مقالات رأي

في أعقاب الحروب، ماهو مصير الجامعات؟

يورك، إنجلترا– يمكن لأيام إستثنائية أن تبدأ بطرق بسيطة.

أخبرني أحد منظمين المؤتمر، الذي كنت بصدد حضوره، أنني سأستقل سيارة أجرة من فندق هوليداي إن إلى مقر جامعة يورك برفقة رجل يدعى “ريتشارد”. في صباح اليوم التالي، وبينما كنت أنتظر خارجاً عند مدخل الفندق، شاهدت رجلاً  يبدو على أهبة الإستعداد للإنطلاق.

فسألته إذا ما كان اسمه “ريتشارد”، فرد بالإيجاب.

عرفت أن ريتشارد ك. ميباي، المولود في كينيا، عالم فطريات. درس في سوانانوا في كارولينا الشمالية، وستيلووتر في أوكلاهوما، وبروكسل، وميونخ. اكتشف أكثر من 120 نوعاً من الفطريات، وعمل على مشروع لرسم خرائط تظهر التنوع البيئي تحت الأرض في البلدان الإستوائية، وبحث عن النباتات النادرة والمهددة بالإنقراض في كينيا. كما ساعد في اكتشاف الفطريات الصديقة للبيئة والتي يمكن لها أن تساعد في السيطرة على الأعشاب الضارة في بحيرة فيكتوريا.

ريتشارد ك. ميباي (إيان مارتينديل)

كما يشغل ميباي أيضاً منصب نائب رئيس جامعة موي في كينيا، والمعروفة الآن، ولسوء الحظ، لكونها تضم كلية تعرضت لهجوم في نيسان/أبريل الماضي من قبل مسلحي حركة شباب المجاهدين. حيث لقي 142 طالباً وطالبة، وأربعة من حراس الجامعة، وإثنين من ضباط الشرطة مصرعهم في ذلك الهجوم.

جذب المسلحون العديد من الطلاب إلى خارج المهاجع قبل أن يقوموا بذبحهم، ومن ثم قاموا بمطاردة آخرين إلى الممرات في الأسفل.

كان المؤتمر الذي كنت أنا وريتشارد في طريقنا لحضوره عبارة عن تجمع للأكاديميين المهتمين بقضية وقوع التعليم العالي بشكل متزايد في مرمى نيران الصراعات العنيفة، لتضر بذلك بكل من الجامعات نفسها والمجتمعات المتضررة من الصراع والتي يفترض أن تخدمها. يأمل المؤتمر للإنتهاء من صياغة مسودة “ميثاق يورك” لمنع وإصلاح الأضرار التي لحقت بالجامعات بسبب الحرب، والإرهاب، والصراعات العنيفة الأخرى.

أنا متفائل بطبيعتي الشخصية ولكنني متشكك بحكم عملي. فعمل الصحافي يدفعه لثقب “الخداع الصريح، والإدعاءات المتسمة بالمبالغة، والآمال الساذجة.

لدي شكوكي حيال كون تجمعاً لأشخاص في يورك في إنجلترا من شأنه أن يقدم شيئاً لمساعدة الطلاب والأساتذة في كينيا، أو اليمن، أو سوريا، أو تغيير عقلية مقاتلي حركة شباب المجاهدين، أو طالبان، أو تنظيم الدولة الإسلامية.

في المقعد الخلفي من سيارة الأجرة في يورك، جلت أنا وريتشارد ببصرنا خلال شوارع المدينة التاريخية، والبقايا القديمة للجدران الرومانية، والطرز الأصيلة للمعمار الإنكليزي المتميز في أرجاء المدينة – كالحانات، والكنائس، والقلعة. لم أكن قد أدركت بعد من يكون ريتشارد، وبفضولي المعتاد، سألته عن عمله مع الطلاب، ووظيفته، وحجم جامعته التي تضم 50.000 طالباً وطالبة. لقد توجب عليه أن يغلق حرم جامعته المركزي مؤخراً، كما أخبرني، بسبب بعض الصراعات العرقية بين الطلاب والمرتبطة بالإنتخابات.

سلطان بركات (إيان مارتينديل)

في مركز مؤتمرات الجامعة، إلتقيت بسلطان بركات، أحد الداعين للإجتماع، وهو رجل لطيف يعمل مديراً للأبحاث في مركز بروكنجز الدوحة في قطر، والذي أسس في عام 1993، وحدة الإعمار والتطوير في مرحلة ما بعد الحرب في جامعة يورك. وقد قضى جزءاً كبيراً من حياته المهنية يدرس قضايا مثل التعليم في الظروف الطارئة، و التعافي بعد إنتهاء الصراع.

أثار إختصاصه إهتمامي لأنني كنت أقرأ في الآونة الأخيرة عن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إذ أعلنت الحكومات آنذاك حلول السلام، لكن الصراع إحتدم في أعقاب ذلك بشكل أعمال إنتقامية طالت المتعاونين، الحقيقيين والمتخيلين. ووقع الأشخاص ذوو الأصول الألمانية ممن يقيمون خارج ألمانيا ضحية كراهية لا محدودة ضد النازيين. وقد كانت بعض القطعات العسكرية التي يفترض أن تقوم بحفظ السلام بعمليات نهب وإغتصاب. لكن أيا من الكتب التي قرأتها عن تلك الحقبة حتى الآن لم يذكر شيئاً عن المدارس والجامعات. فقد كان المدنيون الذين نجوا من الحرب يائسين فقط في إمكانية الحصول على شيء ليأكلوه.

جعلني إستذكار ذلك التاريخ أفكر في العراق، واليمن، وليبيا، وسوريا. فحتى لو قام الجنود النظاميين، أو مقاتلو القبائل، أو الجماعات المسلحة شبه المنظمة بإعلان هدنة من نوع ما، في وقتٍ ما، فكيف ستكون المرحلة المقبلة؟ وماذا عن الجامعات في تلك البلاد؟

فكر سلطان بركات، وزميله سانسوم ميلتون، الباحث في جامعة يورك، في هذا الموضوع. فقبيل مؤتمر يورك، كتبا معا ورقة بحثيّة بعنوان “أهمية بيوت الحكمة: مسؤولية حماية التعليم العالي وإعادة بنائه في العالم العربي.” وتضم الورقة حساباً ثابتاً للأضرار التي طالت التعليم العالي في المنطقة العربية مؤخراً. لكن الورقة تحتوي أيضاً على سبعة مباديء لحماية التعليم العالي وإعادة بنائه، بما في ذلك إنشاء شبكات تضامن يمكن أن تحاول حماية الجامعات من الصراعات وخلق إستجابات سريعة لمواجهة الضرر المؤسساتي.

تضمنت الورقة البحثية التي قدمها المؤلفان حججاً عملية حول سبب وجوب تركيز المساعدة في إعادة الإعمار على التعليم العالي. (دعم التعليم، بشكل عام، ينظر إليه وبشكل متزايد على أنّه “الركن الرابع” للمساعدة الإنسانية.) حيث كتب المؤلفان، “مع بدء تدفق  الإستثمارات في مجال إعادة الإعمار، غالباً ما تصبح الوظائف التي تتطلب نوعاً من التعليم ما بعد الثانوي مطلوبة فجأة وبأعداد كبيرة. ومن دون مرشحين مؤهلين لشغل هذه الوظائف، قد لا تتمكن البلدان المتضررة من ملء فرص العمل هذه.”

وأضافا في مكان آخر، “يمكن للإستثمار المبكر في إعادة بناء التعليم العالي أن يخلق بيئات آمنة ومفتوحة بوسعها أن تعمل بمثابة جزر من الإستقرار.”

أعتقد بأن الطلاب في الجامعات التي أعيد بناؤها يمكن لهم أن يتعلموا الإنخراط في الحوار الذي قد يمنع حدوث المزيد من الصراعات. من السذاجة إفتراض أن التعليم يمكنه أن يمنع حدوث الحرب – فالكثير من الرجال والنساء الذين تلقوا تعليماً عالياً يذهبون إلى الحرب في جميع الأوقات. لكن إذا لم يكن التعليم قادراً على منع الحرب، فإن الجهل يعزز حدوثها بالتأكيد.

في مؤتمر يورك، تحدث ريتشارد ميباي حول الكيفية التي قام بها لإغلاق الكلية التي تعرضت للهجوم، وتقدم المشورة لـ506 طالب وطالبة من الناجين، وتقديم المشورة لجميع آباء وأمهات الطلاب. فقد حاول وزملاؤه الإداريين توفير الغذاء، والملابس، والمأوى، ووثائق مواطنة وتعليم جديدة للطلاب الناجين، لأنّه لم يُسمح لهم بالعودة إلى الحرم الجامعي الذي تعرض للهجوم. كما حاول دمج الطلاب الناجين في الحرم الجامعي المركزي. لا يمتلك ميباي الميزانية الكافية لأي من هذه النفقات، وإقترح أن تقوم البلدان بإنشاء صناديق للطوارىء للتعامل مع مثل هذه الحوادث. كما أوصى أيضاً بأن يتمكن أعضاء هيئة التدريس المتضررين من الحصول على فترة تفرغ لمنحهم الوقت الكافي للتعافي نفسياً. وقال بأن الهجوم قد غيره شخصياً. في كل غرفة يتواجد فيها الآن، فإنّه يتحقق من أماكن المخارج على الدوام.

حضر المؤتمر أشخاص من مختلف البلدان، بما في ذلك الهند، وليبيريا، والأردن، وإقليم كردستان العراق. وتحدثوا عن الكيفية التي يمكن للجامعات التي تتمتع بالإستقلالية من خلالها أن تتعافى بسرعةٍ أكبر من الجامعات التي تعتمد على بيروقراطية مركزية. فكلما يتمكن الطلاب من الإنتقال بسهولة من بلد إلى آخر بسبب تشابه المتطلبات التعليمية، بحسب متحدثين، كلما كانت الخيارات التي يمتلكها الطلاب أكثر في حالة حصول إنقطاعات. تمنح الشراكات الدولية القوية الجامعات أصدقاء مؤسساتيين ممن سيحاولون القدوم لنجدتهم في أوقات الشدة.

كارول ماديسون غراهام (إيان مارتينديل)

بعد إنتهاء المؤتمر، تحدثت إلى كارول ماديسون غراهام، أحد الحاضرين في المؤتمر، في محطة قطارات يورك. كانت غراهام الملحق الثقافي في السفارة الأميركية في بيروت في عام 1984، وهو العام الذي قام فيه رجلان مسلحان بإغتيال مالكولم أتش. كير، رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، عندما كان يهم بالخروج من المصعد والتوجه إلى مكتبه. قالت غراهام “لقد كان يوماً مروعاً.”

جاء الإغتيال، في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، وفي أعقاب تفجيرات عام 1983 التي إستهدفت السفارة الأميركية، والثكنات العسكرية للقوات الفرنسية والأميركية. وقد أودى التفجيران معاً بحياة 363 شخصاً.

لقد رأيت النصب التذكاري لمالكولم كير خارج المبنى الإداري في حرم الجامعة الأميركية في بيروت، ووقفت لأتأمل ذلك اليوم الرهيب، ولكنني لم ألتق به أبداً. فقد تم إغتياله قبل عامين من بدئي لحياتي المهنية التي إستغرقت 25 عاماً في صحيفة وقائع التعليم العالي The Chronicle of Higher Education في الولايات المتحدة الأميركية، وقبل وقت طويل من مساعدتي في تأسيس الفنار للإعلام، والتي تطمح لأن تكون صحيفة وقائع التعليم العالي في العالم العربي. ولكن يبدو أن مالكولم كير كان من نوع الرجال الذي كنت أقدره.

يصفه الناس بأنه كان متواضعاً وغير مدع، وكشخصٍ كان في إمكانه أن يمزح باللهجة العربية العامية مع أصحاب المتاجر في بيروت، ويجلس مع الطلاب في الأقسام الداخلية أيضاً. لقد تمّ قتله بسبب المنصب الذي كان يشغله، وليس للشخص الذي كان عليه. أخبر كمال الصليبي، رئيس قسم التاريخ، صحيفة النيويورك تايمز قائلا، “لقد كان مالكولم كير صديقاً للبنان، وصديقاً للعرب، وصديقاً للإسلام. لقد كان من أفضل الأميركان الذين جاءوا إلى منطقة الشرق الأوسط.”

أحسد كارول لأنها حظيت بفرصة التعرف عليه.

في النهاية، ماذا بشأن ميثاق يورك؟ هل هو وثيقة ساذجة عندما نتأمل فظائع مثل إغتيال مالكولم كير منذ أكثر من 30 عاماً أو الهجوم الذي إستهدف الكلية الكينية في نيسان/أبريل؟ من غير المرجح أن يوقف ميثاق يورك تنظيمات الدولة الإسلامية، أو بوكو حرام، أو حركة شباب المجاهدين، أو حتى القوّات الجوية للدول العربية وإسرائيل من تدمير الجامعات.

أقر منظمو الميثاق أنفسهم بحجم الصعوبات التي يواجهونها. قال جورجي سامبايو، الرئيس الأسبق للبرتغال، ورئيس المنتدى العالمي للطلبة السوريين الآن، والذي يساعد على ربط الطلاب السوريين بالمنح الدراسية الدولية، “أمامنا جبل عظيم لوضع هذا على جدول الأعمال.”

لكن ربما يكون في إمكان الميثاق أن يجعل من عادة الجامعات الإستعداد لمواجهة هجمات والتخطيط للتآزر مع بعضهم البعض في أعقاب الدمار.

كما يمكن أن يعزز الميثاق الشبكات الدولية التي يمكن أن تقدم مساعدة أشخاص مثل ريتشارد لآخرين ممن قد يواجهون هجمات مماثلة في المستقبل. حيث يمكن لمثل هذه الشبكات أن تساعد الجامعات، عقب الهجمات، لتعاود القيام بما يتعين عليهم أن يقوموا به.

فهم تصنيف الفطريات، وتعقيدات الأدب العربي.

خلق المعرفة، وإلهام الطلاب، وبناء الأمم.

* ديفيدويلر،رئيستحريرالفنارللإعلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى