أخبار وتقارير

التراث الثقافي لسوريا: الضحية المنسية للصراع

مع دخول الصراع في سوريا عامه الرابع وفي غياب واضح للحل في الأفق القريب، يتعرض التراث التاريخي الغني للبلاد التي طالما عرفت بأنها جنة الأثريين للتخريب المستمر. إلا أن مجموعة كبيرة من العلماء والمواطنين يعملون جاهدين لحماية مافي وسعهم ومنع بيع القطع الأثرية المسروقة وتوثيق المواقع التاريخية بدقة للمساعدة في عمليات الترميم في المستقبل.

مؤخراً، نشرت منظمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) “قائمة حمراء” تتضمن أنواع التحف التي يتعين على المتاحف وهواة جمع التحف وصالات المزادات ترقبها من سوريا، بما في ذلك المنحوتات، والرقم المكتوبة، والقطع النقدية، وقطع الفسيفساء. وقالت إيرينا بوكوفا رئيسة منظمة اليونسكو للصحفيين عقب إطلاق القائمة ” لا يمكن الاختيار ما بين إنقاذ الأرواح وإنقاذ التراث الثقافي. فحماية التراث وحماية الناس أمران لا يمكن الفصل بينهما لأن التراث يجسد هويات الناس، ويزود الأشخاص بما يلزمهم من قوة للتطلع إلى المستقبل بثقة، والتراث قوة دافعة تساعد على تحقيق التماسك الاجتماعي وإنعاش المجتمعات”.

في المقابل، يحاول آخرون تحديد حجم الأضرار التي سببها الصراع. فبحسب بعض التقديرات، أكثر من 90 في المئة من المواقع الأثرية الهامة تقع في مناطق الصراع.

تقول زبيدا زارين غلام، مهندسة معمارية من منظمة تراث بلا حدود الثقافية والتي تتخذ من برلين مقراً لها، “لقد تم تدمير وتخريب عدد كبيرة من المواقع التاريخية، من ضمنها المواقع الستة المسجلة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي والتي تشمل: القرى القديمة (المدن المنسية) شمال سوريا، وبصرى، وقلعة الحصن، وتدمر، وحلب القديمة ودمشق القديمة“. ووفقاً لغلام، فإن المواقع التاريخية تتعرض بصورة يومية للتدمير من خلال القصف المباشر، وإطلاق النار، وتواجد قوات الجيش والنهب فضلاً عن تدمير المنحوتات الأثرية من قبل الأصوليين الإسلاميين باعتبارها تتعارض مع معتقداتهم الدينية.

تعرضت حلب، والتي تعد واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، لقصف عنيف تسبب في تدمير الأبواب الحديدية لقلعتها المشادة منذ القرون الوسطى. كما دمرت مئذنة المسجد الأموي في المدينة والتي يزيد عمرها عن ألف عام. وتعرض أكبر سوق تاريخي مسقوف في العالم، مايعرف بسوق المدينة الآثري، لحريق هائل دمر أجزاء كبيرة منه.

في حمص، دُمر مسجد خالد بن الوليد، أحد أقدم المساجد في العالم والذي يعتبر مثالاً حقيقياً للعمارة العثمانية. كما تعرضت قلعة الحصن والمدينة الرومانية القديمة في أفاميا، والمدينة الآثرية في تدمر لأضرار مادية بالغة. وانهار الجسر المعلق في دير الزور، والذي كان أحد المعالم التاريخية البارزة في المدينة الشرقية. كما سقطت قذائف الهاون على الواجهة الغربية للمسجد الأموي التاريخي في العاصمة دمشق، أحد أكثر المواقع شهرة في العالم الإسلامي، والذي كان معبداً رومانيا ثم كنيسة قبل أن يصبح مسجد في القرن السابع ويشتهر المسجد الأموي بكونه يضم ضريح يوحنا المعمدان.

تقول غلام ” هذه فقط أمثلة لمواقع أثرية معروفة ومسجلة على قوائم التراث العالمي والتي يُضاف إليها الكثير من المواقع التاريخية والآثرية الأخرى الأقل شهرة”.

في سوريا، يوجد 38 متحفاً رسمياً، اثنين منها على مستوى وطني في دمشق وحلب، و12 أخرين على مستوى محلي، فضلاً عن سبعة متاحف للفنون والتقاليد الشعبية، و11 متحفاً متخصصاً في الخط أو الفسيفساء، ومتاحف أخرى تابعة لمواقع آثرية. ووفقاً لتقرير نشرته المديرية العامة للآثار والمتاحف العام الماضي، فقد تم إفراغ جميع المتاحف في البلاد من محتوياتها وتم وضعها في أماكن آمنة. ومع ذلك، فقد أعلنت السلطات السورية عن وقوع عشرات السرقات. كما قال نشطاء إن المتاحف في حمص وحماة قد تعرضت للنهب منذ أشهر.

ومن ضمن أكثر القطع الشهيرة المفقودة، تمثال برونزي مطلي بالذهب يعود للفترة الآرامية من متحف حماة، وقطعة حجرية رخامية من متحف أفاميا. تم وضع كلتا القطعتين على قائمة القطع المطلوبة من قبل الانتربول منذ عام 2011 وحتى الآن لم يتم استردادها.

تقول جان أباظة، مرممة آثار وموظفة سابقة في مديرية الآثار السورية تعيش حالياً في القاهرة، “هذه مأساة حقيقة. لا يوجد سياسة وطنية واضحة لتوصيف وحفظ هذه الآثار بشكل صحيح” . وبحسب أباظة، فإن هناك الآلاف من القطع الأثرية الغير مستخرجة في المواقع الأثرية دون حراسة.

مع بداية الانتفاضة، أعدت أباظة مع مجموعة من زملائها دراسة لحماية المواقع الأثرية والمتاحف. تقول ” أردنا تجنب ماحدث في العراق، وقمنا بالتواصل مع أصدقاء متخصصين من ليبيا من أجل معرفة كيفية تشكيل درع بشري لحماية هذه المواقع إذا لزم الأمر”. لكن المبادرة لم تلق تفاعلاً من الجهات الرسمية، كما أن تصاعد وتيرة العنف حول فكرة الدرع البشري إلى “فكرة عبثية”.

من جهة أخرى، تكتنف عملية توثيق الأضرار صعوبات بالغة خاصة مع تزايد العنف. إلا أن علماء الآثار والمواطنين لا يزالون يعملون بجد لتحقيق ذلك.

نشر مأمون فنصة، البروفيسور السوري والذي شغل لسنوات طويلة منصب رئيس المتحف الوطني للطبيعة والإنسان في مدينة أولدن بورغ في ألمانيا، كتاباً جديداً بعنوان “حلب.. عندما تدمر الحرب الحضارة الإنسانية”. إذ يستعرض الكتاب الدمار الكبير الذي أصاب مدينة حلب القديمة.

يقول فنصة في حديث مع صحيفة إماراتية ” عندما رأيت صورة حلب والمدينة القديمة وكيف كانت تدمر عبر شاشات التلفزة، انتابني شعور قاس لا يمكن وصفه. وقررت العمل على الكتاب، لأنه بالنسبة لي المساعدة الوحيدة التي يمكنني القيام بها لأضمن وصول هذه المعلومات المهمة إلى الأجيال المقبلة”.

يتضمن الكتاب المنشور باللغة الألمانية حالياً العديد من المقالات الهامة لخبراء سوريين وأجانب عملوا سابقاً في ترميم المدينة القديمة في حلب، بالإضافة إلى مئات الصور من المواقع الأثرية في المدينة قبل تعرضها للتدمير.

بدورها، بدأت منظمة تراث بلا حدود بجمع الصور والأفلام الوثائقية عن التراث الثقافي السوري المهدد، والآثار الناتجة عن الصراع على المشهد الحضري والحياة اليومية للناس في البلاد. حيث سيتم عرض جميع هذه المواد في معرض يقام في وقت لاحق هذا العام في برلين بعنوان “هنا سوريا، التراث المنسي“.

تقول غلام ” يهدف المعرض إلى زيادة الوعي بالتراث المنسي في سوريا”. وتعتقد غلام بأن الإعلام يركز فقط على أخبار الحرب،” لقد غير هذا من الصورة الحقيقية للبلاد من مكان للحياة ذو تاريخ عميق إلى مجرد دولة « عادية » من دول العالم الثالث، الذي يواجه دائماً حوادث مأساوية”.

تتعاون المنظمة التي تتخذ من برلين مقراً لها مع منظمات محلية مستقلة كعدسة شباب سوري من داخل سوريا وجمعية حماية الآثار السورية من خارج سوريا، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين السوريين وخبراء التراث.

كما كان التراث الثقافي السوري، “الضحية المنسية للحرب”، موضوعاً لحملة دولية بدأت الأسبوع الماضي في روما بهدف لفت انتباه الرأي العام إلى الأضرار الجسيمة التي لحقت بالتراث الثقافي والحضاري في البلاد. وتتضمن الحملة منح جائزة باسم جائزة إنقاذ التراث الثقافي السوري لشخصية أو جمعية أو مؤسسة ستشارك في حماية الثقافة والفن المهددين وإقامة معرض جوال للأعمال الفنية بعنوان “سوريا.. الألق والمأساة”.

تم أيضاً إنشاء العديد من الصفحات التوثيقية بلغات متعددة على موقع الفيسبوك من قبل أكاديميين ومهتمين سوريين وأجانب. من بين هذه الصفحات، عيون لحماية التراث الثقافي السوري وهي صفحة سورية تهتم بتوثيق التراث الحضاري للبلاد.

بينما أطلق مجموعة من علماء الآثار الأوروبيين والسوريين صفحة الآثار السورية في خطر لتوثيق الانتهاكات التي تتعرض لها المواقع الآثرية منذ بدء الاشتباكات بهدف تمكين البعثات الآثرية مستقبلاً من القيام بعمليات الترميم اللازمة.

يقول المهندس المعماري السوري أسامة نعناع، والخبير في الآثار السورية، ” يمكن إعادة ترميم المواقع المدمرة في حال توفر معلومات مفصلة ودقيقة عنها. لهذا وإلى جانب التوثيق، يجب حماية الحجارة الآثرية من السرقة والضياع.” ووفقاً لنعناع، فإن نحو 60 في المئة من المواقع الأثرية في مدينة حلب تعرضت للتدمير.

كما أعلنت المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية، السلطة المسؤولة عن صيانة وحماية والحفاظ على التراث في البلاد، مؤخراً عن الانتهاء من أول مشروع سجل حكومي شامل لجميع المواقع الأثرية والمباني التاريخية المتضررة. ووفقاً لبيان المديرية، فإن المشروع يهدف إلى تحديد المواقع المتضررة على الخريطة وتصنيفها بحسب المحافظات.

تعيش سوريا، موطن بعض من أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم، في حالة يرثى لها. تقول غلام من منظمة تراث بلا حدود “ما يحدث داخل سوريا ليست مجرد فقدان التراث السوري ولكن خسارة ضخمة للبشر والثقافة والتراث الطبيعي للبشرية ككل. يتوجب على المجتمعات الدولية وعلى كل واحد منا أن يشعر أكثر بالمسؤولية ويعمل على وقف هذا الخراب في أقرب وقت ممكن.”

Countries

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى