مقالات رأي

العصر الذهبي للعالم العربي

تحدث رامي خوري، الصحفي والأكاديمي وخريج الجامعة الأمريكية في بيروت، بحماس شديد حول السنوات الأربعة الماضية من التجربة العربية.

تحمل تجربة كل طالب في الكلية معنى خاصًا يشوبه غالبًا الكثير من الإثارة، كما تتميز كل دفعة عن غيرها بشكل مختلف، ولكن كخريجي دفعة 2014 في الجامعة الأمريكية في بيروت فأنتم متميزون بشكل غير مسبوق، وذلك بسبب تجربتكم الشخصية داخل الجامعة وبسبب ما حققه زملاؤكم من الشباب العربي في جميع أنحاء المنطقة خلال الأعوام الأربعة الماضية.

فبعد انضمامكم إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، أشعلت التظاهرات التونسية في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2010 فتيل الثورات العربية والتي لا تزال تدوي في مختلف أنحاء العالم العربي. ومنذ عدة أشهر، تحديدًا في كانون الأول/ يناير 2014، حقق التونسيون، الذين حصلوا أخيرًا على التمكين السياسي، عملاً بطوليًا لم يتم تحقيقه من قبل في أي دولة في العالم العربي. فلقد تناقش الملايين من الشعب التونسي من كافة قطاعات المجتمع وتحاورا وانتهوا من صياغة دستورهم الجديد ووافقوا عليه. وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي لم تفرض فيها مثل هذه الوثيقة العربية عن القيم المشتركة والحقوق والمسئوليات على الشعب من قبل النخبة أو السلطات الأجنبية كما حدث في كافة الدساتير العربية السابقة، ولكن صاغها المواطنون البسطاء من جميع أنحاء البلاد؛ حيث جمع هذا الدستور قيمهم وطموحاتهم. 

رافق سنواتكم الأربعة في الجامعة حدثان بطوليان، لن تظهر نتائجهما النهائية قبل سنوات من الآن. في حين تختلط نتائجهما الحالية في كافة أنحاء المنطقة بالتغيرات في النظم الحاكمة والتحولات الديمقراطية والثورات المضادة والصراعات المشتعلة. فلقد تخرجتم في ظل عالم عربي يعج بالتحولات العميقة؛ حيث أصبح للفرد، في كثير من الأحداث ولأول مرة، قيمة وصوت مسموع سواءً أكان ذلك على الإنترنت في العالم الافتراضي أو في الشوارع أو داخل لجان التصويت. فلم يعد المواطنون في كافة الدول العربية دون استثناء يخافون المطالبة بحقوقهم، بل أصبحوا أيضًا قادرين على تنظيم صفوفهم والاحتشاد بسليمة وبشكل ضاغط لضمان احترام حقوقهم.

فلا ينبغي أبدًا أن تغيب عن ناظرنا القيم التي تلهم المتظاهرين وكُتاب الدستور. في كل دولة في كافة أنحاء العالم العربي – مرة أخرى دون استثناء بين الدول الغنية والفقيرة- أصبحت الشعوب المنقادة والمهددة الآن قادرة على المطالبة بحقوقها وتشكيل حكوماتها بصورة تعكس قيمها وتستجيب لاحتياجاتها. تسعى هذه الشعوب لاستبدال الحكم الأوتوقراطي بالحكم الديمقراطي، والذل بالكرامة، والتهميش بالتمكين، وحالة العجز بنهوض عربي.

وقد كتب الكاتب والمعلم الراحل سمير قصير في مستهل كتابه التنبوئي “تأملات في شقاء العرب” في عام 2004 أن “الشعوب العربية يسيطر عليها الشعور بالوهن.” ورأى قصير أنه لا أمل في تصور نهاية لهذه الحلقة المفرغة من الضيق في المستقبل العاجل؛ حيث قال أن التخلف العربي قد وصل إلى معدلات يصعب معها توقع النهوض الفوري. واستنتج أنه “لا يمكن لأي شيء –سواءً الهيمنة الأجنبية أو خلل الهياكل الاقتصادية – ناهيك عن التراث الثقافي العربي – أن يمنع المرء من السعي لإيجاد شكل من أشكال التوازن على الرغم من سوء الظروف الحالية.”

وأنا أعتقد أن المظاهرات المستمرة وجهود إعادة الهيكلة الحالية تمثل ما توقعه سمير قصير حين قال “أنه يومًا ما سيخترق المواطنون العرب في مختلف المناطق والعواصم حاجز العجز والضيق ساعين لإعادة التوازن في حياتهم ومجتمعاتهم، وإصباغ الشرعية على نظمهم الحاكمة بعيدًا عن الماضي؛ حيث كان الرجال والنساء العرب مجرد توابع أو مستهلكين أو خاضعين لرفاهية الدولة والمرتبطة بهوى بعض الأفراد ومسئولي الجيش من حكام الدول. 

ويتلخص البعد الأخلاقي الأساسي لهذا العملية التاريخية في أن المتظاهرين من كافة أنحاء المنطقة يعبرون عن هذا الصراع من خلال معجم قوي للأخلاقيات. فلم تطالب التظاهرات السلمية تقريبًا في كافة الدول العربية بالسلطة أو الانتقام أو الثروات. ولكنها طالبت بالعدالة الاجتماعية والكرامة والحرية والاحترام، متيقنة من أن العالم يجب أن تسوده المزيد من المساواة والمسائلة والفرص للجميع. وتقبع خلف هذه النداءات تحديات وطنية هائلة تتعلق باحتياجات الملايين من العرب لماء نقي، وغذاء وسكن مناسب، ووظائف لائقة، ومساواة بين الجنسين، وفرصة للحياة بشكل طبيعي دون استغلال وتهميش وفقر وحروب مستمرة.

فلقد مات حتى الآن مئات الآلاف وشُرد الملايين من اللاجئين بسبب إصرارهم على الإطاحة بحاكم عنيد خسيس كبير في السن، ولا يزال الملايين يعانون ويحاربون ويخاطرون بحياتهم. ولماذا يفعلون ذلك؟ من أجل حفنة من الأسماء المجردة، مثل الكرامة والعدالة، والتي يصرون أن تشكل حجر الأساس وأداة الحكم في عالمهم. 

ولكن أيضًا داخل هذا الحرم الجامعي، تظاهر بعضكم مطالبين بأسماء أخرى مجردة تتعلق بحياتكم كطلاب ومن أجل قضايا مثل المشاركة والمسائلة وتيسير التكاليف والشفافية والإدارة الحكيمة. وشكك بعض الطلاب والأساتذة في جدوى بعض العمليات والإجراءات، ونجحوا في الاشتراك مع إدارة الجامعة الأمريكية في بيروت في حوار قيم وإدارة بعض المفاوضات بشكل مسئول وفعال. واستجابت الإدارة وتم تعديل بعض الاجراءات وتحسين بعض نظم اتخاذ القرارات. وتستمر المناقشات كما ينبغي في أية مؤسسة تقوم على أساس البحث العقلاني لتحصيل المعرفة وتحقيق التناغم الاجتماعي. 

وربما نام بعضكم في خيام مصرين على مظالمهم ومؤكدين على حقوقهم وقدرتهم على العمل بسلمية والاشتراك في مناقشة جادة حول كيفية تعريف هذه الحقوق وكفالتها. والآن عند تجولكم في كافة أنحاء العالم العربي في الأشهر والسنوات المقبلة، سترون الكثير من الخيام معظمها للاجئين ومهجرين أو ربما لفقراء لا مأوى لهم. وقد تمرون بمخيمات أخرى في مدن حول العالم كما شاهدنا مؤخرًا في نيويورك ومدريد وإسطنبول وساو باولو. 

فبكثير من الأشكال، ستظل الخيام رمزًا يعبر عن جيلكم وعالمكم. ولذا ربما يكون الوقت قد حان لتفكروا فيما إذا كنتم ستشيدون نوعًا جديدًا من الخيام وتسكنونها في السنوات القادمة – فيها متسع للجميع على المستوى الوطني والاجتماعي ومرتع لمختلف الأيديولوجيات والهويات، تحترم الحقوق المتساوية للجميع، وتستمع لكافة المواطنين، وتؤيد إرادة الأغلبية مع حماية حقوق الأقلية.

لم تتاح لأجيالنا مثل هذه الفرصة للاشتراك في هذه المغامرة الجريئة لبناء ديمقراطية عربية تعددية. ولكن هذه الفرصة متاحة أمامكم الآن، وعلى الأرجح ستتوسع في السنوات القادمة مع انتشار مفهوم النشاط المدني وتعمقه في كافة أنحاء المنطقة. ومع دخولكم سوق العمل، أو استكمالكم لدراستكم أو بناء أسركم، سيكون لديكم الخيار في لعب أي دور تريدونه في أكبر مغامرة شهدها العالم العربي بأسره، وهي القدرة على إدارة الدولة بأيدي أبنائها الأحرار. ويمكن أن تقوموا بهذا الدور في حياتكم الشخصية أو المهنية أو العامة، في السياسة والنشاط المدني والتعبير الثقافي والتعليم والأعمال، وربما الأهم من ذلك من خلال تعزيز مفاهيم الكرامة والاحترام وإتاحة الفرص للجميع في البيت وبين الأطفال والإخوة والآباء. 

وأنا متحدثُا عن نفسي وربما بالنيابة عن الكثير في المنطقة، أطالبكم بالخروج إلى العالم وبناء هذه الخيمة الجديدة والعظيمة لنا جميعًا ولكم وللأجيال المستقبلية. رجاءً ابنوا لنا مساحة شاسعة مليئة بالأنوار وغنية بالألوان يهب فيها النسيم على الصعيدين الاجتماعي والوطني، حيث يمكننا أن نعبر عن إنسانيتنا وننعم بالحياة وبكل ما فيها، وحيث يسعنا أن نعبر عن تفردنا، فنرتدي ما نشاء ونقرأ ما يستهوينا، ولكننا في نفس الوقت نحترم هويات الآخرين، وحيث يمكننا أن نمارس الديمقراطية، ونشارك في السلطة، ونتحاور ونختلف، ونتفاوض حول استحداث نظم جديدة بتحضر ورقي، وحيث يمكننا أن نطلق العنان لروحنا الثقافية والفنية، ونعيش في سلام مع كافة الأديان، والأهم من ذلك كله، نستمتع بالحياة.

أنتم ضمن مجموعة قليلة من شعوب العالم العربي التي عاشت هذا كله بالفعل، لأن هذه القيم والقواعد الأخلاقية شكلت تجربتكم الشخصية في الجامعة الأمريكية في بيروت خلال السنوات الأربعة الماضية. فرجاء استمروا في ممارسة ذلك وأكثر وأنتم تنطلقون إلى عالم أخر خارج هذه الأسوار الرائعة.

تهانينا لكم جميعًا، وشكرًا لكم مرة أخرى على إتاحة هذه الفرصة لي لأشارككم إنجازاتكم وأفراحكم. 

* يشغل خوري منصب مدير معهد عصام فارس للسياسة العامة والشئون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت.

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى