مقالات رأي

رحلة طالبة فلسطينية لإكتشاف فضاءات جديدة من الحريّة

أنا طالبة فلسطينيّة، عمري عشرون عاماً، ولدتٌّ في القدس، لكنّني لم أزرها سوى مرّتين. ترعرعتُ في مخيّم العرّوب لللاجئين، شمال الخليل. في الأصل، أنا من غزّة، إلاّ أنّني لم أذهب إلى هناك قطّ.

يُعتبر مخيّم العرّوب من الأماكن شديدة الإكتظاظ مع ما يقارب الـ 10.000 نسمة من قاطنيه. عشتُ هناك مع أفراد أسرتي – ثلاثة أشقّاء وأختين. درستُ حتّى المرحلة التاسعة في مدرسة تابعة لوكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين، حيث كان التدريس جيّداً. بعد ذلك، التحقتُ بمدرسة ثانويّة في المخيّم.

كان الشيء الوحيد الذي يشغل تفكيري أيّام دراستي هو مدى رغبتي في الذهاب للدراسة في الولايات المتّحدة الأميركيّة. لماذا الولايات المتّحدة؟ ربّما لأنّني كنتُ أُكثر من مشاهدة أفلام هوليوود. لقد كنتُ مهووسة بالحياة السهلة التي أشاهدها مصوّرة على شاشة التلفاز، نمط الحياة الحديث والمتطوّر، والتكنولوجيا، وسهولة التنقّل، والحريّة، لاسيّما حريّة التنقّل.

في عام 2012، تخرّجتُ من المدرسة الثانويّة، وحان الوقت لإتّخاذ القرار بخصوص دراستي الجامعيّة. هل يتوجّب عليّ البقاء في فلسطين أو الدراسة في الخارج؟ كنت ممزّقة. ومن ثمّ تلقّيت معلومات عن كليّة أميركيّة في الضفّة الغربيّة، الكليّة الشرفيّة “بارد” في جامعة القدس. قرّرتُ أن ألتحق بها، لأنّنها توفّر برامج دراسيّة أميركيّة قويّة حيثُ أمكنني دراسة الصحافة، حلم حياتي.

وهكذا بدأتُ حياة جديدة، حياة خارج المخيّم. فاسكتشفتُ مدن بلادي الخليل، وبيت لحم، وأبو ديس، ورام الله، وجنين. كما تعرّفت على السمات المميّزة للحياة اليوميّة في فلسطين لأوّل مرّة. لقد رأيتُ الحواجز، والجنود الإسرائيليّين، والمستوطنين، والمستوطنات، و”الجدار العازل” في طريقي إلى الكليّة كلّ يوم.

وعلى الرغم من التحاقي بكليّة ذات تأثير أميركي، فإنّ حلمي بمغادرة فلسطين لم يتغيّر. في الحقيقة، إزدادت رغبتي في الذهاب إلى الخارج بعد أن قابلت طلاّب تبادل من الصين، وفرنسا، وإيطاليا، والولايات المتّحدة الأميركيّة ممّن درسوا في كليّتي. تحدّثنا لوقتٍ مطوّل عن الفروقات في الحياة في فلسطين والبلدان الأخرى، خصوصاً ما يتعلّق بالقيود المفروضة على السفر بحريّة، والتطوّر الإقتصادي في فلسطين – أو إنعدام ذلك.

لم يمكنني أن أتصوّر شكل الحياة خارج فلسطين، حتّى أتتني فرصة لزيارة إسطنبول لمدّة أسبوع لحضور مؤتمر مع كليّة براد. وقد صعقت بذلك.

مخيّم العرّوب

في إسطنبول، ذهلتُ لرؤية المباني – مبانٍ ضخمة بواجهات رائعة ومتنوّعة. في إسطنبول، تمكّنتُ من رؤية البحر كلّ يوم من دون الحصول على تصريح مرور، على العكس من الحال في فلسطين. كانت المرّة الأولى التي رأيتُ فيها البحر قبل ثلاث سنوات عندما حصلتُ على تصريح لدخول إسرائيل. في تركيا، ركبتُ القطار لأوّل مرّة. وأفضل ما لقيته في إسطنبول، هو قدرتي على الخروج بسهولة وحريّة في أيّ وقتٍ أرغبُ فيه بالخروج. لم يكن هنالك حواجز ولا خوف ولا قيود. في فلسطين، لا يعدّ الخروج ليلا بالأمر الآمن، وينتهي يومنا في العادة بحدود الساعة التاسعة مساءً.

عرف والداي بأنّني سأصدم برؤية إسطنبول، ولهذا السبب قرّرا أن يتركاني لأبقى في الأردن لبضعة أيّام قبل عودتي إلى المخيّم. لقد أرادا لي العودة تدريجيّاً إلى الحياة في الوطن، لأتأقلم تدريجيّاً. للأسف، لم ينجح ذلك. لقد قضيتُ شهراً كاملاً وأنا أفكّر في الفجوة الواسعة بين فلسطين وتركيا أو حتّى الأردن، لا سيّما فيما يخصّ حريّة ومرونة التنقّل.

أتوق لتذوّق طعم تلك الحريّة مرّة أخرى. لهذا قرّرت أن أدرس لمدّة فصل دراسي في كلية براد – برلين، إحدى فروع كليّة براد. الآن، أنا في برلين، والحياة سهلة، وبسيطة، ومريحة بشكلٍ فائق. كلّ شيءٍ هنا يختلف تماماً عمّا ألفته في وطني. على سبيل المثال، لا يتوجّب عليّ انتظار سيّارة أجرة طوال ساعة لتقلّني من المخيّم إلى الكليّة، أو التوقّف عند الحواجز لساعة أخرى وأضيّع المحاضرات بذلك. لا يتوجّب عليّ أن أقلق في تأمين سيّارة أجرة خلال النهار من أجل الوصول إلى محاضرة متأخّرة. ولا يتوجّب عليّ أن أقلق في أداء واجباتي بسرعة وفي وقتٍ مبكّر قبيل انقطاع التيّار الكهربائي، كما هو الحال غالباً في فصل الشتاء. كما لا يتوجّب عليّ أن أقلق إذا ما رغبتُ في شراء شيءٍ ما ليلاً – كما لن يتوجّب عليّ تأجيل شراءه حتّى اليوم التالي. كما لن أشعر بالملل في عطل نهايات الأسبوع لأنّه لن يمكنني فعل شيء أو الذهاب لأيّ مكان، كالذهاب إلى السينما، أو حديقة الحيوانات، أو منتزه، أو مقهى بسبب كونه بعيد جدّاً – كما إنّ المقاهي في المخيّم للرجال فقط. كما أنّه لن يتوجّب عليّ أن أقلق أو أشعر بالخوف حيال طرق الجنود الإسرائيليّين لبابنا في منتصف الليل بهدف تفتيش المنزل. ولن أقلق إذا ما فتحت النافذة التي لن أستنشق من خلالها هواءاً منعشاً بل غازاً مسيّلاً للدموع.

الحريّة هي العنصر الأساسي الذي يجعل من فلسطين تختلف عن إسطنبول، والأردن، وألمانيا. هناك حريّات كبيرة، كأن لا تتمّ إحاطتك بسور. كما يمكن أن تجد الحريّات اليوميّة الأصغر أيضاً – أن تتجوّل في الشوارع بسرعة ويُسُر، أن تتسوّق وتذهب إلى المنتزه، أو الدراسة ليلاً.

إنّ حرماننا من كلا النوعين من الحريّات يمنعنا في فلسطين من إدراك إمكاناتنا والإنخراط في العالم الحديث والمتقدّم. لدينا الموهبة، لكنّنا نفتقد تلك الحريّات فقط. لذا لا يتوجّب علينا أن نسمح لذلك بإيقافنا. يمكننا خلق الفرص لتثقيف أنفسنا، وتطوير مهاراتنا ومواهبنا حتّى في المخيّم. نحن فقط بحاجة لأن ندرك في قرارة أنفسنا بأنّ غياب الحريّة لا يجب أن يقتل أحلامنا، وطموحاتنا، ومواهبنا، وقدراتنا – على العكس من ذلك، فإنّ تطويرها سيجعلنا أقرب لتحقيق ذلك.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى