مقالات رأي

كيف يمكن تقييم الدوريات العلمية العربية؟

حينما استعملت الباحث العلمي من جوجل (Google Scholar) للمرة الأولى، لفت انتباهي عدم وجود فهارس اقتباس لأي من المنشورات باللغة العربية، ففي حين يشير الموقع إلى عدد الاقتباسات للبحوث المكتوبة بالإنجليزية، لا يتيح تلك الإشارة إلى البحوث المكتوبة بالعربية!

لست أدري ما العوائق التقنية أو اللغوية التي منعت شركة ضخمة مثل جوجل أن تتيح هذه الخدمة للبحوث العربية، وربما كانت هيمنة اللغة الإنجليزية على الدوريات عالية التأثير سببًا من الأسباب، لكنه في النهاية خلل يجعل البحوث العربية بالكامل خارج سياق التنمية، فلا هي متاحة للاستغلال العملي في مجال الصناعة كما هو الحال في الدول المتقدمة، ولا هي متاحة لاستكمال البحث وتطويره واستمرار مسيرة البحث العلمي.

بذلك تكتمل منظومة خَلقت بيئة مناسبة تمامًا للسرقات العلمية والانتحال، جنبًا إلى جنب مع النظام المعمول به الآن في كثير من الجامعات بعدم إتاحة الوصول إلى الرسائل العلمية، وتقييد الحصول على جزء منها بنسبة لا تزيد على 10 في المئة من إجمالي عدد صفحاتها! وكأن هذا الانغلاق سيمنع الانتحال، في حين أن العكس هو الصحيح، فربما تُتاح الفرصة لباحث –بطرق ملتوية- أن يطلع على رسالة من جامعة أخرى أو بلد آخر، وينتحل جزءًا منها، ولا تتاح الفرصة نفسها للمشرف أن يكتشف الانتحال؛ لأنه لا يملك وسيلة للوصول إلى تلك الرسالة.

لذلك يجب إتاحة البحوث والرسائل بشكل كامل، مع الحرص على تفعيل برمجيات كشف الانتحال والتزوير العلمي والسرقات العلمية، والتي أصبحت متاحة للغة العربية، وهي في تطور مستمر، فعلى سبيل المثال تتيح قاعدة معرفة البحث ضمن 225.000 سجل، بين بحث علمي ومقال وأطروحة جامعية، ونُشر مؤخرًا بحث يقدم تطبيقًا لكشف الانتحال، باستخدام نظرية “بنية الكلام البلاغية”، ومن المتوقع زيادة تطور مثل هذه البرمجيات مع اعتماد مُعامل تأثير عربي.

إنني أعتقد أن إتاحة البحوث والرسائل على شبكة الإنترنت ستجعل من اليسير رصد الانتحال، بالإضافة إلى وضع الإنتاج العلمي في سياق يمكن عن طريقه رصد مُعامل التأثير.

ومُعامل التأثير يُعرف بأنه: “متوسط عدد المرات التي تم فيها الاستشهاد بورقة البحث عن طريق باحثون آخرون في مراجع أوراقهم البحثية خلال السنتين الماضيتين”، وبأبسط عبارة هو مقياس يوضح أهمية الدوريات العلمية في مجال تخصصها، وفقًا لإشارة الأبحاث الجديدة إلى ما هو منشور سابقًا في تلك الدوريات واستشهادها بها، بما يعني أهميتها وملاقاتها للقبول عند أهل التخصص، وبواسطته يتوفر التقييم الكمي والنوعي اللازم لترتيب المجلات وتصنيفها؛ ليمكن تقييمها أكاديميًّا وتحديد جودتها وتميُّزها الأكاديمي.

ومع الأسف لا يوجد اهتمام عالمي بحساب مُعاملات التأثير للمجلات التي تصدر باللغة العربية، ومن هنا وجب الاهتمام بتوفير “مُعامل التأثير العربي”، الذي يُعنى على وجه الخصوص بالمجلات التي تصدر باللغة العربية؛ فربما يعيد شيئًا من الاعتبار إلى لغتنا الأم، ويضع المتميز من الدوريات والبحوث في دائرة الضوء، ويعيد شيئًا من التوازن إلى الفوضى الكمية والنوعية التي نتجت عن كثرة أوعية النشر بلا ضوابط.

إن اعتماد مُعامل تأثيرعربي للدوريات العلمية سيخرج البحوث المطمورة في المخازن والأدراج، إلى الفضاء السيبيري الرحب؛ لتصبح متاحة للاطلاع والمقارنة ومعرفة السابق واللاحق، والمؤثر والمتأثر، بدلا من حالة الإخفاء والإنكار التي تسببت بالتأكيد في حالات إعادة إنتاج لبحوث قديمة، دون وجود إمكانية لرصد هذه الحالات، أو مع ندرة رصدها، وربما كانت “إعادة الإنتاج” كلمة بريئة مخففة للتعبير عما هو أكبر جرمًا.

كما أن وجود مُعامل تأثير عربي قوي سيشجع العلماء والباحثين على خوض غمار البحوث ذات الصبغة المحلية والإقليمية، والتي ربما لا تروق للدوريات الإنجليزية عالية التأثير، بما أخرج كثيرًا من العلماء عن خدمة القضايا العلمية الوطنية لبلادهم.

ومن الأهمية بمكان أن يستبعد مُعامل التأثير الدوريات التي ليس لها رقم تصنيف دولي للنسخة الورقية وآخر للنسخة الإلكترونية؛ لأن عدم وجوده يعني عدم حفظ حقوق الملكية للباحثين، وربما يحد استبعادها بشكل خاص من ظاهرة التلاعب في تاريخ النشر، الذي تقوم بعض الدوريات بتفصيله على ما يوافق هوى “المموِّل” صاحب البحث، بما يسهم في طمس حالات الاستشهاد، وربما يكون ستارًا لسرقات علمية ودعمًا لدعوى السبق بخلاف الواقع.

كما أن الدوريات المستترة أو التي ليس لها وجود على شبكة الإنترنت لن تكون ذات قيمة كبيرة مع هذا الوضع، فالانفتاح معيار مهم في التصنيف، وعند الإشارة إلى نقطة مضيئة في هذا المجال يجب ذكر جامعة النجاح الوطنية، التي حققت مركزا ضمن أفضل 3 في المئة من الجامعات العربية، وضمن أفضل 10 في المئة من 25 ألف مؤسسة تعليمية عالمية، وفق تصنيف معهد البحوث الإسباني العالمي، كما حصلت على المركز 80 عالميا في مُعامل الانفتاح الذي يُعرف بعدد الملفات العلمية والبحثية التي جرى تحميلها على الباحث العلمي لجوجل، وتسبقها في ذلك المُعامل الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

ومما يجب أن يُراعى عند اعتماد مُعامل تأثير عربي: تحديد الهدف منه، بحيث يكون مقياسًا لتقييم الدوريات العلمية المحكَّمة، لا لتقييم الباحثين، فذلك شأن آخر، ليس الإحصاء والاستشهاد هو الأساس فيه، التفوق الأكاديمي مهم، وكذلك الشهرة الأكاديمية، ولكن تقديم حلول لمشكلات اجتماعية، وتقديم أفكار بناءة للتطوير الصناعي، والإسهام في وضع السياسات الوطنية، كلها ذات أهمية قصوى أيضًا.

كما ينبغي استبعاد ما تنشره بعض الدوريات من أعمال ببليوغرافية مسحية، أو افتتاحيات تتضمن مجرد إشارة إلى بحوث سابقة، فهذه المنشورات ليس لها قيمة علمية تدخل ضمن حساب مُعامل التأثير؛ إذ ليس الغرض مجرد الذكر والإشارة إلى بحث سابق، لكن الغرض استمرار مسيرة الأفكار وانتقالها من باحث إلى آخر، بالمناقشة أو التطوير أو النقد أو الرد.

ومن الظواهر التي يجب مراعاتها أيضًا عند التقييم: ما يحدث أحيانًا من الاستشهاد الذاتي، بمعنى أن يستشهد مؤلف بعمل سابق له، وربما يكون الأخطر من ذلك الاستشهاد غير الموضوعي بأعمال المشرف أو المشرفين على البحث، والذي يدخل في نطاق التدليس.

ولعل من أهم القضايا المرتبطة بتفعيل مُعامل تأثير عربي: ما سينتج عنه من تصنيف للدوريات، ذلك التصنيف الذي سيؤثر على اعتبارها في منح درجات لترقية أعضاء هيئة التدريس في الجامعات العربية، بناء على نشر بحوثهم في الدوريات ذات التصنيفات المختلفة، وهنا يجب الحذر من طغيان التصنيف الكمي المقترن بإغفال عوامل أخرى يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند التقييم.

وأرى ضرورة أن يتجاوز مُعامل التأثير في استراتيجياته مستوى تصنيف المجلات والدوريات، ليصبح فيما بعد همزة وصل بين مراكز البحث العلمي ومراكز صناعة القرار، حتى يكون للتصنيف معنى وغاية تتحقق على أرض الواقع، بالتعاون بين الجامعات وقطاع الصناعة ومراكز الامتياز وتمويل البحوث؛ لتفعيل ثقافة صنع القرار المستند إلى الأدلة.

ولنا أن نتساءل إن كانت مؤسسات البحث العلمي في الدول العربية تهتم حقًّا بما يُنشر من بحوث علمية، وتستهدف وضعها في الاعتبار عند رسم السياسات والتخطيط، وعند اتخاذ القرار، لقد ضم  تقرير اليونسكو عن العلوم لعام 2010 بيانات غير مشجعة عن الدول العربية، موضحاً أن “جميع هذه الدول لديها سياسات قطاعية… وعندما تتوافر الاستراتيجيات الخاصة بالعلوم والتكنولوجيا نلاحظ أنه عادة ما يغيب عنها مفهوم الابتكار، ويرجع ذلك بصورة رئيسية إلى ضعف الروابط بين أنشطة البحث والتطوير في القطاعين العام والخاص”. فهل سنرى في التقرير المقبل تقريرًا مختلفًا؟ أو حتى سنة 2020؟

إنني أرجو أن نجد قريباً مُعاملًا عربيًّا للتأثير، ينافس مُعاملات التأثير العالمية، ويبرز إلينا تقارير استشهاد نزيهة، ربما تضع كل دورية ناجحة في مكانها الذي تستحقه، وتضع العلوم في سياق صناعة القرار، ويكون ذلك أدعى إلى نهضة علمية بحثية عربية، أو خطوة في طريق إصلاح التعليم والبحث العلمي؛ إصلاحًا للمجتمعات العربية في نهاية المطاف.

*صالح الشاعر: حاصل على الدكتوراة من جامعة القاهرة، عمل في التدريس الجامعي، وتحقيق التراث، ونشر عددًا من البحوث المحكَّمة في تخصصه، ترجم له معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى