مقالات رأي

المواطنة النقدية: أهمية حرجة في الأوقات الحرجة

أجد نفسي، كشخص دارس لمفهوم الفكر النقدي منذ ما يزيد عن ست سنوات، و يقيم في مصر، في حالة دهشة مستمرة من الوضع هنا.  أذهلتني أحداث العنف الأخيرة؛ و دفعتني لإعادة النظر فيما تعنيه مفاهيم الفكر النقدي و المواطنة و ما يمكن أن يسهم به التعليم في مستقبل مصر.

أظهرت أبحاثي عن التعليم الثانوي في مصر صعوبة أن يجد الطلبة القدرة علي مسائلة السلطة المعرفية لأساتذتهم  أو أن يجدوا الثقة للمشاركة النقدية في حوارات غرف الدراسة.  و مع هذا تجد نفس الطلبة علي استعداد أكبر لمسائلة ما يعرض في وسائل الإعلام المحلية و الأجنبية؛ بل و في بعض الأحيان مسائلة ما يصدر عن رجال الدين.

على الرغم من نظام تعليمي يشجع التلقين و يثبط السؤال و الإبداع، فقد أظهر الناس في مصر، و من خلفيات تعليمية متفاوتة، استعدادا للطعن في نظام مبارك.  لقد سقط نظام مبارك منذ وقت يبدو طويلا الأن و أعقبته حوادث كثيرة، و لكنه يبقي حدثا كاشفا.  على الرغم من سنين من القمع، تمكن الشباب المصري من إدراك أهمية التخلص من نظام مبارك، و قاموا بهذا بالفعل.  كان ذلك، و لا يزال، إنجازا مبهرا.

لقد أظهرالمصريون تميزا في النشاط الحقوقي التعبوي، الذي يعتبر من أعلى أشكال المواطنة الفاعلة.  و لكنني أرى أن كل ما تعاقب من أحداث بعد سقوط مبارك، و خصوصا ما وقع من أحداث هذا الصيف، يشير إلي نقص هام في تصورات المواطنة الفاعلة في مصر.  قد ينجح بالفعل عمل النشطاء التعبوي في الإطاحة بالأنظمة ـ كما نجح مع مبارك ثم مرسي.  و لكن هذا الشكل من أشكال المواطنة الفاعلة، في اعتماده علي المواجهة، يبدو غير قادر على تبديل خطط العمل وتكريس المصالحة و إعادة البناء.  يبدو النشاط الحقوقي (التعبوي) محصورا في إعادة إنتاج المواجهة في حركة دائرية لا تنتهي.  و يزيد التصعيد الأخير في العنف من تعقيد فرص المصالحة.

بأي قدر يمكننا أن نعزو ذلك الفشل إلي استجابات أهلية لانقدية لخطاب إعلامي تهييجي، و بأي قدر يمكننا أن نعزوه لعوامل خارجة عن قدرة الأفراد و مشيئتهم الحرة الفاعلة.  لا أعرف تحديدا و لكني أعتقد أن التعليم العالي له دور حاسم في تأهيل شباب اليوم لمستقبل مصر، بما في ذلك الدفع نحو الوعي بالأسباب التي تعيق من قدرة الفرد علي الفعل الحر.  أريد التركيز هنا علي التعليم العالي لأقترح حلولا في المدي القصير؛ مع ملاحظة أن إسهام التعليم العالي يمتد لأبعد من مجرد تعليم الطلبة المقيدين إلي التواصل مع المجتمع. في المدى الطويل بالطبع، يحتاج منا أي تغيير أن نبدأ من المدارس.

التفكير النقدي في التعليم العالي

إن كان تكريس المواطنة من الأهداف العليا للتعليم العالي، فلابد للجامعات ألا تكتفي بالترويج للفكر النقدي (و هو بالفعل بضاعة شحيحة في النظام التعليمي) و الخدمة المجتمعية، لتركز علي إنتاج “المواطنة النقدية”.  لا أستخدم هذا المصطلح للإعلان عن مفهوم جديد، إنما ليساعدنا في إعادة الانتباه إلي الشكل التعليمي الذي نحتاج.  أعتقد، بعد سنين من دراسة مفهوم الفكرالنقدي، أن ما نعرفه عن ذلك المفهوم ينبغي أن يوضع في سياقه.  في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث أعمل، النسخة المتداولة لمفهوم الفكر النقدي نسخة أمريكية، ترى في الشك التأملي وسيلة في صنع القرار السليم.  و يتكون الفكر النقدي، وفق هذه النسخة، من مجموعة من المهارات (كتقييم الدلائل، و كشف المقدمات الغير معلنة، و العرض المنطقي للحجج) و الطبائع (كالفضول العلمي و التفتح العقلي).

من غير الواضح، علي مستوي العالم، إلي أي مدي يمكن للتعليم الجامعي أن ينمي التفكير النقدي [بالمفهوم أعلاه] عند من لايمتلك ناصيته بالفعل من الطلبة.  و علي أي حال، فإن ذلك المفهوم التقليدي للتفكير النقدي قد أخفق [في الحالة المصرية] من جهتين.  أولا، تستمر معظم تحليلات الوضع في مصر في الاعتماد علي نظريات المؤامرة لتفسير ما يبدو من ظواهر عديدة متناقضة، بدون انتباه لتقييم الدلائل.  بل في مرات، لا توجد أصلا دلائل كافية أو محاولات للبحث عن دلائل.  ثانيا، هذا الأسلوب [في التفكير النقدي] لا يؤهل المواطنين لأن يبنوا أفعالا على ما يصدر عنهم من نقد.  هذه القدرة على الفعل، ما أعنيه “بالمواطنة النقدية”، قد تجد عونا أكبر من مفهومين بديلين للتفكير النقدي.

 المفهوم البديل الأول يستعير مفرداته من حركة “التربية النقدية” [critical pedagogy] التي بدأت في أعمال باولو فريري.  هنا يكون الغرض من التفكير النقدي المسائلة المستمرة للأمر الواقع بهدف الوصول للعدالة الإجتماعية ـ تكريس الوعي، على مستوي جمعي واسع، بأسباب القهر من أجل تحقيق التحرر.  هذا المفهوم للتفكير النقدي يعلي من قيمة  “الممارسة”، كفعل موزون متكىء على المعرفة، مقارنة بالنشاط السياسي التعبوي (الذي رأينا منه كثيرا في مصر في السنتين الماضيتين) أو الكلام و الحوار بلا فعل (الذي رأينا منه الشيء الأكثر).  ليس المقصود هنا توجيه الشك لحقائق بعينها، إنما مسائلة أخلاقية و تاريخية لما خفي تحت السطح من أبنية تسلطية.  يبدو هذا النوع من التفكير النقدي أسهل في التطبيق عند تدريس العلوم الإجتماعية و الإنسانيات، و لكنه يزداد صعوبة في التطبيق عند تدريس المواد المهنية كإدارة الأعمال، ثم صعوبة أكثر عند تدريس العلوم الطبيعية.  و لكن الأمر ليس مستحيلا.  يمكن للدراسات الهندسية، على سبيل المثال، أن تتضمن اعتبارا للتبعات الإجتماعية و الإقتصادية و الأخلاقية للممارسات الهندسية.

المفهوم البديل الثاني للتفكير النقدي يأتي من أدبيات النقد النسوي، و بخاصة كتاب “طرق النساء في المعرفة” الذي كتبته ماري فيلد بلينكي و أعمال زملائها.  أظهرت أبحاث هؤلاء أن النساء (و بعض الرجال) يفضلن في اكتساب العلم أساليب مجتمعية وأقل تصادمية من الأساليب التربوية التي تقترن عادة بالتفكير النقدي كالتناظر. هذا التفضيل لأسبقية محاولة فهم “الآخر” على محاولة نقده يجد صداه في فكر إدوارد سعيد عن ممارسة التفسير النصي (محاولة فهم النص من وجهة نظر الكاتب قبل القيام بالنقد).  هذا الأسلوب في التفكير يفتح الآفاق الإدراكية للفرد و يمرن القدرة على الإحساس بالآخرين بشكل غير موجود في الفهم التقليدي للتفكير النقدي، حيث الأسبقية للمنطق و العقلانية الحسابية.

أري أن الأمور في مصر الآن تقع في أحد جانبين: إما تشككا كاملا يغض النظر عن الدلائل (بل و أحيانا يختلق الدلائل)، أو ثقة كاملة عمياء (كمظاهرات ٢٦ يوليو، التي خرجت استجابة لخطاب الفريق السيسي).  كما كان هناك غياب واسع للتعاطف مع آثار عزل مرسي علي أنصاره الكثيرين.  إن الشكل الذي يقسم به المصريون أنفسهم،  و الحماس الذي يمارسون به هذا التقسيم، يجعل من فرص المصالحة و إقامة مجتمع تعددي في المستقبل صعبة أو مستحيلة.

ينبغي على المصريين أن يبنوا مفهومهم الخاص للمواطنة النقدية بشكل لا ينقل ببساطة عن الأخرين بل يعتمد على التأمل في، و الحوار مع، السياق المحلي و متغيراته، مع الانتباه لاعتبارات العدالة الإجتماعية و التعاطف مع “الآخر” التي نحتاجها في مصر اليوم.  معظم من أعرف من الأكاديميين يعتبرون الجامعة من عوامل التغيير باتجاه العدالة الإجتماعية و يؤمنون أنفسهم بالعدالة الإجتماعية و التعاطف مع الأخر كأهداف.  و مع هذا أعتقد أن هذه القيم لا تصل بالضرورة للطلاب فيما يظل تركيزنا علي تنمية التفكير النقدي التقليدي.  لقد أظهرت أبحاثي ثلاثة وسائل تربوية يمكنها أن تزيد من جرعة قيم العدالة الإجتماعية و التعاطف مع الأخر و المبادرة الفاعلة فيما ندرسه.  أول هذه الوسائل هو العمل الأهلي اللاسياسي من خلال أنشطة الخدمة الإجتماعية، و التي أكدت الأبحاث أنها تنشط التفاعل السياسي في الكبر.  ثاني هذه الوسائل التربوية هي أنشطة المحاكاة السياسية كبرنامج نموذج الأمم المتحدة (أو في فكرة اقترحها زميل،  برنامج نموذج الأحزاب المصرية) الذي يشجع الطلبة على استكشاف حلول في جو آمن.  و ثالث هذه الوسائل هو الحوار عبر الثقافات لتوسيع  القدرة على فهم الأساس العاطفي لرؤى حياتية مختلفة.

إن دور التعليم العالي، فيما أرى، هو أن يساعد المجتمع على وزن الأمور خارج إطار النضال و العمل التعبوي، على أهمية هذا الإطار.  هناك حاجة ماسة لبناء مواطنين ناقدين قادرين على إيجاد صيغ للتفاوض بين مصالح متعددة و مشتبكة بشكل يصنع مستقبلا أفضل في عملية إبداع مشترك.

أدعو آخرين أن يشتركوا في هذا الحوار حول دور التعليم العالي في الوضع السياسي الحالي.  كيف تتصور دورك كأكاديمي؟  و كيف تتصور تأثير التعليم العالي؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى