مقالات رأي

صفحاتي على الفيسبوك تقع ضحيّة حربٍ ثقافيّة

عندما قرّرت إنشاء صفحاتي عن ما بين النهرين “ميسوبوتاميا” و”الفن العالمي” على موقع التواصل الإجتماعي الفيسبوك عام 2009، توقّعت بأنّها ستبقى هناك لوقتٍ طويل، لكنّني كنت على خطأ.

أسست تلك الصفحات لأشارك شغفي بالفن، وعلم الآثار، والأدب، والفلسفة. ازداد عدد متابعي الصفحات ببطء، لكنّ لم تكن الكميّة هي المهمّة بالنسبة إلي، بل النوعيّة طالما كنت أشارك الصور والاقتباسات والملاحظات مع أصدقاء جدد. لقد ساعدتني صفحاتي تلك على التواصل مع أشخاص من حول العالم: طبيب من الولايات المتّحدة الأميركيّة، صيدلانيّة من النرويج، باحثة آثاريّة من جنوب أفريقيا، ومهندس من البصرة – العراق.

على صفحتي “ميسوبوتاميا”، أنشأت مكتبة مكرّسة لإقتفاء أثر تاريخ العراق. بدءاً بأولى مستوطنات ما قبل التاريخ – الفخار وكهوف إنسان نياندرتال في شمال العراق حيث بدأ البشر بوضع الأزهار على قبور أحبّاءهم – مروراً بإكتشاف أوّل نظام كتابة معروف حتّى الآن من قبل السومريّين وصعود الإمبراطوريّات الأكديّة والبابليّة والآشوريّة. كما حاولت تسليط الضوء على الحقب الأقل شهرة من التاريخ العراقي أيضاً، كأحوال العراق تحت حكم الإمبراطوريّتين السلوقيّة والساسانيّة والتي تعايش في ظلّها المسيحيّون والصابئة المندائيّون واليهود في عصور ما قبل الإسلام. لقد حاولت الصفحة تمثيل كامل للثقافة العراقيّة، ولهذا بذلت ما بوسعي للعثور على المخطوطات العربيّة والسريانيّة وترجمتها.

لقد كتب لي الحسين زيدون، مهندس نفط شاب من أربيل، قائلا، “قد يعتقد الناس بأنّه من المستحيل أن تروي قصّة التاريخ على صفحة فيسبوك، لكنّ جلجامش – ومن خلال صفحة ميسوبوتاميا – استطاع أن يستعرض لنا طريقة تفكير المزارعين الأوائل، ونشوء أقدم المدن في التاريخ، أقدم الآلهة، وأكثر الأساطير إبداعاً، ونشوء الحضارة.”

كان للعراق المعاصر مكاناً بارزاً على صفحة ميسوبوتاميا أيضاً. فقد كانت هنالك ألبومات مخصّصة لكل مدينة عراقيّة ومختلف المجموعات الإثنيّة والدينيّة في العراق. كان الهدف من ذلك جمع الناس معا ليكتشفوا ثقافات بعضهم البعض، بطريقة تؤكّد على التشابهات عوضاً عن الإختلافات. لقد كانت رسالة الصفحة، بالإضافة إلى نشر المعرفة، أن تنشر الإنسانيّة والوحدة الوطنيّة. لقد أردت إظهار وطني بطريقة تختلف عن تلك التي يراها الناس في نشرات الأخبار.

أمّا صفحة “الفن العالمي” التي أردت من خلالها تقديم الفن – خاصّة الفن الغربي – للجمهور العربي، فقد شاركت من خلالها لوحات مارك شاغال، وإيفان إيفازوفسكي، وسلفادور دالي، ودافينشي، وبارتولومي إستبان موريللو، ومونيه، وفريدا كاهلو، ومنحوتات مايكل أنجلو، وفرانسوا جيراردون، ومارك أنتوكولسكي. كما أنشأت ألبومات لفنّانين عراقيّين معاصرين لتقديم أعمالهم للجمهور العالمي.

قال الفيلسوف فريدريش نيتشه ذات مرّة بإنّه وبدون الموسيقى “ستكون الحياة مجرّد غلطة” لذلك قمت بتقديم الموسيقى الكلاسيكيّة والباليهات لأكثر من 33.000 صديق من أنحاء العالم، بالإضافة إلى مقطوعات موسيقيّة من العراق، وأجزاء أخرى من الشرق الأوسط، وفرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، والعالم الأنجلوسكسوني. لقد أردت جمع الناس معاً من خلال تلك اللغة العالميّة السامية. فأنا أؤيّد وجهة نظر فيكتور هوغو عندما قال “الموسيقى تعبّر عن ذلك الذي لا يمكن قوله في كلمات، ولا يمكن أن يسكت عنه.”

ولنشر الفكر الحر، بدأت مشاركة إقتباسات مختارة لكتّاب بارزين، وفلاسفة، وروائيّين، وفنّانين، وسياسيّين من حقب زمنيّة وثقافات مختلفة. لقد أردت لأصدقائي أن يستفيدوا من التجارب الفكريّة الإنسانيّة عبر التاريخ.

كنت أقضي ساعات طوال في اليوم وأنا أعمل على صفحاتي، حتّى في أيّام دراستي للطب والتي تطلّبت الكثير من الجهد الأكاديمي. أخبرني بعض الأصدقاء بأنّني أضيّع وقتي. لكنّ ردود الفعل التي تلقيّتها من الآخرين شجّعتني على مواصلة النشر.

من خلال الصفحات، إلتقيت بعلماء آثار ممّن عملوا في العراق – أشخاص غير عراقيّين استمتعوا بمشاركة قصصهم عن الوقت الذي قضوه في العراق قبل تسعينيّات القرن الماضي. كما قابلت عراقيّين من كبار السن ممّن يقيمون في المهجر والذين اجتاحهتم مشاعر الحنين إلى الوطن عند رؤيتهم للصور والقصص التي كنت أشاركها. ومن خلال الإنترنت، إلتقيت بالدكتور الراحل بهنام أبو الصوف، وهو عالم آثار عراقي مشهور، والذي طلب منّي إنشاء أرشيف للآثار على موقعه الإلكتروني.

على الرغم من الطابع العلماني للصفحات، فقد كنت حريصاً على إحترام كلّ الثقافات، وكنت أشير للأيّام الخاصّة لكلّ الأديان. إلاّ أنّ هذا النهج لم يجدِ نفعاً في منع بعض الأشخاص من لوم الصفحات على نشر العلمانيّة والقيم الثقافيّة الغربيّة. نفس الإعتراض الذي قاد المتطرّفين لغلق صفحة عربيّة أخرى تدعى “أنا أؤمن بالعلم” I Believe in Science، بعد أن قام عدد كبير من الناس بالتبليغ عليها على أنّها غير ملائمة. لكنّ صفحة “أنا أؤمن بالعلم” أعيد فتحها بعد القيام بحملة لتوقيع عريضة قام بها المساندون للصفحة.

في السابع من كانون الثاني– يناير، وبعد فترة وجيزة من ذكري ليوم الجيش العراقي وإرسال التهنئة للمسيحيّين الأرثودوكس بأعياد الميلاد المجيد، تمّ غلق حسابي الشخصي بدون إنذار مسبق. إذ أرسل لي الفيسبوك رسالة يقول فيها بأنّ حسابي قد تمّ تعطيله، وغلق كل الصفحات والمجموعات المرتبطة به، بعد تلقّي الكثير من الشكاوى. بهذا ضاعت جهود أكثر من خمس سنوات من العمل، وألبومات منظّمة، ومواد مترجمة، ومتابعين مثقّفين.

لقد حطّم ذلك قلبي.

استهدفت الشكاوى حسابي الشخصي زاعمين بأنّني “شخص وهمي” على الرغم من أنّ صفحاتي مرتبطة برقم الهاتف المحمول الخاص بي، وتتضمّن معلومات شخصيّة صحيحة،  والكثير من الألبومات الشخصيّة. أرسلت وثائق رسميّة للفيسبوك – صورة عن جواز سفري، وبطاقة حافلة تتضمّن صورتي، وشهادة تخرّجي من كليّة الطب. كما كتبت رسالة للسيّد مارك زوكربيرغ.

إلاّ أنّني لم أتلقّ ردّا حتّى الآن. لست متأكّدا من هويّة أعدائي، إلاّ أنّني كتبت عدداً من الموضوعات النقديّة عمّا فعله تنظيم داعش بالتعليم.

إنّ غلق صفحاتي عملٌ جنونيّ، خصوصا مع بقاء صفحات تروّج للعنف والكراهيّة على شبكة الإنترنت مفتوحة، بينما يتمّ غلق صفحات مكرّسة للفن والثقافة بسبب حملة منظّمة نابعة من الجهل والتطرّف.

لكنّني لم أستسلم لذلك. وبينما أنا أنتظر ما سيحصل، بدأت فعلا بإنشاء صفحة أخرى. اجتذبت حتى الآن 300 صديق. في الوقت الذي يرسل فيه أصدقائي القدامى رسائل مستفسرين عمّا حصل، ومعربين عن تضامنهم والرغبة في المساعدة.

ربما أفقد عملي مجدّدا. إلاّ أنّني استجمعت قواي وتشجّعت لأنّني أعرف أنّه بإمكانك إطفاء شمعة، لكنّ من الصعب إخماد شعلة النار.
AddThis Sharing ButtonsShare to FacebookShare to TwitterShare to ارسال ايميل

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى