أخبار وتقارير

فاطمة المرنيسي: ميراث باحثة ومفكرة نسوية

في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، توفيت عالمة الإجتماع والكاتبة والباحثة النسوية المغربية فاطمة المرنيسي في الرباط عن عمر يناهز 75 عاماً. أنتجت المرنيسي أبحاثاً رائدة كتبتها بصوت ينبض بالحياة. طوال الأيام التي أعقبت وفاتها، كتب العديد من زملائها، وطلابها، وقرائها عن التأثير الهائل الذي أحدثته القراءة الأولى لأعمالها في تطورهم الفكري ورؤيتهم النسوية.

نشأت المرنيسي في عائلة من الطبقة الوسطى في فاس، وكانت جزءاً من الجيل الأول الذي يحضر مدارس الفتيات التي تم تأسيسها حديثاً. حصلت المرنيسي على شهادة البكالوريوس في علم الإجتماع من جامعة محمد الخامس، ودرست في جامعة السوربون، وحصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة برانديز. كتابها الأول  ما وراء الحجاب: الجنس كهندسة إجتماعية (مطبعة جامعة إنديانا، طبعة منقحة 1987)، والمعتمد على إطروحتها، لفت الأنظار للتشابه بين العلاقات الأسرية والعلاقات السياسية، وركز على التوترات والتناقضات في الدولة المغربية بعد الحقبة الإستعمارية والناجمة عن تشجيع الدولة للنساء على تثقيف أنفسهن ودخول سوق العمل مع إستمرار توقعها منهن بأن يعملن على توافق ذلك مع الأدوار التقليدية للجنسين.

كانت المرنيسي ذات شخصية مؤثرة بكل المقاييس، ومعروفة على نطاق واسع بأسلوبها وحسها الفكاهي. تعمل نوار الحسن غولي أستاذة في قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة الأميركية في الشارقة. تتذكر الحسن غولي، عندما كانت طالبة دراسات عليا، لقاءها بالمرنيسي في مؤتمر أكاديمي عقد بلندن في أواخر الثمانينيات، قالت “أعتقد بأنها قد فاقت الجميع، وإستحوذت على كل الإهتمام. لقد كانت ذكية جداً وجميلة جداً. ففكرت في حينها: هل سأصبح مثل هذه المرأة يوماً ما؟”

تعتبر الحسن غولي من بين العديد من الأكاديميين الذي كانوا وراء إنشاء مؤسسة دراسات المرأة والجنس في الإمارات العربية المتحدة عام 2012. ومن الأهداف الرئيسية للمؤسسة تشجيع فتح برامج لدراسات المرأة والنوع في الجامعات المحلية. أنشأت الحسن غولي إختصاصاً ثانوياً في دراسات المرأة في جامعتها، لكنها تقول إن تقدم المجال في أماكن أخرى لا يزال بطيئاً. كما ترغب الحسن غولي أيضاً في تطوير منهج دراسي لفترة ما قبل الجامعة يكون “حساساً لقضية المساواة بين الجنسين ومكانة المرأة” وهو الأمر الذي تقول بأنه ينقصنا حالياً. يركز الأكاديميون في الجامعات في جميع أنحاء المنطقة على مساهمات المرأة وإهتماماتها في فصولهم الدراسية كمبادرات شخصية، لكن المنظور الجنساني نادراً ما يتم تبنيه بشكل مؤسساتي. لا يمتلك سوى عدد قليل من مؤسسات التعليم العالي برامج لدراسات المرأة، مثل معهد الدراسات النسائية في العالم العربي، التابع للجامعة اللبنانية الأميركية، ومعهد دراسات المرأة، في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية، ومعهد سينثيا نيلسون لدراسات شؤون المرأة في الجامعة الأميركية في القاهرة.

كانت أوائل أعمال المرنيسي في علم الإجتماع، مثل كتاب “خوض معارك يومية: مقابلات مع نساء مغربيات” (مطبعة جامعة روتجرز، 1989) أول أعمال تصور مقابلات مع النساء المغربيات الريفيات الفقيرات. قالت المرنيسي إن الدور الإقتصادي للمرأة قد تم التعتيم عليه من قبل كلٍ من التيار الديني المحافظ وتخطيط الدولة الرأسمالي. حيث ينص قانون الأسرة الصادر عام 1957 والقائم على أساس الشريعة الإسلامية بأن “كل إنسان مسؤول عن توفير إحتياجاته بنفسه، بإستثناء الزوجات، اللواتي سيوفر لهن أزواجهم إحتياجاتهم.” وفي الوقت نفسه، اعتبرت الإحصاءات التي تم جمعها من قبل مسؤولين ذكور، ممن يديرون جهود تحديث المغرب، النساء اللاتي يعملن لمدة 14 ساعة يومياً في الريف على أنهن “ربات بيوت” أو “غير عاملات”.

قالت رجاء رهوني، الأستاذة في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، في المغرب، إن تلك المرحلة المبكرة من أبحاث المرنيسي غالباً ما يتم تجاهلها. كتبت رهوني أطروحتها الأولى في المغرب حول أعمال المرنيسي عام 1997، وقامت بنشر كتاب يحلل كتابات الباحثة بعنوان، “نقد النسوية الإسلامية والعلمانية في أعمال فاطمة المرنيسي”.

قالت “نقد المرنيسي المزدوج للتفسير الذكوري للإسلام والتنمية الرأسمالية هو ما ينبغي أن يكون مصدر إلهام الحركة النسوية المغربية اليوم.”

فاطمة المرنيسي تتلقى جائزة من الأمير الأسباني فيليب في 23 أكتوبر، 2003. فازت المرنيسي بالجائزة جنبا إلى جنب مع الكاتب الامريكية سوزان سونتاغ. رويترز / فيليز أوردونيز SP

لطالما تجنبت المرنيسي التصنيفات وكانت متشككة من ناحية الأيديولوجيات. فتعرضت للإنتقاد من قبل الماركسيين لتقويضها للصراع الطبقي من خلال إهتمامها بقضايا المرأة، ومن قبل الإسلاميين لتجرأها على التشكيك في العقيدة الدينية، ومن قبل القوميين لإستيرادها فكرة النسوية من مصادر ثقافية أجنبية. لكنها أخذت على عاتقها تأنيب الإستعمار، والتفوق العرقي الغربي، والمحافظة الدينية، والرأسمالية، والقومية بسبب طرقهم في تهميش المرأة. تنقلت المرنيسي على نطاق واسع بين التخصصات والمناهج النظرية المختلفة على مر السنين.

كتبت رهوني “يبدو أن أقصى درجات إلتزام المرنيسي هو التغيير الإجتماعي في المقام الأول، إنها مثال على ما يسميه أنطونيو غرامشي بالمثقف العضوي، لأنها تتابع تحركات مجتمعها.”

التقت زكية سليم، الأستاذة المشاركة في علم الإجتماع ودراسات المرأة والنوع الإجتماعي بجامعة روتجرز، بالمرنيسي في المغرب في تسعينيات القرن الماضي، من خلال إنخراطهن في نشاط حقوق المرأة. أسست سليم منظمة غير حكومية في مدينة فاس لتساعد النساء على البدء بمشاريع تجارية صغيرة. فحولت المرنيسي منزلها في الرباط إلى مكان للإجتماع. قالت سليم “لقد جمعت طاقات المجتمع المدني في منزلها الخاص لتجعل منه فضاءاً للحوار، والنقاش، والأعمال الفنية، والإبداع.” قادت المرنيسي ورشاً للكتابة عن السجناء السياسيين السابقين، والمجموعات البحثية الإقليمية، وأسست التعاونيات النسوية، ومشاريع النشر، وواحداً من أولى مراكز الدعم لضحايا العنف من النساء.

قالت سليم إن من أهم الأشياء التي علمتها إياها المرنيسي هو “إمتلاك وكالة نسوية ناشئة وسلطة عوضا عن القمع، وأن تسمح للنساء بالحديث عن أنفسهن وأن تتعلم الإنصات لماهية إحتياجاتهن الحقيقية.”

من أهم ما تشتهر به المرنيسي اليوم هو كونها من الشخصيات الرائدة في مجال “النسوية الإسلامية” (المصطلح الذي لم تستخدمه قط). ففي عام 1992، نشرت المرنيسي كتاب “الحجاب والنخبة الذكورية“، الذي قامت فيه بربط السياقات والأحداث التاريخية لنصوص القرآن والأحاديث النبوية، لتجادل بأن الكثير من العدائية المزعومة تجاه المرأة في النصوص الدينية قد تم فرضها في واقع الأمر من قبل الرجال الذين إحتكروا تفسيرها في وقتٍ مبكر. كما ألفت كتابين آخرين يركزان على إظهار التوافق بين الإسلام وحقوق المرأة ومشاركتها السياسية، هما “سلطانات منسيات” و”الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية”. واصل مجال النسوية الإسلامية نموه، وشمل أعمال كتاب كثر من قبيل أمينة ودود، ليلى أحمد، زيبا مير حسيني، نصر حامد أبو زيد، كيشيا علي، سعدية شيخ، وأسماء المرابط.

تقول سليم إن المرنيسي جعلتني “أشعر وكأنني في مكاني الصحيح بالنسبة لنسويتي، وأنوثتي، وهويتي كإمرأة مسلمة.” تمتلك المرنيسي وجهات نظر في قضايا المرأة بفضلها “لن تشعر بالإغتراب، ولن تشعر بالصدمة، ولن تشعر بأنه ينبغي عليك أن تنكر جزءاً من ذاتك.” في عام 2011، نشرت سليم كتاب “بين النسوية والإسلام: حقوق الإنسان والشريعة الإسلامية في المغرب” (مطبعة جامعة مينيسوتا)، وهي دراسة تتناول التفاعل الحديث بين الحركة النسوية في المغرب والنشاط المتزايد للمرأة الإسلامية.

في عام 1994، نشرت المرنيسي كتاب “أحلام الخطيئة: حكايات طفولة الحريم”، وهي رواية شبه خيالية، وشبه سيرة ذاتية عن طفولتها. في هذا الكتاب تصف المرنيسي الحياة في الحريم في فاس في أربعينيات القرن الماضي، من وجهة نظر طفلة صغيرة. حيث تغتاظ والدة الراوية لمجرد السماح لها بمغادرة حيزها الإجتماعي، ومنزلها المغلق – حيث تعيش فروع وأجيال متعددة من الأسرة معاً – في مناسبات نادرة وإستثنائية. وفي الوقت ذاته، تختمر تغييرات كبيرة في الخارج، مع مشارفة الإستعمار في المغرب على نهايته، وإنبثاق أنظمة جديدة في أرجاء المنطقة – حيث تدعم أسرة المرنيسي الحركة الوطنية وتحب النساء الأصغر سنا في المنزل قراءة وإعادة تمثيل مغامرات الناشطات النسويات والنجمات العربيات الشهيرات. يُبسط الكتاب التصوير الإستشراقي للحريم كمكان للخمول والشبق. فعوضاً عن ذلك، تقدم المرنيسي الحريم كشبكة نشطة من العلاقات الأسرية والطقوس اليومية – وكمكان معقد، ومحبط، وساحر في بعض الأحيان. فتكون نظرتها للأمر ناقدة، وحميمة، وشديدة الإنتباه والتعاطف.

كما أنها جعلت من الحريم إستعارة عالمية تعبر عن السجن الفكري والجسدي عندما كتبت، “أن تكون في الحريم عندما لا يحتاج العالم إليك.”

وعندما يتم إنشاء الحواجز، فإنها دائما تقسم العالم إلى أقوياء وضعفاء. كتبت على لسان إحدى القريبات الأكبر سناً في راوية أحلام الخطيئة، “إذا لم يكن بإمكانكِ مغادرة مكان تواجدك، فأنت واحدة من الضعفاء إذن.”

لم تتقبل المرنيسي الضعف والجمود أبداُ، وكانت كتاباتها تعبر دائماً عن ثقتها في إرادة المرأة وقدرتها على التحرر.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى