مقالات رأي

سنة أولى في صحافة التعليم العالي

عندما بدأت العمل مع الفنار للإعلام، أنا القادمة من صحافة المال والأعمال، كان جل اهتمامي ينصب على التفكير بما يمكن كتابته عن التعليم العالي في المنطقة العربية. إذ أن معظم ما تنشره وسائل الإعلام العربية لايتعدى أخباراً عن نشاطات جامعية أو إعلاناً عن منح وجوائز وفي أحسن الأحوال متابعات لتقارير دولية عن واقع التعليم المتردي في معظم الدول العربية.

سعادتي بالانضمام لفريق عمل الفنار للإعلام شابها منذ البداية قلق- بدا لي مشروعاً- حول القضايا التي يمكن البحث فيها بعيداً عن الأخبار الترويجية للمؤسسات التعليمية.

بدأنا العمل بثلاثة أبواب فقط وعدد قليل جداً من القصص لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.

وبعد سبع سنوات قضيتها في الصحافة المحلية، وجدت نفسي أبدأ من الصفر في الصحافة الإقليمية. إذ توجب علي البحث عن مراسلين وإيجاد مصادر جديدة وانتقاء موضوعات للكتابة وقبل كل شي فهم الأنظمة والسياسات التعليمية لكل بلد عربي ومن ثم متابعة اتجاهات التعليم الحديث حول العالم وانعكاساتها على المنطقة.

مهمة صعبة، إلا أن الترحيب الذي لاقته الفنار للإعلام منذ إنطلاقتها قبل نحو عام جعلها مهمة ممتعة.

في الحقيقة، ترافق الترحيب الحار بالكثير من التساؤلات حول الهدف والجدوى. ففي العالم العربي، كان السؤال عن مصدر التمويل يشكل الهاجس الأكبر، بينما كان المستفسر من العالم الغربي أكثر قلقاً حيال وجود قراء فعليين مهتمين بمتابعة التعليم العالي في المنطقة.

بعد زوال الشكوك حول مصادر التمويل والتيقن من وصولنا لجمهور متعطش، تنفتح أبواب لنقاشات لا تنتهي حول مشكلات التعليم العالي في المنطقة العربية التي تصل نسبة الأمية بين سكانها لنحو 19 في المئة منها 60 في المئة بين النساء بحسب أحدث تقارير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو).

لم يكن مستغرباً إذاً أن نغرق في الكتابة عن التحديات التي تواجهها المؤسسات للنهوض بالتعليم بدءاً من سياسات القبول الجامعي المعتمدة إلى سياسات تحديد أجورالأساتذة في الجامعات ومروراً بمعضلة ضعف الاهتمام بالأبحاث العلمية وغياب الاستقلالية الإدارية وازدياد القيود على الحرية الأكاديمية.

قضايا كثيرة قمنا بالكتابة عنها خلال العام الماضي، أكثر من 350 قصة وتقرير، طغى الجانب السياسي والأمني على الكثير منها.

مع الوقت، أصبحت أكثر دراية بقضايا التعليم العالي وشؤون الجامعات. وهو الأمر الذي زاد من حماستي للعمل. إلا أنه وخلال عدة زيارات ميدانية لمجموعة من المؤسسات التعليمية داخل الوطن العربي وخارجه، بدت لي المجتمعات الأكاديمية العربية أكثر إنغلاقاً من نظيراتها الغربية. فالأجواء السياسية المتوترة، تدفع بالكثيرين لتفضيل الصمت أو في أحسن الأحيان الكلام بشرط عدم التسجيل أو ذكر الاسم.

وفي الوقت الذي يمتلئ فيه بريد الفنار الإلكتروني بالبيانات الصحفية الخاصة بإقامة المحاضرات والأنشطة الترويجية، لم تردنا أنباء عن مشاريع لأبحاث مشتركة بين الجامعات لا على الصعيد المحلي أو حتى الإقليمي. في المقابل، تبدو المؤسسات التعليمية العربية في سباق محموم لتوقيع اتفاقيات تعاون مع جامعات أجنبية أو الحصول على شهادات اعتماد دولية. إلا أن إنجازات هذا التعاون الدولي تستند في معظم الحالات على مبادرات فردية وجهود استثنائية لأساتذة يبحثون عن فضاءات حرة للعمل الأكاديمي.

يمكنني إذا القول باختصار إن الربيع العربي الذي زار عدداً من الدول العربية لم تطئ قدمه بعد ساحات مؤسساتنا التعليمية. فبعد مرور أكثر من أربع سنوات على اندلاع شرارة الربيع العربي، لم نسمع عن مشاريع لتطويرالمناهج الدراسية على سبيل المثال، أو تغييرات جذرية في الهياكل الإدارية شديدة المركزية. وعلى الرغم من استثمار الحكومات العربية للكثير من المال في مؤسسات التعليم العالي والمدرسي (5 في المئة وسطياً من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً) إلا أن النتائج بقيت متواضعة. فمؤسساتنا التعليمية تعاني من ضعف واضح في البنى التحتية مع استمرار هجرة الأساتذة وارتفاع معدلات البطالة. وعوضاً عن الكتابة عن أعداد الخريجين الجامعيين ومدى موائمة مؤهلاتهم لاحتياجات سوق العمل تحولنا للكتابة عن أعداد الطلاب الجرحى والمتوفين والأساتذة المهددين والمعتقلين.

رغم كل هذا، أنا متفائلة.

أولاً، بسبب الصدى الطيب الذي حققته الفنار للإعلام هذا العام وحجم الاهتمام والمتابعة الذي نتلقاه من قراءنا سواء من خلال نشرتنا الأسبوعية أو على صفحات التواصل الاجتماعي والذي يعكس إيماناً بدور التعليم في المرحلة الحالية والمقبلة.

ثانياً، وعلى الرغم من الاضطرابات السياسية والأمنية التي تشهدها ساحات الجامعات العربية إلا أنه لا يمكن نكران وجود اهتمام ملحوظ لتحسين جودة التعليم العالي في المنطقة عبر الحصول على شهادات اعتماد دولية أو تطوير سياسات وطنية لضبط الجودة. وكما أن عدوى الربيع العربي قد انتقلت بين الدول العربية، فإن عدوى التنافسية لاجتذاب الطلاب والكوادر المؤهلة ودعم البحوث العلمية والالتزام بمعايير الجودة والانضمام للتصنيفات العالمية قد بدأت أيضاً بالانتشار.

ثالثاً، أعتقد أن نسائم الربيع العربي ستهب أجلاً أم عاجلاً على مؤسساتنا التعليمية. فبعد بلوغ الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية هدفها الأساسي، ألا وهو تغيير النظام السياسي القائم، ستجد هذه الدول نفسها أمام حاجة ملحّة إلى إصلاح النظام التعليمي. إن بناء الهياكل الديمقراطية وترسيخ مفاهيمها لن يتم إلا بوجود نظام تعليمي يحتضن التنوع السياسي والديني ويستند إلى التفكير النقدي ويحترم الاختلاف ويعزز قيم المواطنة.

ختاماً، يسعدني الاعتراف بأن انتقالي للعمل في صحافة التعليم وانضمامي لفريق الفنار للإعلام كان من أفضل ما حدث لي على المستوى الشخصي والمهني خلال الأعوام الثلاثة الماضية. مع تمنياتي الخالصة بالانتقال للكتابة عن الإنجازات لا التحديات في المستقبل القريب.

*رشا فائق هي كبيرة المحررين في الفنار للإعلام.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى