مقالات رأي

العودة للوطن بروح جديدة

بدأت مشاعر غريبة تجتاحني أثناء رحلتي من برلين إلى تركيا.

كانت الرحلة تابعة للخطوط الجويّة التركيّة، وكانت الطائرة مليئة بالمسافرين الأتراك. فكّرت في مشاعرهم. لم يكن يتوجّب عليهم التحدّث بلغةٍ أخرى عند مخاطبتهم للمضيّفات. كما لم يتوجّب عليهم إنتظار الترجمة لفهم إرشادات السلامة، أو إعلانات الطيّار. كان لديهم نوع من شعور التملّك على متن الطائرة. قد يكون ذلك شيئاً صغيراً للغاية. لكن إمتلاك خطوط جويّة وطنيّة كانت بمثابة علامة على الإستقلال الذي يتمتّعون به.

بعد ثلاث ساعات من الطيران، وصلتُ إلى تركيا. شعرتُ بسعادةٍ غامرة لكوني هناك مرّة أخرى. فقبل بضعة أشهر، وعندما وصلت إلى إسطنبول في رحلتي من فلسطين إلى برلين للدراسة في الخارج، شعرتُ كما لو أنّ آفاقي تتّسع بحقّ للمرّة الأولى.

لكنّ بعض العاملين في مطار إسطنبول أخبروني بأنّ أنتظر عند البوّابة الخطأ ففاتتني الطائرة. قام شخصان من الأردن ممّن فوّتوا طائرتهم أيضاً بمساعدتي لشراء تذكرة جديدة. لم يكن في حوزتي المال الكافي لشراء تذكرة جديدة. لكنّهم أصرّوا على ألاّ أدفع لهم المال قائلين، “لم نفعل شيئا يذكر. هذا واجبنا.” كما قاما بمساعدتي للإتّصال بأسرتي. كان موقفهم ذلك تعبيراً نموذجيّا عن الثقافة العربيّة. حيث يساعد الرجال النساء بقدر إستطاعتهم.

إفتقدتُّ هذا النمط من المجاملات في برلين. فقد كان من النادر جدّاً أن تصادف غرباء يقدّمون المساعدة هناك. كنت أتكلّم القليل جدّاً من الألمانيّة، ويرفض معظم الألمان التحدّث إليّ بالإنجليزيّة. كنتُ في أحد البنوك ذات مرّة أحاول مناقشة مشكلة تتعلّق بسحب النقود من البنك مع الصراف الآلي. فواصلت التحدّث إليّ بالألمانيّة. أخبرتها بشكلٍ متكرّر بأنّه لا يمكنني أن أفهم. فقالت لي بفظاظة: لا أتحدّث الإنجليزيّة. كان أسلوبها مهيناً جدّاً، ربّما لأنّني مسلمة وأرتدي الحجاب. سألتُ زبائن آخرين ليقوموا بمساعدتي – للتفسير أو التدخّل بطريقةٍ ما. لكنّ أحدا لم يجب. أصبتُ بالصدمة. فتوجّب عليّ المغادرة والعودة في وقتٍ لاحق برفقة صديق يتحدّث الألمانيّة.

في مطار إسطنبول، كنتُ مستاءة جدّاً لعدم التحاقي بالطائرة في موعدها.

بعد ذلك بدأتُ أفكّر في مستقبلي كصحافيّة. سيكون مليئاً بالتحديّات والعقبات. قد يكون تفويت رحلة طائرة عقبة صغيرة تمّ حلّها بسرعة. لذا يتوجّب عليّ أن أكون أقوى وأكثر إستعداداً لمواجهة مثل هذه المشاكل.

بعد وصولي إلى الأردن، واجهتني رحلة طويلة ومضنية إلى فلسطين، إذ توجّب عليّ إجتياز ثلاث معابر حدوديّة: الأردنيّة، والإسرائيليّة، والفلسطينيّة. أعددتٌّ نفسي لأكون في ثقافتي مرّة أخرى. حاولت تبنّي بعض العادات التي راقت لي في برلين مع ذلك. مثال ذلك محاولتي الوقوف في الطابور لإستلام ختم جواز سفري والرموز الممغنطة لأمتعتي – وهو إجراء أمني إسرائيلي يخضع له الفلسطينيّون المتوجّهون إلى الأراضي المحتلّة. إذ يقوم موظّف الحدود بحساب الأمتعة ووضع الرموز على كلّ حقيبة لكي يتمّ تتبّعها.

لكنّني فشلت لأنّ أحداً آخر لم يقف في الطابور. فأضطررت لأن أكون جزءاً من النظام الفوضوي. ليكون تكرار تلك العادات الإيجابيّة التي تعلّمتها في برلين التحدّي الرئيسي لي في وطني، كما أدركت. منحتني تلك الرؤية وعلى نحوٍ غريب شعوراً بالأمل. فقد أصبح لديّ هدف الآن.

ما أن وصلتُ إلى مخيّمي في فلسطين، حتّى كدّت أفقد عقلي تقريباً بسبب تغيّيرين سياسيّين.

الأوّل كان القفص الإسرائيلي الجديد. فقد كانت نقطة التفتيش التي يتوجّب عليّ إجتيازها كلّ يوم في طريقي إلى الجامعة على هيئة بوّابة حديديّة تتحرّك إلى الأعلى والأسفل لتسمح بالمرور من خلالها بينما يقوم الجنود الإسرائيليّون بفحص المركبات والتثبّت من الهويّات. لقد أصبحت قفصاً حقيقيّاً. هنالك سياج معدني وبوّابات معدنيّة تحاصر نقطة التفتيش الآن.

أمّا الثاني، فلاحظته ما أن وصلت إلى المنزل، إذ أحاطت أسيجة معدنيّة جديدة بجزءٍ من مخيّمي، مخيّم العرّوب. سألتُ والدي عنها، فأخبرني بأنّ الإسرائيليّين قد صادروا ما يقرب من 38 فدّاناً من أجل توسيع مستوطنة غوش إتزيون.

لقد كنتُ بعيدة عن وطني لأكثر من أربعة أشهر. لكنّ الكثير قد تغيّر. تمّ سلب المزيد من أراضينا وحريّاتنا.

وبمرور الأيّام، كنت أبحث عن تغيّراتٍ أخرى، بما في ذلك التغيّرات الإجتماعيّة بين الفلسطينيّين.

شعرتُ بالسعادة عندما ذهبتُ برفقة أختي إلى أحد المطاعم في مدينة الخليل ورأيت خمسة فتيات – أربعة نادلات ومحاسبة “أمينة صندوق” – وهنّ يعملن. لقد كانت تلك المرّة الأولى التي أرى فيها شابّات يعملن في مطعم، خصوصاً في مدينة الخليل، المنطقة المحافظة جدّا. كان لذلكٍ دلالة كبيرة جدّا. فقد أسعدني كون بعض الأدوار التقليديّة تتغيّر نحو الأفضل. وأنا آمُل أن تكون تلك إشارات على تغيّر أشياء أخرى مستقبلاً.

إنّ كلّ المشاق والصعوبات التي أواجهها – مثل التضيّيق على الحركة، وإنعدام التسهيلات، والقيود الثقافيّة – وكل تغيّر إيجابي لاحظته يشجّعني على الإنخراط بشكلٍ أكبر في المجتمع الفلسطيني. وكصحافيّة مبتدئة، فإنّني أمتلك الآن الخبرة من عملي في دورة تدريبيّة في برلين ومنظوراً عن شكل الحياة خارج فلسطين من خلال الدراسة في إحدى الجامعات الألمانيّة. أنا آمُل ومن خلال الكتابة عن التغيّرات التي أراها في فلسطين، أن أكون قادرة على تشجيع التغيّرات الإيجابيّة وتثبيط السلبيّة منها.

أقطع عهداً على نفسي بتحدّي الوضع الراهن.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى