مقالات رأي

ما جدوى التعليم؟

كما جاء في الحديث الشريف الذي يدعونا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب العلم؛ حيث قال “اطلبوا العلم ولو بالصين”. أما في العصر الحديث، عندما قاد توني بلير حزب العمل في عام 1997 للنصر تحت شعار “التعليم، التعليم، التعليم”؛ فقد كان يردد ما أدركه القدماء من أهمية التعليم. وفي السياسة، يعتبر التعليم هو الأولوية التي يتفق عليها الجميع. وكما هو معروف يعد التعليم أيضًا من الحقوق الأصيلة التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ولكن إذا تساءلت عن جدوى التعليم، فسيتلاشى هذا الإجماع سريعًا.  قال أفلاطون إن الهدف من التعليم هو أن نعلم أبناءنا أن ينشدوا كل ما هو صواب، والصواب عند أفلاطون هو خليط من الأخلاقيات والجماليات.  ولكنه لم يتجاهل الشق العملي معتقدًا أن من كُتب عليهم تولي السلطة في جمهوريته الفاضلة يجب أن يتعلموا “فنون الحرب والإدارة”.  وقد أخذ تلميذه أرسطو اتجاهًا أكثر شكوكية، قائلاً “من علامات العقل المتفتح قدرته على تأمل فكرة ما دون تقبلها.”

كما أدركت المجتمعات العربية القيمة الكبيرة للتعليم بدءًا من الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال في الحديث الشريف “يُوزن يوم القيامة مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء”.  ورأى الغزالي، الفيلسوف الفارسي في القرون الوسطى، التعليم كإدراك للذات يُسمى “المعرفة” وقال أنها تسكن في الروح كالبذرة في التربة. وكتب العالم الأندلسي ابن عبد البر والذي عرف باسم “النمري” في نفس العصر “أن التعليم يشجع على التدين، وينمي الذكاء، ويمثل الرفيق خلال أوقات الوحدة، ويوطد الصلات الاجتماعية. وفي رؤية معاصرة، قال أيضًا أن التعليم ضرورة “لكسب المال”.

ويمكن مقارنة أفكار الغزالي برسالة كلية هارفارد، أكبر الجامعات في العالم، والتي تعهدت بأنها مؤسسة “تسعى لخلق المعرفة، وفتح عقول الطلاب لاستيعاب هذه المعرفة، وتمكين الطلاب من تحقيق الاستفادة القصوى من الفرص التعليمية المتاحة أمامهم”. ولكن مما لا شك فيه، وبالإضافة إلى كل هذه الأشياء، الحصول على درجة علمية من هارفارد يساعد على “كسب المال.”

وقد يبدو أن أفكار هؤلاء النخبة ليس لها أية علاقة بخبرة الطلاب في الجامعات العامة المكتظة بالطلاب في العالم العربي أو أولياء أمورهم والذين يشعرون بالقلق في ظل المناخ الاقتصادي غير المستقر هذه الأيام ويرون أن سنوات الدراسة الجامعية قد تؤخر أبناءهم عن الحصول على فرص عمل.

فإذا كان الهدف من التعليم الجامعي هو اكتساب المعرفة – عن الحقائق أو العالم أو مجموعة من الممارسات –  فلماذا لا تتاح هذه الفرصة لأكبر قدر ممكن من الناس؟ ولماذا لا نستغني عن رواتب الأساتذة الذين يدرسون في الفصول الدراسية والمباني باهظة التكاليف؟ وهذا هو التفسير وراء النمو الأخير في معدلات التعليم الإلكتروني، وبصفة خاصة الدورات التعليمية المفتوحة على الإنترنت أو ما يُسمى بـــ MOOCs. فعندما سجل 120000 طالب في الدورة التمهيدية في علوم الحاسب الآلي والتي قدمتها شركة أوداسيتيUdacity  ومقرها كاليفورنيا في 2011، تصدر هذا الموضوع عناوين الصحف في أنحاء العالم.

وعلى الرغم من أن مثل هذه الدورات ظهرت في أمريكا الشمالية وكانت تقدم باللغة الإنجليزية، فإن العالم العربي استجاب لهذا الاتجاه سريعًا. وتعتبر “إدراك”- نتاج الشراكة بين اتحاد شركاتedX ، بقيادة جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتقنية ومؤسسة الملكة رانيا في عمان- بوابة جديدة للغة العربية والتي ستبدأ بترجمة دورات شركاتedX، ولكنها تأمل أن تقدم في النهاية محتوى أصليًّا.

وفي هذه المرحلة، ضاق الكثير من صناع السياسات في مجال التعليم ذرعًا من المناقشات التي تجري حول الدورات التعليمية على شبكة الإنترنت، ولكن هذه الدورات بالفعل أثارت تساؤلاً هامًّا حول مدى احتياج الطلاب في الواقع للحصول على درجة أكاديمية أو مجرد الاكتفاء بمجموعة من الدورات التي توسع مداركهم وتحقق أهدافهم العملية.

وفي النهاية، إذا تساوت المعرفة التي يتم تحصيلها من خلال دورات الإنترنت مع ما يحصله الطلاب في جامعة هارفارد، أو معهد ماساتشوستس للتقنية، أو الجامعة الأمريكية في بيروت، فلماذا السفر إلى بوسطن أو بيروت ودفع آلاف الدولارات سنويًّا؟ لماذا ترسل ابنك أو ابنتك للدراسة في الخارج بعيدًا عن البيت والأسرة، إذا أمكن تحصيل نفس المعرفة من خلال شبكة الإنترنت؟

قد يظن البعض أن التفاعل وجهًا لوجه مع الأساتذة الأكاديميين لا غنى عنه في مجال التعليم العالي وأن إمكانية دراسة الأفكار ومناقشتها بين الأكاديميين من أصحاب العقول المتميزة والخبرة الواسعة وغيرهم من الطلاب تجعل التعليم الجيد أكثر جدوى ونفعًا للطلاب. ولكن كما تعلمت الأجيال من خريجي كبرى الجامعات، أنه على الأقل هناك بعض كبار الأساتذة الذين ينظرون للتدريس الجامعي كمهنة مزعجة يفضل اجتنابها.  وفي واحدة من المحاضرات الكبيرة، قال أستاذ جامعي “.. أن ما بعد الصف الثالث يعتبر بمثابة التعليم عن بعد.”

في نفس الوقت تثير زيادة متطلبات التعليم لمواجهة الواقع الحالي لأسواق العمل مجموعة جديدة من التساؤلات حول أهداف التعليم. وبشكل متزايد، تحاول الجامعات معرفة عدد الخريجين الذين حصلوا على فرص عمل خلال ستة أشهر أو عام من تخرجهم. ولكن لا يمكنهم بأي حال حصر الوظائف التي يحصل العاملون بها على أجور مناسبة وعلى فرص للتطور. في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ماذا يعنيه مصطلح “واقع سوق العمل” في البلدان التي يتم فيها تعيين الكثير من الطلاب من قبل الحكومات أو لا يجدون أية وظائف على الإطلاق؟

حسب البيانات التي تم جمعها من قبل البنك الدولي، تشكل القوى العاملة غير الحاصلة على قدر كاف من التعليم عائقًا أمام النمو الاقتصادي في كافة أنحاء العالم العربي. وبما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تضم أعلى نسبة لبطالة الشباب في العالم، يمثل هذا التعارض بين إمكانات القوى العاملة واحتياجات سوق العمل مشكلة خطيرة. وقد لا يكون الحل ببساطة هو الدفع بالمزيد من الشباب لاستكمال تعليمهم العالي. ففي تونس، على سبيل المثال، يزيد معدل البطالة بالنسبة لخريجي الجامعات (40%) عنه بالنسبة لغير الحاصلين على الشهادات الجامعية (24%).

وقد دعا وزير التعليم التونسي إلى ما يُعرف “بالتعليم من أجل العمل الحر”. وقد كان لهذه الدعوة أصداء في كافة أنحاء المنطقة؛ حيث ظهرت فكرة تدريس مفاهيم ريادة الأعمال حتى يؤسس الخريجون شركاتهم الخاصة والتي ستوفر فرص عمل لهم ولغيرهم من الخريجين. وتؤيد هذه الفكرة أن خلق فرص العمل – وليس تأهيل الخريجين لشغل الوظائف الموجودة بالفعل – يعد من أهم أهداف التعليم.  وقد يرى بعض الطلاب أن خلق فرص العمل يجب أن يكون ضمن أهداف السياسات الحكومية وليس ضمن مسئوليات حديثي التخرج.

وختامًا، إذا لم يكن التعلم متعلقًا باكتساب المعلومات أو حيازة الشهادات أو حتى إمكانية الحصول على فرص عمل أو ريادة الأعمال، فما جدوى التعليم؟ هل يمكن تعليم الناس ليكونوا مواطنين صالحين؟ ويرى بعض العلماء أن جزءًا هامًّا مما يفتقده التعليم في العالم العربي هو “التعليم من أجل المواطنة”؛ حيث يتعلم الطلاب المناقشة، والتعاون، والمساهمة في مجتمعاتهم، وحتى تحدي السلطات الحكومية والدينية.

هل يمكن أن يتعلم الناس كيف يصبحون سعداء؟ وتقترح دولة بوتان، وهي دولة صغيرة جنوب آسيا، أن يقاس نجاح أي مجتمع بمدى سعادة مواطنيه، وليس بنتاجهم الاقتصادي. ومن الممكن أن يساهم التعليم في مساعدة الطلاب على إيجاد طريقهم للسعادة.

في المجتمعات المتناغمة، حيث ينتمي الجميع لنفس الثقافة ويتحلون بنفس القيم الدينية والأخلاقية قد تجدي محاولة تعليم الطلاب “كل ما هو صواب”. ولكن معظمنا يعيش في مجتمعات مختلفة يصعب الاتفاق فيها على تعريف ماهية الصواب. فهل يمكن أن يعلمنا التعليم كيفية إدارة اختلافاتنا؟

من الواضح أن السؤال عن جدوى التعليم يثير سلسلة من الأسئلة الأخرى والتي تشبه المشاعل على حوائط قاعة كبيرة. وكلنا طلاب نسير في طريقنا للوصول لنهاية القاعة، يحمل كل منا إجابة مختلفة لهذه الأسئلة.

مصادر المعلومات ذات الصلة بهذا المقال:

مؤشرات البنك الدولي عن التعليم في العالم العربي والتي تضم بيانات خاصة بكل الدول، مثل نسبة الأطفال الحاصلين على التعليم الابتدائي.

في مقال بعنوان “التعليم من أجل المواطنة في العالم العربي: أساس المستقبل” ألقى عالمان الضوء على المواد المتاحة حول تعليم المواطنة، وسجل التعليم العربي في هذا الشأن، والحاجة إلى مفاهيم المواطنة ومتطلباتها.

في “مقابلة مع مدافع عن قضية التعليم من أجل المواطنة”، أجرت الفنار للإعلام حوارًا مع محمد فاعور، أحد كاتبي التقرير السابق، والذي قام بدراسة استقصائية مفصلة عن كيفية تدريس 11 دولة عربية لمفهوم المواطنة؛ حيث اكتشف أن ما يتم تدريسه في الفصول الدراسية غالبًا ليس له أي صلة بالواقع السياسي.

وقد دفعت الأزمة السياسية في مصر في 2013 أحد العلماء للتفكير في قدرة الجامعات على تجاوز التفكير النقدي إلى تعزيز مفهوم المواطنة في مقال بعنوان “أهمية المواطنة في هذه الأوقات الصعبة”.

فيما يخص موضوع الدورات التعليمية على شبكة الإنترنت، هناك شراكات أخرى تربط العالم العربي بالتعليم على شبكة الإنترنت مثل تغريدات، مبادرة عربية للتعهيد الجماعي، وكورسيرا Coursera، وهي مبادرة مشتركة بين شركة أليسون الأيرلندية والتي تصف نفسها بأنها أكبر مقدم للدورات المجانية على شبكة الإنترنت و”صلتك”، وهي منظمة قطرية غير ربحية تركز على الشباب والتوظيف.

* تمت كتابة المقال بدعم من قبل صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية في إطار التحضير لعقد سلسلة من ورش العمل لتشجيع الصحافيين العرب للكتابة عن التعليم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى