مقالات رأي

ولنا في جامعات ألمانيا أسوة حسنة!

بداية من هذا العام أصبحت كل جامعات ألمانيا مجانية بعد أن قامت آخر مقاطعة ألمانية لوير ساكسوني بإسقاط مصاريفها الجامعية. وكانت الجامعات الألمانية قد فرضت مصاريف دراسية في 2006 بناء على قرار اتخذته الحكومة في 2005. وعلى الرغم من أن المصاريف المفروضة كانت منخفضة وعلى الرغم من توفير قروض طلابية ميسرة، إلا أن القرار لم يلق ما يكفي من الترحيب وسرعان ما فطن الجميع إلى أن مجانية التعليم الجامعي تعود بفائدة أكبر على المجتمع.

وبعد مجموعة من المطالبات من قبل حركات المعارضة الطلابية والسياسية، بدأت الجامعات بإلغاء المصاريف الدراسية بالتدريج ليصبح التعليم الجامعي مجاني تماما في ألمانيا للطلاب الألمان والأجانب على السواء.

وطبقا للرأي السياسي المعلن فإن اتخاذ هذا القرار في ألمانيا جاء من قاعدة أن فرض المصاريف الجامعية لا يحقق العدالة الاجتماعية لكونه يستثني طبقة الطلاب الذين لا ينحدرون من عائلات قادرة مادية أو عائلات تعلي من شأن العلم. إضافة إلى الإيمان بأن توفير فرص متكافئة لكافة الطلاب الألمان للالتحاق بالجامعة يجب أن يكون من صميم أولويات الدولة الألمانية.

ما يحدث في ألمانيا ومثيلاتها من الدول التي تقدم التعليم الجامعي بالمجان هو التجسيد العملي لمبدأ أن التعليم حق من حقوق الإنسان، وهو انحياز واضح لفكرة أن تعليم الفرد هو خدمة مجتمعية وليست فردية وبالتالي يجب أن يتحمل عبئها المجتمع كافة. فالمجتمع الجاهل مجتمع متأخر اجتماعيا واقتصاديا وسلوكيا، وإن أردت أن تنهض بمجتمع يجب أن تضع تعليم أفراده نصب عينيك، فبالإضافة إلى أن توفير التعليم المجاني للمواطن هو حقه على الدولة فهو أيضا يعود بالنفع عليها وعلى بقية أفرادها.

في المقابل، لاتبدو التجربة العملية لزيادة المصاريف الجامعية في كبرى الدول مبشرة بالمرة. فالعديد من جامعات الولايات المتحدة الأميركية مثلا تفرض مصاريف جامعية باهظة، لكن القروض الطلابية تنامت بشكل مرعب لتصل إلى المليار دولار وهو ما ساهم في أزمة البلاد الاقتصادية. كما تتعرض سياسة المملكة المتحدة في زيادة مصاريف طلابها منذ أربع سنوات تقريبا لمعارضة داخلية شديدة، ليس لتأثير ذلك القرار على العدالة الاجتماعية وتوفير فرص متكافئة للطلاب للالتحاق بالجامعة فحسب، ولكن لما يعنيه ذلك من آثار سلبية على المجتمع الإنجليزي على المدى البعيد. ومن المقرر أن يتم استئناف الحركة الطلابية الإنجليزية المناهضة لمصاريف الدراسة الجامعية المرتفعة في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم مستمدة القوة من التطورات الأخيرة في ألمانيا.

لا يستطيع المرء أن يتابع تطورات التعليم الجامعي في العالم المتقدم حيث توجد أفضل جامعات العالم دون أن يعقد المقارنات بينها وبين سياسات التعليم العالي في مصر. فحيث يسير العالم المتقدم بخطى حثيثة نحو تحرير التعليم العالي من قيد قدرة الفرد المادية، نخطو نحن خطوات ثابتة نحو المزيد من الخصخصة. فنحن أمام منظومة للتعليم العالي ترحب بل وتشجع على بناء مزيد من الجامعات والأكاديميات والمعاهد الخاصة وتعتبره تطويرا للتعليم العالي في مصر. بل إنها تعتبر بناء المزيد من المنشآت التعليمية الخاصة عمل وطني. ليس هذا فحسب، بل أنه يتم خصخصة الجامعات الحكومية بالتدريج ويتم التوسع في إنشاء الأقسام ذات المصاريف العالية، وهو ما يزيد من أسباب انعدام تكافؤ الفرص عند الالتحاق بالتعليم العالي. لذا  يصعب القول إن فلسفة التعليم العالي في مصر تقوم على الاستثمار في المواطن وتحويله إلى مواطن مفيد للمجتمع قادر على المساهمة في تنميته. إنها فلسفة تنظر إلى الطلاب كعبء يجب التخلص منه وتصديره للقطاع الخاص وسياساته. فلسفة تنظر إلى للتعليم العالي كفرصة لإنشاء مجموعة من المشاريع الاستثمارية يتحكم الربح في اتخاذ القرار بها وليست المعايير الأكاديمية التي يجب أن تحكم أي عملية تعليمية. فالطالب في أي منشأة تعليمية خاصة هو زبون. ولتُسقط كل مفاهيم التجارة والربح على هذا الزبون، من محاولة الاستفادة منه ماديا بكل الطرق لمحاولة إرضاءه بكل الطرق للحفاظ عليه، وما يتضمنه هذا من الاستعداد لغض الطرف عن ممارسات مرفوضة أو قبول مستوى أكاديمي متدني لجذب “الزبون”.

ويبدأ هذا من شروط القبول وصولا لمتطلبات النجاح والاستمرار والتخرج. تحدث مع أي أستاذ جامعي قدر له أن يقوم بالتدريس في جامعتين أو قسمين في مصر أحدهما بالمجان والآخر بمصاريف عالية واطلب منه أن يعقد لك المقارنات من حيث الخدمات والتسهيلات المقدمة للطلاب وطريقة المعاملة معهم والحرص على إرضائهم والذي يتم بطريقة مبالغ فيها في الحالة الثانية تنال من العملية التعليمية نفسها في كثير من الأحيان. وحدث ولا حرج عن علاقة الطالب بأستاذه التي تتحول عندئذ إلى علاقة الزبون بالموظف الذي يدفع له ثمن خدمته.

أكاد أسمع تساؤلات تتبادر إلى الأذهان عن كيفية تمويل التعليم المجاني وأسمع أصوات تحدثني بأن دولتنا فقيرة لا تستطيع الإنفاق على تعليم جيد لمواطنيها. يا سيدي، حدثتنا دولتنا منذ أسابيع قليلة عن قدرتها على جمع 60 مليار جنيه من مواطنيها في أيام معدودة لتمويل ما قررت أن يكون مشروعها القومي. فهل لدينا مشروع قومي أهم من الاستثمار في عقول أبنائنا؟ المشكلة تكمن في توفر الإرادة السياسية لحل مشكلة جوهرية يعاني منها الشعب. ولا يوجد مستحيل على وجه البسيطة إن توفرت الإرادة. اسأل نفسك عن أصحاب المصلحة في التوسع في التعليم الخاص على حساب المجاني. من ستضار مصالحه إذا استطاعت الدولة توفير تعليم مجاني جيد للجميع؟ قد تساعدك الإجابة على استيضاح الصورة.

ستستمر خصخصة التعليم في تعميق الظلم المجتمعي الواقع على الطبقات الفقيرة، وتوسيع الفجوة بين الطبقات وحرمان مجتمع من عقول قادرة على التأثير الإيجابي في المجتمع إن أتيحت لها فرصة عادلة لتحقيق ذلك، بالإضافة إلى تأثير ذلك على العملية التعليمية ذاتها ومصداقيتها. ولن يتوقف قطار خصخصة التعليم الذي يدهس تحته كل مواطن غير قادر عن المضي في طريقه إلا إذا انتبهنا إلى الآثار الوخيمة لخصخصة التعليم على المجتمع والفرد وتحركنا بشكل فعال لإيقافه قبل أن يأكل الأخضر واليابس.

* أمل أبو ستة: طالبة دكتوراه فى أبحاث التعليم بجامعة لانكستر بانجلترا. بإمكانكم متابعتها على تويتر Clever_Flower@

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى