسية التي تثبت تفوقك في الصف الثاني إبتدائي.

لكن ماذا لو لم يكن لديك الوقت أصلا لإعداد حقيبة السفر أو حتى إرتداء ملابسك؟ ماذا لو اضطررت لمغادة منزلك في منتصف الليل تحت قصف عنيف هرباً من موت محتم أو اعتقال وشيك؟ هل ستفكر حينها بالصورة العائلية أم بأمن وسلامة العائلة نفسها؟ أكاد أجزم أنه لن يخطر في بالك حتى اصطحاب أوراقك الثبوتية وربما لن تتمكن حتى من ارتداء حذاء الخروج. فغريزة الحياة لن تسمح لك سوى بالركض بعيداً عن أعز ما تملك فقط حفاظاً على حياتك وحياة من تحب.

هكذا ركض مئات السوريين هرباً من الموت والاعتقال والخطف، ليجدوا أنفسهم في دول الجوار دون وثائق تثبت أسمائهم وأعمارهم ومستواهم التعليمي أيضاً. كان التسجيل في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين فرصة كبيرة للكثيرين، إذ مكنهم من الحصول على وثيقة تثبت هويتهم الشخصية وتعترف بها المؤسسات الرسمية في الدول المستضيفة. لاحقاً، أصدرت بعض الدول المضيفة كتركيا بطاقات التعريف للحماية المؤقتة يتمتع صاحبها بالميزات التي تقدمها الحكومة التركية كحق التعليم والرعاية الصحية ومنح المساعدات. كما تصدر وزارة الداخلية في الأردن بطاقات أمنية بمثابة وثيقة شخصية للسوريين الموجودين في المملكة. مع ذلك، فإن مئات من الطلاب السوريين غير قادرين على الالتحاق بالمدارس والجامعات بسبب عدم امتلاكهم لوثائق شخصية سورية وأيضاً لعدم امتلاكهم أي وثائق تثبت مستواهم الأكاديمي.

الصيف الماضي، وخلال زيارتي لمدرسة على أطراف عمان تعمل بنظام الدوامين لاستيعاب الطلاب السوريين الوافدين، هالني أن أرى صبية بعضهم أطول مني في الصف الثاني إبتدائي. قال لي أحدهم “والله العظيم كنت في الصف الأول إعدادي، وكنت متفوق جداً. لكننا غادرنا بيتنا في نوى بملابس النوم. وبعد انقطاع لعامين عن الدراسة بسبب ظروفنا المعيشية الصعبة، تم قبولي في المدرسة هنا لكن في الصف الأول إبتدائي.”

في زيارة أخرى لمخيم الزعتري قبل شهرين، همست لي صبية عشرينية تجلس أمام شاشة كمبيوتر في كرفان خصصته إحدى المنظمات الدولية للتعليم الإلكتروني، أنها تخضع حالياً لكورس إلكتروني في اللغة الإنكليزية التي طالما حلمت بدراستها في الجامعة. قالت “أنهيت امتحانات الثانوية العامة في حمص، لكنني غادرت مدينتي قبل صدور النتائج. علمت لاحقاً أنني نجحت لكنني لم أتمكن من الحصول على شهادتي الثانوية أبداً.”

في الأردن، كما هو الحال في باقي دول الجوار، يتطلب الالتحاق بالمدارس خارج المخيمات والجامعات بطبيعة الحال تقديم أوراق ثبوتية سورية، إضافة إلى نسخ مصدقة من آخر شهادة أكاديمية حصل عليها الطالب لإثبات مستواه التعليمي فضلاً عن البطاقة الأمنية التي تصدرها وزارة الداخلية. البعض ممن أسعفهم الوقت، قد يمتلكون وثائق شخصية وربما أكاديمية لكنها غير موثقة وبالتالي لا تعد مقبولة. مع ذلك، لا يجرؤ كثيرون على مراجعة السفارة السورية في عمان لتوثيق أوراقهم، تحديداً الذكور لخوفهم من الخدمة الإلزامية في الجيش.

هناك أيضاً عدد لا بأس به من الطلاب الذين كانوا يدرسون في الجامعات السورية، لكنهم لا يملكون ما يثبت ذلك. بعضهم اضطر لإعادة امتحان الثانوية العامة في الأردن للالتحاق مجدداً بالجامعة. قالت تسنيم، شابة عشرينية تقيم حالياً في عمان، “قبل عامين، كنت في السنة الثالثة في كلية الهندسة المدنية في دمشق، أنا اليوم طالبة سنة أولى في كلية التجارة في عمان. لست حزينة، لقد تمكنت من الالتحاق مجدداً بالجامعة وإن كان باختصاص أخر. ابنة عمي كانت على وشك التخرج من كلية العلوم من جامعة البعث في حمص، لكنها اليوم تجلس في المنزل في إسطنبول لأنها لا تمتلك ما يثبت ذلك كما أنها لا تتقن التركية لإعادة امتحان الثانوية.”

من جهة أخرى، يعتبر التحاق الطالب السوري بالجامعات الأردنية أمراً مكلفاً. إذ تتم معاملته كطالب أجنبي ويُطلب منه تسديد الرسوم الجامعية بصورة مضاعفة. تمكن برنامج دولي مؤخراً من تقديم منح لمجموعة من الطلاب السوريين للالتحاق بالجامعات الأردنية. لكن المنح تعثرت بعد إصرار وزارة التعليم الأردنية على تقديم الطلاب لوثائق شخصية سورية حديثة وأخرى أكاديمية لا يمتلكها عدد كبير من الطلاب.

تقول الجهات الرسمية في البلاد المضيفة إنها ترغب بالتأكد من المستوى الأكاديمي للطلاب، وهذا أمر منطقي في الحالة الطبيعية. لكنه يبدو شرطاً تعجيرياً لمئات الطلاب السوريين الذين قد لايمتلكون وثائق سورية تثبت هوياتهم.

في المقابل وبعيداً جداً عن العالم العربي، أطلقت المكسيك برنامجاً لاستقبال طلاب سوريين يقدم لهم تأشيرات دخول ووثائق رسمية مؤقتة مع إخضاعهم لامتحانات لتحديد مستواهم الأكاديمي قبل إلحاقهم بدورات لغة ومن ثم بالجامعات. قال أدريان ميلينديز، أحد المسؤولين عن إطلاق المشروع، “أُعجبت بالقدرات الكامنة التي يمتلكها الشباب الذين التقيت بهم في مخيمات اللاجئين. لقد عثرت على شباب موهوب جداً ومتعلم في تلك المخيمات، لكن لا شيء لديهم سوى الانتظار بينما يفوتهم قطار الحياة في الأثناء.”

يعتقد ميلينديز بأهمية فحص تحديد المستوى الأكاديمي لتخطي عقبة غياب الوثائق الدراسية. إذ يمكن من خلال الامتحان تحديد إمكانات الطالب الدراسية والتأكد من مستواه التعليمي. قال “تتمحور الفكرة حول ضرورة إعطاء الفرصة للشباب لإكمال دراستهم، لابد من وجود بدائل وتوفير تسهيلات خاصة وأن الاستثمار في تعليم الأشخاص الفارين من مناطق النزاع يصبح أحد أهم العناصر في معادلة إعادة بناء المجتمعات المتضررة بالحرب.”

لا يمكن إنكار وجود الكثير من النوايا الطيبة الراغبة بالمساعدة، لكن التعامل مع كارثة إنسانية يتطلب إجراءات إستثنائية بعيدة عن التعقيدات البيروقراطية التي تستغرق في الظروف الطبيعية أشهر طويلة. اليوم، تتوجه مؤسسات دولية كبيرة لتقديم منح دراسية للطلاب السوريين في دول الجوار، لكن يبدو من المستحيل الإستفادة من هذه المنح في ظل عدم توفر الأوراق الثبوتية والأكاديمية المطلوبة من مؤسسات الدول المضيفة. إن التفكير بوسائل بديلة للإجراءات الروتينية لمساعدة الطلاب السوريين على إستكمال تعليمهم أمر ضروري خاصة مع وجود برامج دولية تمويلية مساعدة.

في كل مرة أسمع فيها عن معاناة طالب سوري لاستكمال تعليمه، أعود فيها إلى خزانتي لأتفقد شهاداتي الجامعية. لقد كنت محظوظة بشكل كبير لأنني أنهيت تعليمي قبل إندلاع الحرب ولأنني تمكنت من إعداد حقيبة سفري بهدوء وروية. بينما لم تتمكن سارة، التي تعمل اليوم كبائعة في محل للملابس النسائية في بيروت والحاصلة على شهادة الصيدلة من جامعة دمشق من ذلك. قالت لي في زيارتي الأخيرة للبنان، “لو كنت أعلم أن خروجي من بيتي المحترق من دون شهادتي الجامعية سيوصلني إلى هنا لما كنت خرجت.”

* رشا فائق، مديرة تحرير الفنار للإعلام. يمكن متابعتها على RashaFaek@

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى